الوحي ونقل المعرفة
(١) رواة القصص والقادة الشانكاريون: نقل التعاليم الهندوسية إلى الأجيال القادمة
يمكن رؤيته فيما بعد ظهيرة أي يوم، وهو يجلس مُتربِّعًا مُنتصِبَ الظهر على أرضية منزله الطينية الباردة، مُنهمِكًا في قراءة كتابٍ ضخم باللغة السنسكريتية موضوعٍ على حامل قراءة خشبيٍّ، أو يميل ناحية ضوء الشمس عند المدخل لقراءة مخطوطة قديمة مكتوبة على سعف النخيل. عندما يرغب الناس في سماع قصة بعد الانتهاء من أعمالهم الشاقة في الحقول، يتجمَّعون في صمتٍ أمام منزله، ولا سيما في الأمسيات التي ينشر فيها القمرُ ضياءه عبر نخيل جوز الهند … إنه شخص يعتمد بالكامل على نفسه، ويحفظ عن ظهر قلبٍ كلَّ مقاطع «رامايانا» البالغ عددها ٢٤ ألف مقطع، و«مهابهارتا» البالغ عددها ١٠٠ ألف مقطع، و«بهاجافاتا» البالغ عددها ١٨ ألف مقطع. وإذا فتح نسخة من النص السنسكريتي أمامه، فلا يكون ذلك إلَّا ليُثبت لجمهوره أن ما يرويه مُثبَت بالدليل.
البانديت (كما يُطلَق عليه) — رجل الدين — رجل بلغ من العمر أرذله ويواصل إحياء التقاليد التي يرجع تاريخها إلى ألف سنة من خلال عاداته وسلوكياته … لديه إيمان راسخ بصحة فيدا الذي بدأ في تعلُّمه وهو في السابعة من عمره. استغرق منه الأمر اثني عشر عامًا ليُتقِن تلاوته … حتى الأساطير والخرافات، التي تتضمنها بورانا، والتي يوجد منها ثماني عشرة أسطورة رئيسية، ما هي إلا صور للتعبير عن الحقائق الأخلاقية والروحانية المذكورة في فيدا. ويقول الراوي عادةً إنه «لا يمكن لأحد فهم مغزى أي قصة في أساطيرنا إلا إذا كان مُتبحِّرًا في فيدا.» ثمة ترابط وثيق بين كلِّ شيء.
يُجسِّد الراوي — في مجموعة القصص القصيرة «آلهة وشياطين وآخرون» لآر كيه نارايان — مفهومًا هندوسيًّا مُهِمًّا؛ ألَا وهو أن القصص المتوارَثة والحقائق التي تتضمنها جديرة بمواصلة إعادة روايتها. فيمثِّل هذا الراوي وسطًا أو قناةً لنقل المعرفة؛ إنه الشخص الذي يُقدِّم التعاليمَ الهندوسيةَ لجمهورٍ حاضِر من خلال روايته العلنية لها. عملُه عظيمٌ ومهمتُه مهمةٌ؛ وتتمثَّل في سرد القصص القديمة المذكورة في النصوص المقدسة، وإبهارِ جمهوره بقصصٍ عن راما وسيتا، ورادها وكريشنا، لِيُظهر ملاءمتها للحياة المعاصرة، ومواصلة مسيرة الرواية التي بدأها والده وجَدُّهُ. ويُجسِّد عملُه مفهومَ التقليد واستمرارَه من جيلٍ إلى آخر. وشأنه كشأن بعض المتخصصين الهندوس الآخرين، يبلِّغ ما تعلَّمه هو نفسه من قبلُ.
«سامبرادانا» هي الكلمة السنسكريتية التي تُعبِّر عن هذا الأمر، وتعني «العطاء» أو «التعليم». وثمة مصطلح آخَر مرتبط بهذه الكلمة، وهو «سامبرادايا»؛ أي التقليد الشفهي، ويُستخدَم بوجهٍ عامٍّ للإشارة إلى كيانٍ متمركز حول معلِّم رُوحانيٍّ (جورو) تُنقَل عبرَه التقاليد اللاهوتية والطقسية إلى الأجيال التالية، وتُصان من جيلٍ إلى آخر. ويوجد العديد من أنواع السامبرادايا في الهندوسية المعاصرة، بعضها سنتعرَّف عليه بمزيد من التفصيل في الفصل التالي، وهي التي ترتبط بالمعلِّمين الروحيين الأوائل عن طريق النسب أو سلسلة من التلاميذ. ومن الأمثلة على ذلك السامبرادايا الذي أسسه أحد المعلِّمين الروحيين في القرن التاسع، واسمه شانكارا، والذي لا يزال مستمرًّا إلى الآن في العديد من الأديرة الهندوسية في أنحاء مختلفة من الهند. وتُعَد هذه الأديرة أماكن رائعة للتعلُّم؛ حيث يتعلم فيها الرهبان اللغةَ السنسكريتية والفلسفةَ، كما يذهب الهندوس العاديُّون لزيارتها للعبادة والْتِماس النصح من المعلم الروحاني، ويرأس هذه المؤسسات قاماتٌ دينية معروفة يُعرفون باسم القادة الشانكاريين (شانكارا أتشاريا) (كلمة «أتشاريا» تعني «زعيمًا» أو «سيدًا»). وقبل ارتداء هؤلاء لعباءة السلطة الدينية، يتلقَّون تدريبًا تقليديًّا يتلقَّاه العديد من الصبية البرهميين، وهو التدريب الذي يتعلَّمون فيه تلاوة نصوص فيدا. وفي مرحلة الشباب، يتعلَّمون أيضًا على يد معلِّميهم الروحانيين تعاليم السامبرادايا. وعندما يقع عليهم الاختيار ليكونوا قادةَ المستقبل، يرتحلون لعدة أعوام بمفردهم بوصفهم معلِّمين روحانيين، يقدِّمون النصائحَ الروحانية للناس ويساعدونهم على أداء واجباتهم الدينية. وهكذا يصبحون مؤهلين لأداء دورهم الديني وتحمل مسئولياته. ويُشتَهر هؤلاء الأشخاص بشخصياتهم الجذَّابة وحكمتهم ووَرَعِهم، لكنهم أيضًا حاملو تقليد شانكارا العظيم، يساعدون على نقل تعاليمه عبر الأجيال.
القادة الشانكاريون كهنة برهميون، ومعلِّمون روحانيون أيضًا. ومن خلال هاتين الصفتين، يؤدون الوظيفة المهمة المتمثِّلة في نقل المعرفة. وعلى الرغم من أن هذين الدورين يجتمعان في القائد الشانكاري وفي بعض المعلِّمين المهمِّين الآخرين، فلا يكون هكذا الحال دائمًا. فقد يأتي المعلمون الروحانيون من أي طائفة، والكهنة البرهميون لا يكونون بالضرورة مرشدين روحانيين، وإن كان الكثيرون منهم كذلك. وما ينقله الكهنة البرهميون والمعلِّمون الروحانيون، وكيفية فعلهم ذلك، قد يكون مختلفًا تمامًا، وهذا ما سنتعرَّف عليه في السطور التالية.
(٢) شروتي وسمريتي: الوحي والنقل
لقد أشرتُ في الفصل السابق إلى مفهوم «شروتي» المهم، ويعني «الموحَى به». ويشير إلى تجلِّي الإله في العالم، ولا سيما الحقائق التي أُوحيَ بها إلى الحكماء (ريشي) الأوائل، والتي جُمِعت بعد ذلك في صورة نصوص مقدسة. وثمة آراء مختلفة بين الهندوس بشأن ما يُعتبَر «شروتي» من النصوص المقدسة وما يدخل في الفئة الأخرى المهمة من النصوص الدينية، ألَا وهي فئة «سمريتي»؛ أي «المُتذكَّر» أو «المنقول». وتقوم النصوص السمريتي على الحقيقة الموحَى بها، لكن يقوم بَشَرٌ بصياغتها. ويصنِّف الإطار التالي النصوصَ الدينية الهندوسية القديمة وَفْقَ هاتين الفئتين.
ينتمي «فيدا» و«أوبانيشاد» لفئة نصوص الشروتي، ويُقال إن مصدرهما هو الوحي الإلهي. أما «الملاحم»، و«البورانا»، و«السوترات»، فيُقال إن الحكماء قد دَرَسوها وذكرها تلاميذهم (سمريتي). ويحتوي «فيدا» على روايات عن الخلق، ومعلومات عن طقوس تقديم القرابين، وصلوات للآلهة. و«ريج فيدا»، أقدم نصوص «فيدا»، عبارة عن مجموعة من الترانيم للآلهة. وكان أجني، الإله المرتبط بالنار والتضحية، أحد أشهر الآلهة. وبوصفه إلهَ النار، كان يُصلِّي له الناسُ باعتباره إلهًا يمكن الوصول إليه وبإمكانه جلب النور. وكان يُدعَى بالرسول؛ أي الشخص الذي يصل بين البشرية والآلهة الأخرى. وفيما يلي ترنيمةُ ابتهالٍ له:
أُصلِّي لأجني، كاهن الأسرة، إله التضحية، مَن يُنشِد ويبتهل ويجلب أعظم الكنوز. صلَّى لأجني الحكماءُ القُدَامى، وحكماءُ الحاضر أيضًا؛ إنه مَن يجلب الآلهة إلى هنا. عن طريق أجني، يمكن للمرء جَنْيُ الثروة والنمو من يومٍ لآخر، وهو يَنْعَم بالعظمة ويحفل بالكثير من الأبناء الأبطال. أجني، يا مَن تحيط بك القرابين من كلِّ جانب، أنت الوحيد الذي يمكنه الوصول للآلهة. أجني، أيها الكاهن الذي يتمتَّع برؤية الشاعر الثاقبة، الحق البصير، الإله الذي يأتي بالآلهة. أيًّا ما كان الخير الذي تتمنَّى فعله يا أجني لمَن يعبدك، سيتحقق من خلالك. لك يا أجني، يا مَن يضيء له الظلام، نأتي يومًا بعد يوم، جالبين أفكارنا وولاءنا لك، يا ملك التضحيات، يا حامي الجماعة الأمين، التي تزدهر في كنَفك. فلتُنعِمْ علينا بالتقرُّب إليك، كالأب وولده. ابقَ معنا يا أجني؛ لكي ننعم بالسعادة.
هناك اتفاق بين الكثير من الهندوس على مكانة «فيدا» وهيمنته على النصوص الأخرى، لكنَّ عددًا قليلًا منهم فقط تسنَّى له قراءته، وإن كانوا يستمعون جميعًا إلى أجزاء منه، وهي تُنشَد باللغة السنسكريتية في أثناء المناسبات المهمة. وأشهر النصوص، التي يعرفها الهنود عادةً معرفة جيدة، هي «مهابهارتا» و«رامايانا» (انظر الفصل الرابع). تحتوي «مهابهارتا» على «أنشودة الرب» (بهاجافاد جيتا)، وهي الأنشودة التي يُعلِّم فيها كريشنا المحارب أرجونا أهميةَ أداء الواجب وكيفية التحرر من العذاب والميلاد المتكرر. ونظرًا لِكَمِّ العشق الذي تَحظَى به «الملاحم»، يُشار إليها أحيانًا بالفيدا الخامسة، وأن مصدرها هو الوحي الإلهي.
النصوص الهندوسية المقدسة الأساسية
يوجد ثلاثة أنواع أخرى من نصوص شروتي؛ وهي: «براهمانا»، و«أرانياكا»، و«أوبانيشاد»، والأخيرة هي الأكثر أهمية.
ويُرجِع الباحثون تاريخ النصوص المقدسة الشروتي عادةً إلى الفترة ما بين عامَي ١٥٠٠ و٣٠٠ قبل الميلاد، وكل هذه النصوص مكتوبة باللغة السنسكريتية.
تتسم الأنواع الأخرى من النصوص بالأهمية أيضًا، وتختلف المكانة التي تمنحها لها الجماعات المختلفة من الهندوس، فنصوص «تنترا»، التي يرجع تاريخها إلى القرنين الثامن والتاسع وتركِّز على الانضباط الروحاني والنشاط الطقسي واكتساب القوى السحرية وتتخذ عادةً شكلَ حوارٍ بين شيفا وديفي، تحظى بالتقدير في كشمير وبنغال ونيبال. وهذه النصوص مهمة للهندوسية التنترية المبتدَعة، التي لها عقائد وطقوس خاصة تختلف عن عقائد وطقوس البرهميين. وبترجمة هذه النصوص (التي تُعرَف أحيانًا باسم أجاماس) إلى اللغة التاميلية، صار لها الآن أيضًا استخدام شعائريٌّ بين براهمة جنوب الهند، الذين يعتبرونها تكملةً لنصوص فيدا. ويُعَدُّ الشعر التعبُّدي (بهاكتي)، المؤلَّف باللغات الهندية المحلية، شائعًا أيضًا. ومن الأمثلة البارزة عليه مجموعة الأناشيد التاميلية التي أنشدها للإله فيشنو الشاعر نامالفار الذي كان يعيش في القرن العاشر وينتمي لجنوب الهند. ونظرًا لأهمية هذه الأناشيد، يُشار إليها عادةً باسم «فيدا التاميلي».
وفقًا لراوي آر كيه نارايان، تَستَمِدُّ كلُّ أساطير الهند وقصصها أهميتَها ومكانتَها من «فيدا». ويتَّفق الكثير من الهندوس في هذا؛ إذ يرون نصوص «تنترا» والنصوص التعبدية اللاحقة مكملةً ﻟ «فيدا»؛ بينما يرى آخرون أن هذه النصوص تمثِّل تحديًا للديانة المعتمِدة على فيدا. لكن نظرًا للأهمية الكبرى لفيدا في إجازة العديد من النصوص المقدسة اللاحقة وفي المنهج البرهمي المحافظ، يَنظر إليها بعضُ المُعلِّقين على أنها الجانب المُعرِّف للهندوسية، وفي نصٍّ مهمٍّ حولَ الشريعة الهندوسية يرجع تاريخه إلى القرن الثاني قبل الميلاد، اسمه «مانوسمريتي»، يشير مؤلِّفه ويُدعى مانو إلى أن «فيدا» يجب عدم التشكيك فيه، وأن مَن يفعلون ذلك يَحِيدون عن الطريق القويم. ولقد أشار باحث أمريكي معاصر يُدعَى برايان كيه سميث إلى أن الهندوس هم مَن يستخدمون «فيدا» كمرجع أساسي في إقامة تقاليدهم والحفاظ عليها ونقلها للأجيال اللاحقة، وبهذا التعريف، لا يكون كلٌّ من البوذيين ولا الجاينيين ولا السيخ، الذين يُنكرون مكانةَ «فيدا» ودور البرهميين في نقله وتفسيره؛ هندوسًا.
(٣) البرهميون ونقل المعرفة الطقسية
على الرغم من أن مفهومَيْ «شروتي» و«سمريتي» يشيران إلى النصوص المقدسة، فإنهما مهمَّان أيضًا في فهم الشخصيات التي سبق ذكرها في هذا الفصل ودورها الديني. فالكَهَنة البرهميون والمعلِّمون الروحانيون ورواة القصص يعملون كوسائط أو قنوات — كلٌّ بأسلوبه المختلف — لتوصيل الحقيقة التي أُوحي بها في السابق، واحتُفِظ بها في الذاكرة، ونُقِلت شفهيًّا عبر التاريخ. فترانيم «فيدا»، التي سمعها وأنشدها الحكماء الأوائل، صارت مسئولية العائلات البرهمية التي تناقلتْها من جيل إلى جيل دون تغيير على مرِّ القرون (إلى مُتلقِّين من أمثال راوي نارايان). وفي آية شهيرة في «ريج فيدا» (١٠ : ٩٠)، عُرِّفت طبقة البرهميين بأنها فمُ الإنسان الكوني (بوروشا)؛ بينما صارت ذراعاه وفَخِذاه وقدماه الطبقات الأخرى بالمجتمع (فارنا)؛ ومِن ثَمَّ، ارتبط البرهميون في المجتمع الفيدي باللغة والتواصل، وبإنشاد الترانيم الفيدية والمانترا، وأخيرًا بالقوة المقدسة المتأصِّلة داخلهم.
براهمان، وبرهمن، وبراهمانا، وبراهما
في ظلِّ وجود تشابهٍ كبير في هجاء الكلمات السابقة، يسهل الخلط بينها فيما يتعلق باستخدامها ومعناها، وفيما يلي توضيح للفرق بينها:
عندما تحدَّث الحكَّام البريطانيون لأول مرة مع الكهنة البرهميون في الهند في القرن الثامن عشر، اندهشوا لاكتشافهم أن النصوص الفيدية المقدَّسة قد انتقلت من جيلٍ إلى جيلٍ بدقة بصورة شفهية — ولم تُتعَلَّم من نصوص مكتوبة — عن طريق عملية النقل القديمة؛ إذ تعلَّم الصبية البرهميون في مرحلة الطلب من حياتهم عن طريق محاكاة الكبار من بينهم. وحتى الآن، يتعلَّم بعضُ البرهميين الصغار تلاوةَ المانترا الفيدية بهذا الأسلوب التقليدي، على الرغم من أن الطباعةَ الحديثة والتعليم العلماني قد أدَّيَا إلى قراءة كثير من الناس للنصوص المقدسة بأساليب جديدة.
الفئات الاجتماعية الهندوسية
عُرِّفت الطبقات الاجتماعية الآرية الأربع التقليدية (فارنا) في «ريج فيدا» (١٠ : ٩٠) من خلال أجزاء جسم الإنسان الكوني (بوروشا)، وهي كالتالي:
• الفم: البرهميون (براهمانا).
• الذراعان: المحاربون (كشاتريا).
• الفخذان: عامة الناس (فايشيا).
• القدمان: الخَدَم (شودرا).
ورُتِّبت هذه الطبقات ترتيبًا هرميًّا. ووصِفت الطبقات الثلاث الأولى منها بأنها «مولودة مرتين»، مع منح الذكور المنتمين لها خيطًا مقدَّسًا في حفل تأهيل (أوبانايانا). وكان لا يُصرَّح لأحد بسماع «فيدا» سوى الذكور «المولودين مرتين» فقط. وأُضيفت على الأرجح طبقة شودرا للطبقات الأخرى لاستيعاب السكان المحليين غير الآريين.
وُصِفت أربع مراحل للحياة في النصوص الهندوسية المتأخرة، وإن لم يكن يُنظَر إليها في البداية كمراحل، وإنما كخيارات حياتية بديلة. ولم يَخُض هذه المراحل الأربع سوى الذكور «المولودين مرتين»، وهذه المراحل هي:
• الطالب (براهماتشاريا).
• الزوج (جريهاستا).
• ساكن الغابة (وانابرستا).
• الزاهد (سانياسا).
كانت الشابات بعد أن يقضين سنوات حياتهن الأولى في منازل آبائهن، يتزوجْنَ. وكان يُنظَر للزواج على أنه نسك التأهيل لهن للاضطلاع بواجبات الزوجة.
لكن هؤلاء البرهميين الذكور لا يُنشدون المانترا الفيدية للغرض منها في حدِّ ذاتها، وهو الإبقاء على الوحي الإلهي؛ وإنما يؤدُّون أيضًا طقوسًا للحفاظ على العالَم وعلى العلاقة بين البشرية والآلهة. ويرتبطون بالدارما، التي تُترجَم أحيانًا بالدِّين، لكنَّ الترجمة الأدق لها هي الحقيقة أو القانون أو الواجب أو الالتزام. وللدارما استخدام عامٌّ واستخدام شخصيٌّ. فيجب الحفاظ على تناغم العالم، ويلزم أيضًا الوفاء بدارما الفرد الشخصية. وعمل البرهمن يدعم هذين المتطلبين. ومن خلال أداء طقوس تضحية (ياجنا) مشابهة للطقوس المذكورة في فيدا، يقدِّم البرهميون قرابين للآلهة في النار المقدسة ويلتمسون منهم الحفاظ على العالم الطبيعي وإنزال العطاء على عبادها. بعد ذلك، يؤهِّل البرهميون الهندوس لأدوار جديدة في مناسك خاصة مرتبطة بدورة الحياة (سامسكارا)؛ فبإعطاء الخيط المقدس في طقس أوبانايانا، يمنح البرهميون صفةَ «المولود مرتين» للذكور الصغار. وفي الزواج، يربطون الزوجَ والزوجة معًا، ويُؤهِّلونهما لمرحلة الزواج في الحياة. وفي المناسك المتعلقة بالميلاد، يضمن البرهميون الدخولَ الصحيح للطفل المولود حديثًا إلى المجتمع، ويساعدون الأسرة في التخلُّص من الدنس الناجم عن الولادة. وأخيرًا، في المراسم المرتبطة بالموت، يُسهِّلون الانتقالَ السلس للروح، ويتأكَّدون من خدمة الأسلاف على النحو الصحيح.
فارنا – أشراما – دارما
على الرغم من أنَّ كلمة «دارما» لها العديدُ من المعاني المهمة، فهي تعني في هذا السياق الواجبات أو الالتزامات التي تقع على عاتق الفرد وفقًا للطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها ومرحلة الحياة التي يمرُّ بها، والرجال الذين لم «يولَدوا مرتين» ولا يتمتَّعون بإمكانية تحصيل التعليم الفيدي لا يُتوقَّع منهم اتِّباع مراحل الحياة ذاتها التي يتبعها مَن ينتمون للطبقات الأعلى. وكان يُشار لالتزامات السيدات المتزوجات، بوجهٍ عام، باسم «ستري-دارما»؛ أي واجبات الزوجة.
لا يشارك الكهنة البرهميون في التخلُّص من جثمان المتوفَّى؛ لأن هذه المهمة تُعتبَر دنسة للغاية لشخص يستمد جزءًا من سلطته من طهره الطقسي. توجد كذلك طقوس أخرى خارج نطاق عمل كهنة البرهمية، مثل الاسترضاء أو طرد الأرواح الشريرة. ويتولَّى مسئولية هذه المهام رجالُ الدين الذين ينتمون لطوائف أخرى لا تكون الطهارة بهذا القدر نفسه من الأهمية لديها. وقد يكون هؤلاء أيضًا قد ورثوا المعرفةَ والمانترا العملية الضرورية من الكبار في طوائفهم.
(٤) المُعلِّم الروحانيُّ ونقل المعرفة الروحانية
اهتمَّ المؤلِّف آر كيه نارايان اهتمامًا كبيرًا بالشخصيات الدينية، ووَضْعِها الاجتماعي، وجاذبيتها، وسُلْطتها. وفي كتاب «الدليل»، كتب نارايان عن سجين سابق اعتُقِدَ خطأً أنه رجل دين، وذلك عندما آوى إلى معبد بإحدى القرى بعد خروجه من السجن بيوم واحد. فوجد نفسه يقدِّم النصائح ويسرد قصصًا وعظيةً (تذكَّر سماعَها من أمه وهو صغير)، ثم صام ليُنهيَ القحط الذي هدد معيشة أهل هذه القرية. منحه الناسُ مكانةً جليلة، واعتبروه فوق الإغراء والضعف، وأنه قادر على التشفُّع لدى الإله، وأنه يتمتَّع بهبات روحانية تنشأ عن ممارساته التنسُّكيَّة. واعتقدوا أيضًا أنه حكيم ويعرف ما هو أفضل للناس. هذه بعض السمات التي ترتبط غالبًا بالمعلِّم الروحاني (الجورو)، ذلك الشخص الذي يمكنه تنويرُ الآخرين ومساعدتهم في تجاوز خطر الموت والميلاد المتكرر (سامسارا) للتحرر (موكشا).
النظام الطائفيُّ الهندي (جاتي)
من باب تحرِّي الدقة، تُعَدُّ الطبقة (فارنا) والطائفة (جاتي) كيانين اجتماعيين مختلفين، وإن كان يُعتقَد غالبًا أن الطوائف تتوافق مع الطبقات الأربع. «جاتي» — كلمة تعني الميلاد — هو نظام تقسيم اجتماعي منظَّم حسب الطُّهر النسبيِّ، مع اعتبار كَهَنة البرهمية في قمة هذا النظام، بينما توجد الطوائف الدنيا و«المنبوذون» (الذين يُعتبَرون أنجاسًا يُدنِّسون الطوائف «الأعلى») في قاعه. وعلى الرغم من أن النظام الطائفي هذا ليس قائمًا على الثروة، فإنَّ مَن يحتلون قمة هذا النظام هم الأكثر ثراءً، ولا شك أن مَن يحتلون القاع (المنبوذين) لا يملكون من الموارد سوى أقل القليل، وهم نادرًا ما يملكون الأراضي ولا يتمتعون بسلطة اقتصادية كبيرة.
يكتسب الهنودُ المكانةَ الطائفيةَ عن طريق ميلادهم في طائفة معينة؛ ويتزوَّجون عامةً شخصًا من الطائفة نفسها التي ينتمون إليها. وفي العصور السابقة، مثَّلت الطوائفُ جماعاتٍ مهنيةً أيضًا، لكنَّ التحضُّر والتصنيع أدَّيا إلى عمل الكثير من الناس في وظائف مختلفة تمامًا عن تلك التي ارتبطوا بها في السابق. ونظرًا للعلاقة بين الطهر والدنس والطائفة، يمكن لطائفة الفرد التأثير أيضًا على علاقاته الاجتماعية، خاصةً فيما يتعلَّق بالأشخاص الذين يُمكِنه الأكل معهم والمكان الذي يُمكنه العيش فيه. فالمنبوذون يُجبَرون عادةً على العيش خارج القرية، بعيدًا عمَّن ينتمون لطوائف أعلى منهم. ولقد جرَّم دستور الهند نبذَ الناس، وجعله جريمةً يُعاقَب عليها في خمسينيات القرن العشرين، لكن التغيير كان بطيئًا للغاية، ووضع المنبوذين في الهند لا يزال مرضًا اجتماعيًّا بحاجة لعلاج عاجل (انظر أيضًا الفصل السابع).
مَن يصلح لهذه المهمة؟ وهل تتطلَّبُ التدريبَ على اللغة السنسكريتية الذي يحصل عليه البرهمن أو المعرفةَ التي تكون لدى رواة القصص بالأساطير؟ يشير دليل نارايان إلى أن سرَّ سلطة المعلِّم الروحاني يكمن في الجاذبية الشخصية أكثر من التقليد الطائفيِّ، أو التدريب الرسميِّ، أو حتى الفضيلة، فبعض المعلِّمين الروحانيين لا يحصل على تعليم علماني أو فيدي. وبعضهم أُميٌّ، لكنهم جميعًا يملكون المعرفة التي اكتسبوها من خلال خبرتهم الروحانية، بالإضافة إلى تمتُّعهم بقدرة عميقة على استخدام هذه المعرفة بفعالية في مساعدة الآخرين.
وقد كانت أنانداماي ما من هذا النوع من المعلِّمين الروحانيين. ولِدت أنانداماي ما في قرية تقع فيما يُعَد الآن بنجلاديش عام ١٨٩٦. وعلى الرغم من أنها تزوجت وصارت ربَّة منزل، أصبحت ممارِسةً ومرشِدة روحانية للعديد من الناس. كانت مختلفة من عدة نواحٍ عن القادة الشانكاريين الذين عرضنا لهم سابقًا؛ لأنها لم تكن جزءًا من أي مؤسسة تقليدية. ولم يتمَّ تأهيلُها رسميًّا، ولم تحصل على تدريب أيضًا في شبابها على المسئوليات الدينية. وعلى الرغم من كوْنِها من أسرة برهمية، فلم تتلقَّ تعليمًا فيديًّا؛ لأنها امرأة، وتزوجت وهي في الثالثة عشرة من عمرها.
على مدار عدة سنوات بعد الاستقرار مع أسرة الزوج، كانت أنانداماي ما تنشد بانتظام أسماء الرب وتجلس للتأمل، وكانت في أغلب الأحيان تستغرق تمامًا فيما تفعله وتصبح غير مُدرِكة لما يحدث حولها، وعندما بلغت السادسة والعشرين، كانت لديها خبرة مذهلة في التأهيل الداخلي (ديكشا) الذي آمنتْ بأنها مُنِحت المانترا الخاصة بها فيه؛ أي الكلمة أو المقطع الذي يمكنها التأمل فيه. ولقد ذكرت لاحقًا معنًى عميقًا في هذا الشأن، وهو أنها أدركت أن المعلِّم الروحاني والتلميذَ والمانترا جميعهم شيء واحد، وليسوا منفصلين.
يحمل هذا الإدراك قدرًا كبيرًا من التشابه مع ما وصفه بعض الزهَّاد الهندوس الآخرين. وهو أيضًا ما عرَّفه الفلاسفة في تقليد شانكارا بأنه خبرة البراهمان؛ الحقيقة المطلقة الوحيدة التي تمثِّل في الوقت نفسه المبدأَ العامَّ والجانبَ الشخصيَّ أو الروحانيَّ لكلِّ شخصٍ (انظر الفصل الثالث). لكن أنانداماي ما لم تهتم بالتأمل أو الجدل الفلسفي، وإنما اهتمَّت بالوصول للحقيقة ومساعدة مَن يتلمَّسون منها العون. وشأنها شأن العديد من المعلِّمين الروحانيين الآخرين، سافرت كثيرًا، والْتَقت بتلاميذَ من كلِّ الطوائف وعبَّرت لهم عن ملاحظاتها. كانت تتحدث بعمليةٍ، مع الإشارة إلى العالم الطبيعي، والعلاقات، والحياة العادية. وكانت نصيحتها للناس بشأن تحقيق التقدم الروحاني بسيطةً ويسيرةً؛ فقد دعتْهم لتخصيص وقت محدَّد يُكرِّسون فيه أنفسَهم للحقيقة؛ وقتٍ يحاولون فيه الاعتدال في عاداتهم، ومساعدة الآخرين باعتبارهم تجلِّيات للإله، والسعي للسكينة. وشجَّعتْهم على أن يحذوا حذوها؛ أن ينشدوا أو يتأملوا ليدركوا تدريجيًّا طبيعتَهم الحقيقية.
نقلت أنانداماي ما المعرفةَ التي اكتسبتْها من خلال خبرتها الخاصة بالأسلوب نفسه تقريبًا الذي تتبعه الأمهات الهندوسيات عند تنشئتهنَّ أطفالهنَّ بحنان على الطقوس والقصص التي تناقلتْها الأجيال في أُسَرِهنَّ؛ لذا، لقَّبها الكثيرون، بما في ذلك أصحاب الديانات الأخرى، بلقب «ما»؛ أي الأم، لكنها كانت أيضًا طفولية شأنها شأن المعلِّمين الروحانيين الآخرين؛ فكانت تمرح في تجربتها الروحانية وتنقلها في ابتهاج للآخرين.
تمثِّل أنانداماي ما استمرارية تقليد يرجع إلى زمن «أوبانيشاد» أو ما قبله، وهو التقليد الذي يسعى فيه التلميذ من كلِّ قلبه إلى الحقيقة الروحية مسترشدًا بالذات الداخلية لينعم بالتنوير. ويُقال إن أنانداماي ما قد حَظِيَتْ بما يُعرَف باسم «جيفانموكتي»؛ أي التحرر في هذه الحياة. وصارت شخصيةً يبحث عنها الآخرون للحصول على الحكمة التي يمكنها نقلها. وفي الفصل التالي، سنتعرف على المزيد من المعلومات حول معنى هذه الذات الداخلية والحقيقة التي تكشفها في الهندوسية.