الهندوسية والاستعمار والحداثة
هذا جزء من قصيدة بعنوان «تحذيرات» كتبها «كبير»، وهو شاعر بهاكتي عاش في القرن الخامس عشر بشمال الهند في الوقت الذي كانت فيه تحت حكم مغول الهند وكان الإسلام دين الحُكام. وقد اعتنقتْ أسرتُه، التي كانت من طائفة النسَّاجين، الإسلامَ، لكن ذلك الاعتناق كان مسألة شكلية أكثر من كوْنها مسألة إيمانية. وشَعَرَ كبير، على الأقل، بالاشمئزاز من الممارسة الدينية الظاهرية لكلٍّ من المسلمين والهندوس. واعتقد بقوةٍ أن الإله — الذي هو في النهاية بلا شكل محدَّد — يتجلَّى في قلوب عباده. والممارسات الطقسية، والصور، والرموز، والمباني كلها أشياء غير ضرورية.
لم يكن كبير سوى واحد فقط من الشعراء الصوفيين الهنود الكثيرين الذين كتبوا بحبٍّ في تمجيد الإله، بينما انتقدوا صُوَر الظلم الاجتماعي والشكليَّات الدينية في الوقت نفسه؛ فبدءًا من القرن السادس الميلادي في جنوب الهند حتى القرن الثامن عشر في بنغال، ألقى الشعراءُ هذا النوعَ من الشعر وتغنَّوا به وكتبوه، مع تعبير بعضهم عن حبهم لفيشنو أو كريشنا، والبعض الآخر لشيفا أو ديفي، بينما عبَّر آخرون مثل كبير (وناناك، أول المعلمين الروحانيين السيخ) عن حبهم للإله الواحد الأعلى الذي لا يحمل اسمًا أو شكلًا. وقبل عصر كبير وتشيتانيا، تطوَّر دين الهندوس في ظل الحكم الأجنبي، أولًا في عهد سلطنة دلهي (١٢١١–١٥٢٦) وإمبراطورية مغول الهند (١٥٢٦–١٧٥٧)، ثم الراج البريطاني. ولقد اخترتُ كبير كمثال هنا؛ لأن كلماته توضِّح تأثير الدِّين الأصلي للهند ودين المستعمرين.
وفي قصيدة أخرى، يقول كبير: «أيها القديسون، إنني أرى العالم مجنونًا.» لقد آمن بأن الهندوس والمسلمين فقدوا رؤيتهم للحقيقة ولجئوا إلى أمور تافهة، بل وإلى العداء والعنف الدينيَّين أيضًا. لقد وصف موقفًا كان له أن يستمر إلى قرون بعد فترة الحكم الإسلامي عندما صارتِ المسيحية دين الحُكَّام بدلًا من الإسلام؛ فعلى الرغم من أن المغول والبريطانيين لم يفرضوا دينهم بالفعل على الهنود، كلاهما نظر بوجه عام لمعتقدات الهندوس وممارساتهم بعين الشك، ورأى دينه أعلى مكانةً. وكانت ثمة استثناءات لذلك؛ فعُرِف الإمبراطور المغولي أكبر — الذي ظهر في القرن السادس عشر — باهتمامه الشديد بالديانات الأخرى وتسامحه معها، كما أن الحكام البريطانيين في القرن الثامن عشر الذين درسوا النصوص الهندوسية المقدسة كونوا صورة إيجابية عن الدين في الهند القديمة.
في هذه المقدمة القصيرة عن الهندوسية، لا يمكن شرح التاريخ المُفصَّل للأحداث التي أحاطت بوجود العرب والترك، ثم الأوروبيين، في الهند (انظر الخط الزمني للاطلاع على أهم التواريخ). لكن الأهم هنا هو تأثير هذا الوجود على دين الهندوس، وهذا ما سننتقل إليه الآن، وبخاصة أثر الاستعمار البريطاني.
(١) الاكتشاف الأوروبي للهندوسية
تاجَر الأوروبيون مع الهند للحصول على التوابل والمنسوجات منذ زمن بعيد يعود إلى العصور الكلاسيكية والوسطى، لكن أشهر التجَّار الأوروبيين مع الهند على الأرجح هو البرتغالي فاسكو دا جاما، الذي وصل إلى ساحل مالابار في أواخر القرن الخامس عشر بحثًا عن «المسيحيين والتوابل». وهذان الدافعان مؤشر لما حدث بعد ذلك في القرون اللاحقة؛ فيرغب الأوروبيون برؤية الهند في صورتها المسيحية والحكم عليها وفقًا لذلك، بالإضافة إلى الاستفادة من ثرواتها المتمثلة في بضائعها وثقافتها.
تلا وصولَ البرتغاليين في القرنين السادس عشر والسابع عشر وصولُ الهولنديين والبريطانيين والفرنسيين، الذين أسَّسوا جميعُهم شركاتٍ تجاريةً في الهند. ومن بين هذه الشركات، كانت الشركة البريطانية هي التي عززت من مكانة البريطانيين التجارية والإدارية، وانتهى بها الأمر إلى السيطرة على الهند سياسيًّا. ومن قاعدة شركة الهند الشرقية البريطانية في مادراس، أمَّنت الشركة بنغال بقوة عسكرية عام ١٧٥٧، وعيَّنت وارين هاستينجز حاكمًا عامًّا في عام ١٧٧٢. ولقد شهدت فترة تولِّي هاستينجز لذلك المنصب تدخُّل الحكومة البريطانية في الشئون الهندية. ويتمُّ تذكره بوصفه حاكمًا، لكنه كان شخصية مهمة أيضًا لرعايته للدراسات السنسكريتية.
إن كل مثال يوضح لنا شخصيتهم الحقيقية (سكَّان الهند) لنتأمل فيها سيخلِّف لدينا انطباعًا بشعور أكثر نبلًا لحقوقهم الطبيعية، وسيعلِّمنا أن علينا تقديرهم وفقًا لمقياسنا. لكن هذه الأمثلة لا يمكن الحصول عليها إلا من خلال كتاباتهم؛ وهي الكتابات التي ستظل موجودة بعد انتهاء الحكم البريطاني في الهند، وبعد أن تذهب مواردها من الثروة والسلطة طي النسيان.
وفي الوقت الذي قُدِّمت فيه النصوص الهندوسية المقدسة لجمهور جديد على يد هؤلاء الباحثين — الذين عُرِفوا فيما بعدُ باسم «المستشرِقين» — قامت شخصية استثنائية بدراسة مختلفة تمامًا للديانة الهندية؛ فقد اجتهد الأب دوبوا — الذي أقام في مادراس وهضبة الدكن لا في بنغال، وكان يسوعيًّا فرنسيًّا لا حاكمًا بريطانيًّا — في جمع المعلومات لكتابة مخطوطة عن «السلوكيات والعادات والاحتفالات الهندوسية». وشأنه شأن هاستينجز وويلكينز وجونز، كان دوبوا مدركًا لجهل معظم الأوروبيين، وسعى لمعالجة ذلك بتقديم وصف إثنوجرافي مُفصَّل حصل عليه على مدار سنوات عديدة من المعرفة الوثيقة بالهندوس؛ فعاش كواحد منهم، وارتدى ملابسهم، وكسب ثقتهم. وكان حَذِرًا للغاية في تجنُّب «إظهار أي نفور» من سلوكياتهم. تُرجِمت مخطوطته إلى الإنجليزية (عام ١٨١٥)، وسرعان ما أصبحتْ مصدرًا للأوروبيين الحريصين على تكوين رأي بشأن الثقافة الدينية في الهند.
(٢) المسيحية والهندوسية الحديثة
زخر عمل الأب دوبوا بتفاصيل متنوعة حول الطوائف المجتمعية، ونمط الحياة البرهمي، والممارسات الدينية في الهندوسية بجنوب الهند، لكن غرضه لم يكن الإشادة وإنما إعلام الآخرين بواقع الأمر. وبصفته يسوعيًّا، كان توَّاقًا للترويج للمسيحية، وشعر بأن السبيل الوحيد لفعل ذلك هو اكتساب معرفة عميقة عن المجتمع الهندي وثقافته؛ فيقول: «لقد توصلتُ إلى أن الصورة الصادقة لخُبث تعدد الآلهة والوثنية وتنافرها ستساعد كثيرًا — من خلال قبحها في حد ذاته — على إبراز جوانب الجمال والكمال في المسيحية.» لكن مَن كانت لديهم قناعة إنجيلية أكثر قوة — مثل ويليام ويلبرفورس، صاحب الحملات المناهضة للعبودية — اختلف مع تلك الفكرة وفضَّل أن يقوم الحكم البريطاني في الهند بدور أكثر فعالية في تجريم مثل هذه الممارسات والترويج للمسيحية، لكن الكثيرين ممن كانوا في السلطة آنذاك تحفَّظوا على معاداة سكان البلاد وإثارة القلاقل المدنية.
وعلى الرغم من أن شركة الهند الشرقية لم تَرفع رسميًّا حظرها للنشاط التبشيري في أراضيها إلا عام ١٨١٣، فإن بعض المسحيين المتحمسين كانوا قد استقروا في الهند قبل ذلك الحين، ومن أبرزهم ويليام كاري، وهو معمدانيٌّ سافر إلى الهند عام ١٧٩٣. وبدون أي دعم أو رعاية رسمية، قضى عدة أعوام مع أسرته في فقر مُدقِع مرتحلًا في أنحاء بنغال قبل أن يؤسس إرسالية سيرامبور مع اثنين من التبشيريين الآخرين. وقد تعلَّم البنغالية والسنسكريتية، وترجم الكتاب المقدس إلى البنغالية عام ١٨٠٠. لكنه فشل فشلًا ذريعًا كداعية؛ إذ لم يعتنق المسيحية سوى عدد قليل للغاية من البنغاليين. وحتى في الحالات التي اعتنق فيها الهندوسُ المسيحيةَ بالفعل، لم يكونوا من البراهمة الذين طمح هؤلاء إلى هدايتهم، وإنما كانوا من الطوائف الدنيا والمنبوذين الضعفاء والمُستعبَدين.
يعد رام موهان روي (١٧٧٢–١٨٣٣) أحدَ كهنة البرهمية الهندوس المعروفين للتبشيريين في سيرامبور والذين تأثروا بهم؛ فبفضل إتقانه للفارسية والعربية واليونانية واللاتينية والإنجليزية إلى جانب البنغالية والسنسكريتية، ومعرفته بالإسلام والمسيحية إلى جانب ديانته الهندوسية؛ كان أول هندي يعلِّق في مؤلفات مطبوعة بالإنجليزية على البريطانيين وديانتهم ووضعهم في السياق الهندي. وبوصفه مُصلِحًا اجتماعيًّا، أثار غضب الهندوس المحافظين بكتاباته المناهضةِ للوثنية، وحرق الأرامل، وزواج الأطفال، والنظام الطائفي؛ والمؤيدةِ لتعليم النساء. وبوصفه هندوسيًّا يحمل أفكارًا جديدة، حصل على مدح ونقد من المسيحيين؛ فمُدِح لقراءته العهد الجديد، وتقديره لتعاليم يسوع الأخلاقية، وتعاطفه مع الموحِّدين، لكنه انتُقِد لعدم موافقته على أن يسوع ابن الرب. لم يقتصر حماس روي الإصلاحي على القضايا الاجتماعية فحسب، وإنما في عام ١٨٢٨، أسس جمعية تُعرف باسم «براهمو ساماج» مع أصدقاء يحملون الفكر نفسه من أجل الترويج للتوحيد العقلاني والأخلاقي الذي آمن بأنه متأصل في «أوبانيشاد» و«براهما سوترا». وقد كانت صور الآلهة والإلهات وعبادتهم محظورة في مقر الجمعية. وبالنظر إلى تلك الجمعية وكتابات رام موهان روي العديدة، يمكن رؤية تأثير كلٍّ من الإسلام والمسيحية، وكذلك فكرة اللاثنائية «أدفايتا فيدانتا»، على فكره. ومن الأمور المدهشة أيضًا بشأن هذا الرجل الأسلوبُ الذي نشر به أفكاره؛ فبوصفه هنديًّا معاصرًا، استخدم كل الوسائل الحديثة التي أُتيحَت له؛ فطبع كتيبات، وأنشأ صحفًا، وطالب بالحقوق المدنية.
(٣) الهندوسية في موقف الهجوم
استمرت النزعة الإصلاحية لجمعية براهمو ساماج، لا سيما من خلال الحملات التي قام بها رئيس لاحق لها يُدعَى كيشاب تشاندرا سين (١٨٣٨–١٨٨٤) الذي واصل العمل على قضايا المرأة من خلال المطالبة بزواج الأرامل. وقد طالبت شخصيات أخرى في القرن التاسع عشر بأمور مماثلة؛ فأكد داياناندا ساراسواتي (١٨٢٤–١٨٨٣)، الذي أسس حركة آريا ساماج عام ١٨٧٥، على الشراكة الدينية الفيدية بين الرجال والنساء وأهمية تعليم النساء. ورجع هو وغيره إلى المناقشات العظيمة في «أوبانيشاد» التي شاركت فيها النساء.
سوتي أم ساتي؟
أدان البريطانيون والفرنسيون السوتي (أي حرق الأرامل)، بوصفه عملًا غير إنساني. وأثارت روايات الرحَّالة انتباه أبناءِ جِلدتهم في أوروبا إلى أهوال ذلك العمل؛ فنجد النقش الموضَّح في كتاب بيجز التبشيري يعرض اثنين من الملاحظين الأوروبيين يشيحان بنظرهما بعيدًا عن المشهد وهنودًا متوحشين يلوحون بالسيوف ويزيدون النار اشتعالًا، بينما المرأة المُحتَرِقة تظهر في صورة ضحية سلبية تناشدهم لإنقاذ روحها.
لكن الساتي لم يُفهَم على هذا النحو من الهندوس الذين قَبِلوا به؛ فكلمة «ساتي» تعني، في الواقع، «امرأة صالحة»؛ أي زوجة مخلصة اختارت التغلب على الموت بأن تصبح إلهة أو «ساتي-ماتا». وعلى الرغم من أن حرق الأرامل لم يكن ممارسة واسعة الانتشار، فلا شك أنه تمَّ بالفعل على نحو منتظم إلى حدٍّ ما في بعض المناطق في شمال الهند في القرن الثامن عشر؛ حيث اعتُبِر خيارًا مناسبًا للنساء من الطوائف العليا اللاتي يموت أزواجهن قبلهن. لكن على الرغم من دعم الكثير من الهندوس المحافظين لهذه الممارسة، ازدراها آخرون وأبرزُهم رام موهان راي، الذي قام بحملات حثيثة لوقفها. أما البريطانيون، الذين خشوا من التدخل في الشئون الدينية الهندوسية، فكانوا حَذِرين، لكنهم في النهاية سنُّوا قانونًا لحظر حرق الأرامل عام ١٨٢٩.
بيد أنه ليس من السهل سَنُّ قوانين ضد المعتقدات والممارسات الشائعة، فاستمرت حالات إحراق الذات بين النساء، وفي عام ١٩٨٧ في قرية ديورالا في راجستان، لَقِيَتْ زوجة شابة تُدعَى روب كانوار مصرعها في محرقة جنازة زوجها، وصار الساتي مثارًا للجدل مرة أخرى. دافعت أسرة روب وأهل القرية والعديد من الزعماء الهندوس عما حدث، فقالوا إنها فعلت ذلك بمحض إرادتها، لكن الكثير من النساء في الهند تساءل: «هل من امرأة تختار الموت بهذا الشكل؟» هل يمكن أن يكون ذلك خيار روب الحر فعلًا؟ أم إن ثمة ضغوطًا مورِست عليها لتدخل إلى المحرقة؟ وزعم الهندوس المناصرون لمسألة حرق الأرامل أن مَن انتقدوا الحادث ليسوا سوى علمانيين تأثروا بالفكر الغربي؛ وأنكر الرافضون للساتي أنهم معادون للهندوس، مؤكدين على أنهم مستاءون فحسب من ممارسة مُجحِفة في حق النساء، وليس لها في الواقع أي حجة قوية مؤيِّدة لها في النصوص الهندوسية المقدسة.
لقد كان التركيز على ما كان يُطلَق عليه عادة «نهضة النساء» أحد جوانب توجُّه المستشرقين والمصلحين الهندوس لإحياء الماضي الآري. فانتهى الجدل، مثلما رأينا في الفصل الأول، إلى قبول فكرة أن ثمة حضارة عظيمة قديمة اندثرت تدريجيًّا على مر القرون بفعل الممارسات الدينية والتقاليد الاجتماعية الشائعة، مثل «الخرافات» و«عبادة الأوثان» و«تعدُّد الآلهة» و«النظام الاجتماعي الطائفي». وصار ذلك الجدل محور القضية القومية الهندوسية، وتكرر كثيرًا، ليس فقط على يد حركة آريا ساماج، وإنما أيضًا من جانب مؤسسي الحملات والحركات اللاحقين (وفي ذلك الحملات والحركات الناشطة حاليًّا). لكنه تعرض للنقد من جانب مَن شككوا في الدقة التاريخية للزعم بوجود عصر آري ذهبي، ورفضوا الشِّقاق الناجم عن تفضيل الآريين على كل الجماعات الدينية الأخرى.
لقد طغى تأثير الثقافة الغربية والقِيَم المسيحية على الكثير من المبادرات الهندوسية الحديثة في القرن التاسع عشر بنحو أو بآخر. وبما أن الزعماء الهندوس لم يؤيدوا تلك القِيَم تأييدًا إيجابيًّا، فقد كان لهم ردُّ فعْل مناهض لها؛ على سبيل المثال، أعادت حركة آريا ساماج الهندوس الذين ينتمون للطوائف الدنيا، الذين اعتنقوا المسيحية، إلى الهندوسية. وقام الكثير من الجماعات الجديدة بمحاكاة ممارسات المجتمعات البريطانية وهياكلها التنظيمية والإدارية، واستخدمت الكلمة المطبوعة مثل رام موهان روي كوسيلة لنشر أفكارها.
من الشخصيات التي كانت أقل تأثرًا بالوضع الاستعماري في الهند راماكريشنا (١٨٣٦–١٨٨٦). ولِد راماكريشنا في أسرة برهمية فقيرة، وصار كاهنًا للإلهة كالي في معبد داكشينسوار بالقرب من كلكتا. وأَسَّس علاقة قوية مع الأم العظيمة كالي التي رآها لاحقًا متجسِّدة في زوجته الشابة، سارادا. وقد خاض أيضًا رحلة روحانية داخلية تعلَّم فيها الفروع المعرفية التنترية، وجرَّب وحدانية رؤية الأدفايتا، واستمتع بحب كريشنا، واستكشف الروحانية المسيحية والإسلامية. وقد أَلْهَمَتْ أفكارُه المتعمِّقة وسلوكُه الصوفيُّ الكثيرَ من الناس، خاصةً ناريندراناث داتا (١٨٦٣–١٩٠٢) المتشكك الذي حصل على تعليم بريطاني، وقد كان ذلك التابع، الذي اتخذ لنفسه اسم فيفيكاناندا فيما بعد، هو الذي أعطى شكلًا أيديولوجيًّا ومؤسسيًّا لرؤية معلِّمه الروحاني. لكن سارادا ديفي كانت هي المحور الروحاني للعديد من أتباع زوجها، بوصفها تجسيدًا للإلهة كالي.
إنجازات فيفيكاناندا
الوصول إلى أفكار متعمِّقة حاسمة في كيب كومورين.
إرث سارادا ديفي
تأسست منظمة دينية نسائية — هي راماكريشنا سارادا مات آند ميشن — رسميًّا عام ١٩٥٤ على اسم سارادا ديفي. ويوجد لهذه المنظمة، التي لها نشاط أيضًا الآن في جنوب أفريقيا وأستراليا، نحو عشرين فرعًا في الهند؛ حيث يمكن للنساء الدراسة والعيش، وهي تقدِّم أيضًا تأهيلًا للنساء وفقًا للنذور التي يُجيزها تقليد القادة الشانكاريين المحافظين. وهذه المنظمة هي إحدى الحركات القليلة التي تمكِّن المرأة من نبذ العالم والتحوُّل إلى زاهدات (سانياسي).
(٤) من الهند إلى الغرب والعودة مرة أخرى
إن أهم إسهامات فيفيكانادا هو تعريف الغرب بالتعاليم الهندوسية المعاصرة، من أجل الغرب. فيرجع الفضل الأكبر، في الواقع، في تشكيل الفهم الغربي للهندوسية في فترةِ ما قبل سبعينيات القرن العشرين إلى فيفيكانادا، ويعكس هذا الفهم رؤية فيفيكانادا القائمة على فكرة الأحادية، التي أشار إليها عادةً باسم «فيدانتا». وقد ازداد عدد جمعيات الفيدانتا في المدن الأمريكية، وجذبت إليها الكثير من الناس الذين خذلتْهم المسيحية وكان لديهم اهتمام بتجريب أفكار فلسفية جديدة.
عند وصول فيفيكانادا إلى الغرب، كان لدى الكثير من الأمريكيين استعداد لتلقِّي رسالته. وفي الفترة ما بين أربعينيات وخمسينيات القرن التاسع عشر، عبَّر العديد من الشعراء عن أفكار اعتقدوا أنها مشابهة لتعاليم «أوبانيشاد» عن البراهمان؛ فنشر رالف والدو إميرسون وهنري ديفيد ثورو، اللذان تأثَّرا بترجمات المستشرق البريطاني ويليام جونز، مقالاتٍ عن النصوص الهندوسية المقدسة في مجلة تحمل اسم «ذا دايل». وعبَّر والت ويتمان في ديوانه «أوراق العشب» بأسلوب شعريٍّ عن فلسفةٍ قال البعض إنها مشابهة لتعاليم كريشنا في «بهاجافاد جيتا». وقد كان هؤلاء الشعراء المعتنقون للفلسفة المتعالية مثالًا نموذجيًّا للعديد من الناس ذوي النزعة الرومانسية الذين نظروا للهند وديانتها عن بُعْد؛ فتخيَّلوا أن الشرق هو كل ما ليس عليه الغرب: روحانيٌّ، أسطوريٌّ، حافل بالطقوس والرموز؛ غير ماديٍّ أو عقلانيٍّ أو علميٍّ. لقد كانوا باحثين روحانيين، مثل الشخصين اللذين شكَّلا بَعد ذلك الجمعيةَ الثيوصوفية في نيويورك عام ١٨٧٥؛ فأسست مدام هيلينا بلافاتسكي والكولونيل إتش إس أولكوت حركة ذات تعاليم مبهمة واهتمام بالفكر البوذي والهندوسي، لا سيما فكرتَي الكارما والتناسخ. وظلت الجمعية الثيوصوفية مشهورة في الغرب، لكنها نَقَلت رسالتَها أيضًا إلى الشرق لتستقر خارج مادراس عام ١٨٨٢. وقد روَّج مناصرو هذه الجمعية، وعلى رأسهم سيدة إنجليزية تُدعَى آني بيزنت (التي أصبحت فيما بعد زعيمة حزب المؤتمر الوطني الهندي)، لمآثر الهندوسية، ودافعوا عنها أمام نقد التبشيريين، وأثاروا الفخر بين الهندوس الهنود بتراثهم، ومن خلال فيفيكانادا والجمعية الثيوصوفية، نرى كيف عادت الأفكار عن الهندوسية، التي اختمرت في الغرب، إلى الهند لتؤثر على الهندوس فيها، وقد أشار الباحثون في مجال الهندوسية الحديثة إلى هذه العملية باسم «أثر البيتزا».
أثر البيتزا
انتقلت البيتزا — التي هي في الأصل نوع من الخبز المُسطَّح — مع المهاجرين الإيطاليين إلى أمريكا في القرن التاسع عشر، وتطوَّرت هناك إلى ما نعرفه اليوم: خبز مُسطَّح مغطًّى بالطماطم والجبن وأي شيء آخر قد يَرغَب فيه مَن يأكلها. والإيطاليون الناجحون، الذين عادوا إلى إيطاليا لزيارة عائلاتهم، أخذوا معهم البيتزا بصورتها الجديدة التي استوعبتْها إيطاليا فيما بعدُ قبل أن تصدِّرها إلى بقية العالَم بوصفها وصفة إيطالية أصيلة. ويُطلِق الباحث أجهاناندا بهاراتي على تصدير شيءٍ أو فكرةٍ أو رمزٍ ما، ونَقْله الثقافي ثم إعادة استيراده مرة أخرى وأثر ذلك؛ «أثر البيتزا».
لعل أوضح مثال على ذلك يمكن رؤيته في موهانداس كرمشاند غاندي (١٨٦٩–١٩٤٨). فغاندي هندوسي جوجاراتي نشأ على الثقافة الفايشنافية وتعرَّف على الأفكار الجاينية في منطقة ميلاده، وانتقل إلى لندن في ثمانينيات القرن التاسع عشر لدراسة القانون. وكان تركه للهند المقدسة وذهابه إلى أرض الأجانب خطوة مصيرية أُخرِج على إثرها من طائفة بانيا التجارية (وإنْ أُعيد تنصيبه شعائريًّا فيها لاحقًا). وما أنِ استقر في لندن حتى بحث عن الناس الذين قد يتشارك معهم بعضَ تقاليده الثقافية؛ أولئك أصحاب الفكر الحرِّ الذين كانوا يتبعون النظام الغذائي النباتي والثيوصوفية. وكان هؤلاء مَن قرأ معهم «بهاجافاد جيتا» للمرة الأولى، وكذلك كتاب «نور آسيا» للسير إدوين آرنولد (الذي يدور حول بوذا) والعهد الجديد، وبالأخص «عِظة على الجبل».
أثَّرت «بهاجافاد جيتا» على غاندي — الذي قرأها باللغة الإنجليزية — تأثيرًا عميقًا طوال حياته، وأَثْرَت فكْره حول الانفصال وكيفية التصرف (كارما يوجا) التي صارت مهمة في أعمال المقاومة السلمية التي قام بها ضد البريطانيين وفي حملته من أجل الحكم الذاتي للهند، لكن عودة غاندي لأصوله الروحانية لم تَخْلُ من التفكير النقدي؛ فقد قَبِل فئات الفارنا الاجتماعية الأربع، لكنه رفض النبذ؛ وأقرَّ بدور «سيتا» التقليدي للنساء، لكنه جادل من أجل حقوقهن. وكان حجر الأساس لمبادئه فلسفة الساتياجراها؛ أي الإصرار على الحق؛ وهي الفلسفة التي قام عليها عمله السياسي. والحق الوحيد الكامن في جوهر كل شيء ظَهَرَ في شكل قوة أخلاقية وسلمية من أجل الخير.
كان غاندي، شأنه شأن الهندوس المعاصرين الذي ذُكِروا في هذا الكتاب، ملتزمًا بالإصلاح الاجتماعي وإعادة تشكيل الهند الحديثة بالاعتماد على تقاليدها الروحانية القيِّمة. وقد طوَّر أيضًا من أفكاره وأعماله بوصفه أحد المُستعمَرين في ظل الحكم البريطاني؛ فحاكى أحيانًا الصور الغربية للهند والهندوسية، وقاومها أحيانًا أخرى، لكنه تأثر دائمًا بها. وتدعونا آراء الهندوس المعاصرين أمثال غاندي وصور المُعلِّقين الغربيين إلى مزيد من التفكير في طبيعة الهندوسية والأساليب العديدة التي مُورِسَت وفُهِمت بها، لكنْ قبل أن نفعل ذلك، يجب أن ندرس التحديات المعاصرة التي فُرِضت على الهندوسية من فئتين تتمحور حولَهما دعوات الإصلاح؛ ألَا وهما النساء والمنبوذون (الداليت)، وهو ما سنفعله في الفصل التالي.