تحدِّيات تواجهها الهندوسية: النساء والمنبوذون
في منتصف سبعينيات القرن العشرين ومنذ عام ١٩٨٠ حتى اغتيالها عام ١٩٨٤، كانت رئيسة وزراء الهند امرأةً، وهي أنديرا غاندي؛ وفي عام ١٩٩٧، أثناء كتابتي لهذا الكتاب، شَغَلَ أحد المنبوذين (الداليت)، هو كيه آر نارايانان، منصب رئيس الهند؛ فهل يشير اعتلاء هاتين الشخصيتين لهذين المنصبين أن النساء والمنبوذين قد حقَّقوا المساواة الآن مع الجماعات الأخرى في المجتمع الهندي؟ وبالعودة إلى الدِّين، هل يمكن لامرأة أو أحد المنبوذين العمل كقائد شانكاري (انظر الفصل الثاني)، وهو الذي يُعَد، على الأرجح، أعلى منصب ديني في الهندوسية المحافِظة؟
تثير هذه الأسئلة موضوعات مهمة بشأن التقاليد الاجتماعية والدينية في الهند. لكن هل هذه الموضوعات مرتبطة بعضها ببعض؟ هل الشئون الاجتماعية/السياسية منفصلة عن الشئون الدينية؟ وهل من المناسب عند التفكير في الهندوسية تجاهُل الشئون الاجتماعية/السياسية؟ سيتضح من خلال هذه المناقشة أن مثل هذا التمييز مصطنع وغير عملي؛ ففي الهند، مسائل الطوائف الاجتماعية والنوع ليست مجرد مسائل اجتماعية تتطلب ردَّ فعلٍ علمانيًّا؛ وإنما هي مسائل قائمة على أفكار دينية، وتتم المحافظة عليها من خلال التقاليد الطقسية والمؤسسات البرهمية. وطبيعة الهندوسية في حد ذاتها بوصفها دينًا — بل والدين في حد ذاته — تتعرض لتحدي العلاقة المتداخلة بين هذه المسائل، لكننا سنعود لتناول هذا الأمر في الفصل الأخير من هذا الكتاب، فيجب علينا أولًا دراسة ما يكمن وراء مسألتَي الطوائف الاجتماعية والنوع في الفكر الهندوسي، والمطالب المعاصرة لبطلَي هذه المسائل الرئيسيَّيْن؛ المنبوذين والنساء.
(١) الطائفة الاجتماعية والنوع: مَن يكون الهندوسي؟
لقد وصفتُ في فصول سابقة من هذا الكتاب الفارنا (الطبقة الاجتماعية) والجاتي (الطائفة الاجتماعية) وأهمية فكرة الدارما؛ أي النظام والواجب، ومعناها للجماعات الاجتماعية المختلفة. ومثلما أوضحتُ، كان «مانوسمريتي» أحد النصوص المهمة التي ناقشتْ هذه الموضوعات. وعلى الرغم من كتابة هذا النص مع وضع مصالح البراهمة في الاعتبار على نحو رئيسي، فقد ذكر النص جماعات أخرى، بما في ذلك مَن ينتمون لطائفة الشودرا (الخَدَم) الدنيا ومَن هم خارج نظام الفارنا ويُشار إليهم باسم «تشاندالا». وكان يُحظَر على هاتين الجماعتين — والنساء أيضًا — الاستماع إلى «فيدا»، وحُرِموا كذلك من التأهيل لحالة «المولود مرتين» (وارتداء الخيط المقدس). وقد ازدرى مانو طائفة التشاندالا، واصفًا إياهم بأنهم «طبَّاخو الكلاب» للدلالة على مكانتهم المتدنِّية ودنسهم، وحظر عليهم التمتع بأي ملكيات، وأرسلهم للعيشِ خارج القرية وأداءِ أكثر أعمالها مهانةً (الكنس، والعمل في الجلود، وإزالة الفضلات). وكان لمْس أحد هؤلاء الأشخاص يدنِّس مَن ينتمون لطائفة أعلى، ويستلزم تطهُّرًا طقسيًّا. وكان كهنة البرهمية — الأطهر بين الجميع — أكثر مَن يخافون من وجود طائفة التشاندالا، على الرغم من اعتمادهم عليهم في أداء المهام المسبِّبة للدنس؛ فكان يُنظَر إليهم على أنهم مهمون، لكن بعيدًا عن القرية وحياتها الاجتماعية والدينية.
كانت المرأة الحائض أيضًا دنسة، واستلزم لمْس أي كاهن برهمي لها الاغتسال. ويقول مانو إن نساء الطوائف العليا يجب أن يخضعن لحماية آبائهن وأزواجهن وبعد ذلك أبنائهن. ويجب ألَّا يستقللن أبدًا؛ وذلك بسبب ضعفهن وطبيعتهن المتقلِّبة والتبعات الاجتماعية للسماح لهن بالتصرف خارج إطار السلطة الذكورية. لكن يجب على الرجل تكريم زوجته، وإن كان عليه أيضًا التحكم فيها — بالقوة إن لزم الأمر — والمحافظة على تركيزها على القيام بالواجبات المنزلية. وكان حمل الأطفال — لا سيما الذكور — فضيلتها. والزوجة الصالحة يجب أن تَخدم زوجَها كما لو كان إلهًا، حتى وإن كان طالحًا، ويجب ألَّا تتركه، وألَّا تتزوج بعدَ وفاته. وفي عصر مانو، كان محظورًا على جميع النساء الاستماع إلى «فيدا»، وكنَّ محرومات أيضًا من فرصة الزهد في الدينا (سانياسا).
استهدفت تشريعات مانو السيدات اللاتي انتمَيْن لفئات المولودين مرتين، بينما كانت أقل أهمية بالتأكيد لمَن انتمَيْن لفئات أدنى. لكن الأعراف والتوقعات الناتجة عن هذه التشريعات (مثل الإذعان لرغبات الزوج وأسرته، وتحمُّل الإيذاء، وتفضيل الأبناء الذكور، وتقييد الحرية) تغلغلت في المجتمع الهندوسي، وأثَّرت على السلوك الذي شعرت كل النساء بأن عليهن اتباعه، ونظرة الآخرين لهن. لم تُهمَّش النساء بالقدر نفسه الذي تعرضت له طائفة التشاندالا، لكنهن لم يتمكنَّ من الوصول المباشر للنصوص المقدسة والمناصب الدينية، أو تحقيق تقدم روحانيٍّ وإقامة علاقة مع الإله.
إذا كانت هذه هي النظرية، فما حال الممارسة؟ لا يتوفر سوى عدد قليل من الروايات الوصفية للحياة الهندوسية في الهند قبل القرن التاسع عشر؛ لذا فنحن لا نعرف الكثير عن الخبرة الفعلية لهاتَيْن الفئتَيْن. لكنَّ ما نعرفه بالفعل هو أن حركة بهاكتي قد أتاحت لبعض الناس فرصة عظيمة للتعبير عن الذات. وأثبتت شاعرات من أمثال أنتال وأكاماهاديفي وميراباي، وشعراء من طوائف اجتماعية دنيا من أمثال كبير ورافيداس، صانع الجلود؛ أن حب الإله متاح لجميع الناس، بغضِّ النظر عن النوع أو الطائفة، وأنه يمكن التعبير عنه جهرًا بِلُغة المرء الأصلية. ونظرًا لمنع هاتين الفئتين من الاستماع ﻟ «فيدا» باللغة السنسكريتية، ومن الدخول في دين المولودين مرتين، فقد اكتشفتا طريقهما الروحانيَّ الخاص بهما، والمتمثل في إقامة علاقة وثيقة ومباشرة مع الإله.
لكن لم تشارك أعداد كبيرة من النساء والمنبوذين في التعبير عن آرائهم وصياغة المناقشات حول النوع والطائفة الاجتماعية إلا بحلول القرن العشرين.
(٢) الحركة النسائية
مثلما رأينا في الفصل السابق، كان وضع المرأة ومشكلة الطوائف الاجتماعية من المسائل المهمة في أجندة المستعمرين والمصلحين الهندوس المعاصرين؛ لأنه كان يُعتقَد أن هاتين المسألتين علامة على الانحدار الديني والاجتماعي في الهند. وبدءًا من ثمانينيات القرن التاسع عشر، ازدادت مشاركة سيدات من الطبقات الوسطى في الحياة المهنية وحركة الإصلاح، رغم أن هذا التقدم كان بطيئًا وصعبًا. وكانت من أكثر السيدات إخلاصًا لقضية المرأة في تلك الفترة بانديتا راماباي (١٨٥٨–١٩٢٢)، التي قامت بحملات شعبية من أجل تعليم الأرامل الصغار السِّنِّ، والْتِحاق النساء بكليات الطب، وتدريب المعلِّمات. وألَّفت كتابًا بعنوان «نساء الطوائف الهندوسية العليا» عام ١٨٨٧، وأسست مدرسة داخلية للأرامل الصغيرات عام ١٨٨٩. انحدرت أصول راماباي من أسرة برهمية، لكنَّ ما أصابها من خيبة أمل بسبب نقص الفُرَص المتاحة للنساء في حركة الإصلاح والنهضة الهندوسية ساهم في قرارها باعتناق المسيحية؛ الأمر الذي جعلها تُنبَذ من الهندوس البنغال. وانضمت إليها نساء أخريات في دعوتها لتعليم النساء، وكانت حجتهن أن النساء — بصفتهن «أمهات الأمة» — يجب أن يحصلن على تعليم مناسب، وتقول ساروجيني نايدو (١٨٧٩–١٩٢٦)، التي ستصبح بعد ذلك زعيمة للحركة النسائية ورئيسة لحزب المؤتمر الوطني الهندي، في هذا الشأن: «علِّموا نساءكم، وسوف تنهض الأمة بنفسها … فاليد التي تهز المَهْد هي اليد التي تحكم العالم.» وازداد انضمام النساء إلى الحركة القومية مع مطالبتهن بالتعليم، واستخدم كلٌّ من آني بيزنت وساروجيني نايدو الإلهات الهندوسيات والنساء المذكورات في الأساطير الهندوسية لتقديم نماذج يُحتذَى بها من النساء والتذكير بدورهن في الصراع السياسي.
واستمر النشاط السياسي هذا من عشرينيات القرن العشرين حتى استقلال الهند عام ١٩٤٧، وانضمَّتِ النساء في خلال تلك الفترة إلى الرجال في حملات للعصيان المدني نظَّمها غاندي في إطار سعْيِه لتحقيق الحكم الذاتي للهند. وناضلت النساء من أجل السماح لهن بالمشاركة في «مسيرة الملح» عام ١٩٣٠ للاعتراض على الضريبة التي فرضها البريطانيون على الملح، وتمَّ تنصيبهن آنذاك قائدات للعديد من المجموعات التي نُظِّمت لخرق قوانين الملح، ومقاطعة استخدام القماش الأجنبي، وتطوير الصناعات المنزلية، وتنظيم الإضرابات والمظاهرات. واعتُقِل الكثير من النساء لمشاركتهن في هذه الأعمال.
وما إنِ استقلتِ الهند حتى أصبح بإمكان النساء التركيز مرة أخرى على تحقيق المساواة بينهن وبين الرجال والحصول على حقوقهن، وكنَّ يأملْنَ أن تؤكد الحكومة الجديدة على هذه المسائل في الدستور، وفي قانون هندوسي جديد. وكُفِلت المساواة بالفعل في دستور عام ١٩٥٠، لكن آمال النساء في رفع سنِّ الرشد والزواج، وحق النساء في الطلاق، وإحداث تغييرات في قوانين الإرث والمهر؛ لم تتحقق في قانون هندوسي جديد (وإن كان بعضها قد طُرِح في قوانين منفصلة لاحقًا).
لكن الحملات من أجل الحصول على الحقوق لم تخرج عن نطاق العدد المحدود للأصوات النسائية المثقَّفة ذات الوعي السياسي إلى نطاق النساء العاديات إلَّا في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وذلك مع تزايد المبادرات في أنحاء الهند فيما يتعلق بالمهر وإساءة استخدامه، والعنف المنزلي، والاغتصاب، وحرق الأرامل، ومنح النساء حقوقهن الخاصة بالعمل، وإدخال تحسينات على قوانين الميراث، وحماية البيئة، وسنِّ قانون مدني عام. وبعد عدة محاولات باءت بالفشل، تأسس للمرة الأولى اتحاد لجميع نساء الهند عام ١٩١٧، لكن السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين شهدتا عصر الحركة النسائية من خلال تكوُّن جماعات في المدن والقرى لمعالجة المشكلات المحلية، واستعداد النساء من جميع الطبقات الاجتماعية والدينية للتحدث والعمل علنًا أمام الجميع. وأتاح كذلك تأسيسُ مجلة «مانوشي» عام ١٩٧٨ — وهي صحيفة موجَّهة للنساء وتُكتَب بأقلام نسائية (التي تشارك في تحريرها مادهو كيشوار وروث فانيتا) — الفرصةَ لإعادة النظر في وضع النساء وأدوارهن وصورهن ورؤاهن، وفي هذه المجلة — شأنها شأن الكثير من المبادرات الأخرى — عملَت النساء معًا، وهنَّ على وعي بمصالِحِهِنَّ المشتركة ونقاط بدئهن المختلفة أيضًا؛ فاحتجَجْنَ على ظهور النزعة الطائفية التي ازداد في إطارها الصراع بين الأجندات السياسية والدينية المختلفة للهندوس والمسلمين والسيخ، التي هدَّدت كذلك جهود الحركة النسائية الهادفة لتحقيق مكاسب لكل النساء بغض النظر عن خلفياتهن.
(٣) البنات والمهر وتحديد الجنس
حتى قبل تأليف «مانوسمريتي»، كان المجتمع الفيدي يخضع للهيمنة الذكورية مع ترؤس الرجال للأُسَر ووراثتهم للممتلكات. وكان دارما النساء هو إنجاب الذكور: «لتُنعِمْ بالإناث على أناس آخرين؛ أما هنا فأَنْعِمْ علينا بالذكور» («أثارفا فيدا»). هيمنت تلك الفكرة على العقول، مثلما يوضح دعاء هذه المرأة: «لتَنْعمْ بيوتنا بالكثير من زوجات الأبناء، والقليل من البنات؛ لتَنْعمِ العيون بالنظر إلى وجوه الأحفاد وأبناء الأحفاد من الذكور.» يؤكد الكثير أيضًا من سِيَر النساء الهنديات الذاتية على هذا الشعور بأن إنجاب الفتيات ليس بالأمر المُحبَّذ دائمًا. وكان يُنظَر عادةً للفشل في إنجاب الذكور على أنه عقاب لسوء سلوك في حياة سابقة أدَّى إلى عواقب تعيسة في الحياة الحالية. ولا يقتصر الأمر فحسب على أن الأبناء هم — حسب العرف — مَن يعيلون الأسرة ويؤدون الطقوس عند وفاة آبائهم، وإنما هم مَن يحققون الثراء للأسرة أيضًا عند زواجهم. أما البنات، فيستنزِفْنَ موارد الأسرة؛ إذ يَمنح آباؤهن المال والبضائع (المهر) للعريس وأسرتِه عند الزواج.
ولقد تمَّ حظر دفع المهور في قانون صدر عام ١٩٦١، لكن ما كان مقصورًا في السابق على مجتمعات الطوائف العليا صار الآن ممارسة واسعة الانتشار ومتنامية، مع ارتفاع تكاليف زواج البنات كل عام. وعلى الرغم من ادِّعاء الرجال والنساء معارضتهم لذلك، ما زال دفع المهور مستمرًّا. الأمر الأكثر إثارة للقلق هو إساءة معاملة الزوجات بسبب المهور؛ فيطالب الأزواجُ وأسرُهم في كثير من الأحيان بالمزيد من الأموال والبضائع بعد الزواج، ويُفرَض ذلك عادةً بالعنف. وتتزايد الوفيات؛ فتُقتَل الزوجات الشابات — عن طريق الحرق عادةً — كي يتمكن الزوج من الزواج مجددًا للحصول على مهر آخر. وتنتحر السيدات في كثير من الأحيان بسبب ما يتعرضْنَ له من اعتداء متواصل: «فتاة تموت بسبب تعرضها للحرق» (صحيفة «ذا هيندو»، عدد ١٦ فبراير ١٩٩٥)؛ «ربة منزل تُنهي حياتها بعد الاعتداء عليها بسبب المهر» (صحيفة «ذا ديكان هيرالد»، عدد ٢٠ نوفمبر ١٩٩٤).
أقام العديد من النساء والرجال حملات نشطة منذ نهاية سبعينيات القرن العشرين ضد المهر في الهند والبلاد الأخرى، ورفض بعض الأُسَر المشاركة في تقديم المهور أو أخذها، وهي الفكرة التي شجَّعها بعض الجماعات الدينية. وتمَّ تعديل قانون المهر في الهند عام ١٩٨٣، ودخل بعض المنتهِكين السجن منذ ذلك الحين، لكن التمييز بين حادث في المطبخ وجريمة قتل بسبب المهر كان صعبًا على الشرطة والمحاكم.
تخيل، إذن، التوتر الذي يُصيب الآباء الذين رُزِقوا بالبنات فقط. فإلى أيِّ مدًى ستزيد مبالغ المهور عليهم؟ وعندما تتزوج هؤلاء الفتيات، هل سيُصبِحْنَ ضحايا لمثل هذه الاعتداءات؟ في ظل هذه المخاوف، لا ريب أن اختيار جنس المولود يبدو أمرًا مغريًا. ويكون هذا الأمر ممكنًا للأزواج القادرين على تحمل تكاليف اختبار بزل السائل الأمنيوسي والإجهاض إنْ لزم الأمر، فنجد عبارة «زيادة عمليات الإجهاض مع تزايد اختبارات تحديد جنس الجنين» تحتل العنوان الرئيسي لصحيفة «ذا تايمز أوف إنديا» عام ١٩٨٦، وفي بومباي في العام نفسه أظهرت الأبحاث أنه قد تمَّ إجهاض ٨ آلاف جنين بعد هذا النوع من الاختبارات، وكانت جميعها إناثًا ما عدا حالة واحدة.
ما التحديات التي تفرضها هذه الانتهاكات لحقوق الإنسان على الهندوسية؟ هل تعالج الجماعات الهندوسية المعاصرة هذه الانتهاكات؟ وكيف تستجيب هذه الجماعات للانحيازِ للأبناء الذكور الضاربِ بجذوره في التقاليد الهندوسية؟ وإلى أيِّ مدًى تؤمن النساء الهندوسيات بأنه يمكن إصلاح دينهن ليقرَّ بقيمتهن ومصالحهن؟ هل قرر بعضهن، مثل بانديتا راماباي، أن الجماعات الهندوسية التقليدية والحديثة لا أمل فيها، ونظرنَ إلى بدائل روحانية أخرى، سواء في أديان أخرى أو في مبادرات روحانية جديدة؟
(٤) النبذ الاجتماعي ونشأة هوية الداليت
تنشر الصحف في الهند على نحو متكرر أخبارًا عن الجرائم التي تُرتكَب في حق الداليت (المنبوذين) (تزيد عن ١٠ آلاف خبر سنويًّا)، شأنها في ذلك شأن أخبار الاعتداءات التي تُمارَس في حق النساء. ويمثِّل مَن وصفتْهم الحكومة بأنهم «طوائف مُجدولة» وأسماهم غاندي بأبناء الإله «هاريجان»، إلى جانب أفراد القبائل الهندية؛ نحو خُمس السكان الهنود، ويعيش أغلبهم في قرى الهند بوصفهم عمَّالًا زراعيِّين لا يملكون الأراضي، ويرتبط الكثيرون منهم بالمنتمين للطوائف الأعلى. وعلى الرغم من عددهم، ومساواتهم مع الهنود الآخرين في الدستور، وقانون جرائم النبذ الاجتماعي لعام ١٩٥٥ الذي سُنَّ لحمايتهم، يقع هؤلاء الناس كثيرًا ضحية العنف والاغتصاب والقتل الفردي أو الجماعي، ولا يزالون يُحرَمون من حقوقهم (التعليم، ودخول المعابد، وحرية السكن، واستخدام الآبار). والسياسات الحكومية، التي حفظت لهؤلاء الناس أماكنهم في التعليم والخدمة الحكومية، أغضبت الهندوس المنتمين للطوائف العليا الذين لزم عليهم المنافسة للحصول على هذه الأماكن حسب الجدارة، وأسفر ذلك عادةً عن عنف واسع الانتشار.
أمبيدكار: ما السبيل للحرية؟
كان كلٌّ من الاعتراف القانوني والسياسي بالمنبوذين ومجموعة من الكتابات المستنيرة حول كل جوانب حالة النبذ الاجتماعي وتاريخها وثقافتها وسياساتها؛ الإرثَ الأساسيَّ للدكتور بي آر أمبيدكار (١٨٩١–١٩٥٦)، على عكس الإصلاحيين الذين عارضوا الطوائف المجتمعية، لكن شأنه شأن غاندي الذي طمح في حدوث ثورة أخلاقية داخل الهندوسية تُمكِّن المنبوذين من التمتُّع بالفُرَص الروحانية والاجتماعية التي يتمتع بها الهندوس الآخرون، كان أمبيدكار راديكاليًّا يريد رؤية التغيير في القانون. لقد كان منبوذًا بدوره، لكن ليس منبوذًا عاديًّا مقارنةً بغيره من المنبوذين في عصره؛ فبعد التعليم العالي في جامعة كولومبيا ونيويورك وكلية لندن للاقتصاد، عاد إلى الهند واشترك في الحياة السياسية القومية، وشارك في المفاوضات السابقة للاستقلال مع البريطانيين، وبعد عام ١٩٤٧، شَغَلَ منصبًا قياديًّا في لجنة صياغة الدستور.
انصبَّتِ اهتماماته على ما أسماه بالتغيُّر المادي والمعنوي للمنبوذين، فدفعه التغيُّر المادي إلى العمل من أجل تحقيق الديمقراطية الاجتماعية، وحصول العمَّال غير المالكين للأراضي على حقوقهم، وتجريم الانتهاكات التي تُرتكَب ضد المنبوذين. أما فيما يتعلق بالضغط لتحقيق التغيير المعنوي للمنبوذين، فقد حلَّل أمبيدكار في البداية مساهمة التعاليم الهندوسية في شقاء المنبوذين؛ فلم يجد مساواة في الهندوسية، ولا مجالًا للتقدم أو الحكم الذاتي، فيقول: «سأوضح الأمر على نحو دقيق؛ إن الدين موجود من أجل الإنسان، وليس الإنسان من أجل الدين، وللحصول على معاملة إنسانية، يجب أن تعتنقوا دينًا آخر … اعتنقوا دينًا آخر لتحصلوا على المساواة. اعتنقوا دينًا جديدًا لتحصلوا على الحرية … لماذا تبقَوْن في ذلك الدين الذي يمنعكم من الدخول إلى المعابد … ومِن شُرْب الماء من بئر عامَّة؟ لماذا تبقَوْن في ذلك الدين الذي يُهِينكم في كل خطوة تَخْطُونها؟!»
وبعد أن أعلن أمبيدكار عام ١٩٣٥ عن عزمه على ألَّا يموت هندوسيًّا، نبذ ذلك الرجل — الذي بلغ عددُ أتباعه نصفَ مليون — ماضيَه الديني وأعلن عن اعتناقه البوذية عام ١٩٥٦؛ ومِن ثَم قدَّم للمنبوذين هوية دينية جديدة؛ هوية قبلت بوجود العذاب، لكنها أوضحتِ السبيل إلى إيقافه عن طريق الجهد الفردي.
تُعَد أقليةُ المنبوذين ذاتُ العدد الكبير — شأنها شأن النساء — جماعةً غير متجانسة؛ فهي مقسَّمة حسب الطائفة واللغة. وقد صعَّبت هذه الاختلافات الداخلية العمل المشترك بين أفرادها، لكن بحلول السبعينيات من القرن العشرين كانت ثمة هوية جديدة ومنفصلة تبدأ في الظهور بفضل أنشطة الكُتَّاب والجماعات الشعبية الصغيرة بجميع أنحاء الهند. ركَّز هؤلاء الناس على وضْعهم العام بوصفهم «داليت»؛ أي أشخاصًا «كُسِروا» و«تشرذموا» و«قُهِروا». ومن خلال المؤلَّفات والأعمال الاحتجاجية، والصحف والمجلات مثل «ذا داليت فويس»، وأعمال المقاومة المحلية، وتدخلات أعضاء البرلمان المنتمين للطوائف المجدولة في الحوار السياسي؛ بدأ المنبوذون وأفراد القبائل الهندية العمل معًا ومحاولة توصيل أصواتهم. ودعاهم زعماؤهم إلى اعتناق الإنسانوية العلمانية بوصفها عقيدة أخلاقية تقوم على الخير الحالي للإنسانية، وإلى رفض القوانين والواجبات المقسِّمة القائمة على التسلسل الهرمي والمرتبطة بالهندوسية المحافِظة والتركيز الأخروي للدين بوجه عام. لقد كان تفكير المنبوذين «مناهضًا للثقافة السائدة»، والهدف منه هو المطالبة بتاريخ وهوية بديلين لا يرتبطان بأيديولوجية الهندوسية البرهمية السائدة، لكن يمكنهما تقديم سبيل للوصول إلى مستقبل أكثر عدالةً وانفتاحًا. ومثلما كتب الشاعر الجوجاراتي المنبوذ، نيراف باتيل، في قصيدته «الاحتراق على كلا الجانبين»:
(٥) الدين والاحتجاج
تحوَّلَ الكثير من الناس في حركات المنبوذين والحركات النسائية المعاصرة من الحلول الهندوسية إلى الحلول العلمانية أملًا منهم في تحقيق المساواة والعدل. وكانت ثمة آمال عريضة، بعد استقلال الهند، في أن تُحدِث حكومة الهند العلمانية تغييرًا في وضع كلتا هاتين الفئتين عن طريق القانون، لكن ذلك التغيير كان بطيئًا على نحو مُحبِط. وحتى عند سَنِّ قوانين جديدة، اتضحت صعوبة فرض تنفيذها في مواجهة مكانة التقاليد الدينية والاجتماعية وقوة المصالح.
لكن العلمانية لم تكن الملاذ الوحيد للجماعات المقهورة؛ فمثلما رأينا، في العصور التي لم تكن فيها العلمانية خيارًا بعدُ، رأتِ النساء وأفراد الطوائف الدنيا أن البهاكتي يمنحهم احترام الذات ويتيح لهم فرصة للتحرر. وقد كانت حركات التنترا والشايفا أكثر استيعابًا للأفراد من حركات الفايشنافا، لا سيما في الجنوب؛ حيث كانت معارضة المنهج المحافِظ البرهمي في أقوى صورها. وكانت للديانات غير المحلية جاذبيتها أيضًا، خاصةً لمَن ينتمون للطوائف الدنيا؛ فاعتنقت أسرة الشاعر كبير الإسلامَ، مثلما رأينا في الفصل السادس، وفي القرن التاسع عشر، استجاب بعض المنبوذين لضغوط الإرساليات المسيحية (الأمر الذي أثار رِدَّة فعل قوية من جانب حركات إحياء الدين الهندوسية التي بدأت حملاتها الخاصة للتواصل مع الطوائف الدنيا). وفي العصر الحالي أيضًا، نحو ٨٠ في المائة من مسيحيِّي الهند من الجماعات المنبوذة.
لقد كان اعتناقُ هوية دينية جديدة تقدِّم المساواة والحرية، والتنصلُ من الهوية القديمة بكل ما تحمله من صور الظلم المتأصل فيها؛ استراتيجيةً مهمةً للمنبوذين؛ فسار بعضهم على خُطا أمبيدكار باعتناق البوذية، بينما صار آخرون من السيخ، لكن هذه الأديان الأخرى لم تُلَبِّ دائمًا احتياجاتهم تلبية مرضية؛ على سبيل المثال، كان يُطلَق على مَن يعتنقون السيخية اسم «مذهبي سيخ»، ويتمُّ التفريق بينهم بوضوح وبين السيخ الذين ينتمون للطوائف الأعلى؛ ومن ثَم، بدأ المنبوذون في إنشاء مجتمعات دينية خاصة بهم، واتَّخذوا شخصياتٍ ورموزًا دينيةً يعتقدون أن بإمكانها التأكيد على إنسانيتهم وتحريرهم من القهر كمرجعية لهم، فربطت جماعات مختلفة من المنبوذين البنجاب أنفسَهم بفالميكي (الراوي الشهير لملحمة «رامايانا»)، ووقَّرت رافيداس (الشاعر البهاكتي المنبوذ)، وقامت المنظمات الدينية حولهم.
لم يكن قلب الرموز والتقاليد الهندوسية باعتباره نوعًا من الاحتجاج بالأمر الجديد؛ فعلى مدار قرون في جنوب الهند، أثبت مَن لا ينتمون للطوائف العليا هويتهم الطائفية الدنيا الدرافيدية الهدَّامة عن طريق رواية قصة ملحمة «رامايانا» بجعل رافانا بطلًا وراما (الذي يمثِّل نظرة البراهمة للعالم في شمال الهند) شريرًا. للنساء الريفيات أيضًا، كما رأينا في الفصل الرابع، روايتهن الخاصة للقصة، التي تُناقِض الروايات الأكثر تقليدية.
لكن احتجاج المرأة الديني اختلف عادةً عن احتجاج المنبوذين بسبب وضعهن داخل المجتمع الهندوسي، لا سيما داخل الأسرة؛ فهن ينفصلن بعضهن عن بعض حسب وضعهن كبنات أو زوجات أبناء أو أمهات أو حموات. لكن الأغاني التي يُنْشِدْنَها والقصص التي يروينها داخل الأسرة تُتِيح لهنَّ عادةً مساحة لتغيير الوضع الراهن، والشكوى، والسخرية. وفي الطقوس التي يمارسْنَها، والتي لا تتطلب وجود أحد كهنة البرهمية، تكون النساء هن المرجعية.
إن تلك الحركات الهندوسية الحديثة، التي أسستْها نساء من أجل المطالبة بحقوق النساء — مثل المنظمة التي تأسست تخليدًا لذكرى سارادا ديفي — اعترضت في الغالب على وضع المرأة في الأسرة الهندوسية عن طريق تشجيع النساء على ترك الأسرة والعيش بوصفهن طالبات أو زاهدات، وما يُعرَف الآن بحركة براهما كوماري، التي أسسها رجل يُدعَى دادا ليكراج في الثلاثينيات من القرن العشرين، تعرضت لصدام مع أُسَر أوليات النساء اللاتي انضممن إليها؛ لأن تلك الحركة شجَّعت على العِفَّة والحب العذري. ولا تعترض الحركة علانيةً على الاعتداء الجنسي والبدني الذي تتعرض له النساء داخل الأُسَر، لكنها تقدم بديلًا، ساعية من أجل إحداث تغيير تدريجي في العلاقات الأسرية عن طريق اليوجا والإقلاع عن الكحوليات والجنس.
توضح هذه الأمثلة أن الاحتجاج الديني من جانب النساء والمنبوذين قد اتخذ صورًا عديدة؛ بدءًا من الْتِماس بدائل دينية وعلمانية، إلى البقاء داخل إطار عام هندوسيٍّ، مع السعي في الوقت نفسه لاسترجاع رموز الهندوسية، أو الهجوم على هياكلها، أو تغيير تقاليدها. وبالعودة إلى السؤال الذي طُرِح في بداية هذا الفصل، لا يزال من المستبعَد قبول امرأة أو أحد المنبوذين لأداء دور قائد شانكاري في المستقبل القريب، لكن لا شك أن ثمة عملًا قائمًا على حلِّ مسألة المساواة المادية والمعنوية، ليس فقط من جانب النساء والمنبوذين أنفسهم، وإنما من جانب المؤسسات الدينية الهندوسية العامة أيضًا. لكن ذلك يثير سؤالًا صعبًا عن الدارما الهندوسية على النحو الذي تظهر به في النصوص التقليدية، مثل «مانوسمريتي». هل يمكن تحقيق هذه المساواة دون إحداث تغييرٍ جذريٍّ في التعاليم الهندوسية المتعلِّقة بالطُّهر والدنس، وبطبيعة النساء والمنبوذين وواجباتهم؟ سوف نعود إلى هذا السؤال حول الدارما الهندوسية في الفصل الأخير من هذا الكتاب، لكننا سنتناول في الفصل القادم تحدِّيًا آخر تواجهه الهوية الهندوسية؛ ألَا وهو انتقال الهندوسية إلى خارج الهند.