محاضرة لم تتم
كان المقر السري للشياطين اﻟ «١٣» مضاءً كله من الداخل … وقد أخذت السيارات السريعة التي تُشبه القذائف تصل تباعًا … تحمل الشياطين في أوَّل زيارة لهم للمقر بعد سنة كاملة من خروجهم منه … حقَّقوا فيها انتصارات مذهلةً على أعتى العصابات … وأخطر المجرمين … وحصلوا على أدق الأسرار التي تهم البلاد العربية … وكانوا في كل ما فعلوا موضع إعجاب قائدهم الخفي رقم «صفر»؛ هذا الرجل المحاط بالسرية والغموض، والذي لا يعرف حقيقته أحد.
وأخذت الأضواء الحمراء تظهر وتختفي في قلب الجبل، حيث المقر السري في مكان مجهول من إحدى الصحراوات العربية قرب الشاطئ … ثم تنطفئ الأنوار سريعًا وتُضاء الأنوار الزرقاء والخضراء.
ورغم أن شخصيات الشياطين اﻟ «١٣» كانت معروفةً تمامًا للعاملين في الكهف السري (ك.س)، إلا أنهم كانوا لمزيدٍ من الحرص والسرِّية يُطلقون الأشعة تحت الحمراء في الظلام، وخلفها آلات تصوير ذات مدًى بعيد … كانت تُبدي الوجوه الشابَّة القادمة على شاشة تليفزيون داخلية … فإذا ما تأكد المراقبون من شخصية القادم … تركوا الأبواب التي تعمل إلكترونيًّا تفتح للسيارات التي كانت تدخل بسرعة هائلة، ثم تقف بضغط الهواء الداخلي … كأن أصابع ضخمةً تُمسكها في مكانها.
وكان الشياطين يدخلون إلى قاعة الاجتماعات فيتبادلون التحية بحرارة خاصة. وإنهم منذ فترة قد انقسموا إلى قسمين … قسم يعمل في بيروت … وقسم يعمل في دمشق.
وكان هذا الاجتماع مُخصَّصًا لتقييم العمل الذي قام به الشياطين في مغامراتهم الاثنتَي عشرة السابقة … ثم يتلقَّون آخر المعلومات التي حصل عليها رقم «صفر» من مختلِف أقسام المخابرات العربية … وغيرها من الأجهزة السرِّية التي يتعامل معها رقم «صفر» ويحصل بها على المعلومات الضرورية التي يُهم الشياطين اﻟ «١٣» معرفتها … وبوصول فهد — وكان آخر من وصل — أُغلقت الأبواب الصخرية … وعاد الجبل إلى هدوئه وسكونه … كأنما ليست تحته حياة كاملة تجري … وتتجمَّع في جوفه أخطر مجموعة من المغامرين شهدتها المنطقة العربية.
وكان كلٌّ من الشياطين قد أعد ملفًّا عن الأحداث التي مرَّت به … والتي اشترك فيها … وقد أوضح ملاحظاته على أسلوب العمل … والأخطاء البسيطة التي وقع فيها … وأخذ كلٌّ منهم ينظر إلى الساعة الكبيرة في صدر صالة الاجتماعات، والتي كانت تُشير إلى السادسة إلَّا بعض ثوانٍ … وهم جميعًا على استعداد للاستماع إلى صوت رقم «صفر» الذي لم يسمعوه منذ عام.
وتعانق عقربا الساعات والثواني … وسمع الشياطين اﻟ «١٣» صوت رقم «صفر» العميق، يُحيِّيهم ثم يقول: أشكركم كثيرًا على الجهد الممتاز الذي بذلتموه خلال العام الماضي … وأتمنَّى أن تواصلوا عملكم بهذه الكفاءة … بعد أن أوقعتم بعدد من أخطر وأعتى المجرمين … وأقمتم العدل … ورفعتم الظلم … وكنتم عند حسن ظني تمامًا …
وصمت رقم «صفر» لحظات ثم قال: كان المفروض أن نستعرض معًا عمل العام الماضي … ولكني فضَّلت ألَّا نُضيع وقتًا كثيرًا … سوف تتركون ملفات الملاحظات على مائدة الاجتماع وسوف آخذها لدرس ملاحظاتكم … وإن كان هناك شيء يستحق المناقشة فيها فسوف نناقشها معًا.
أحس «أحمد» بالارتياح … فقد كان يكره الحديث الطويل والمناقشات … ونظر إلى «إلهام» وابتسم … وابتسمت «إلهام» أيضًا … فقد كانت مثله تمامًا … وربما كان اتفاقهما في الآراء والميول هو سبب هذه الرابطة العميقة من الحب التي ربطت بينهما.
ومضى رقم «صفر» يقول: ولهذا فسوف أُحدِّثكم اليوم في موضوعَين هامَّين … أرجو أن نتمكَّن من الإحاطة بهما … لأن هذا من صميم عملكم … فقد جاءني تقرير عن الغوَّاصة السرِّية الألمانية التي غرقت في المحيط الهادي، ولم تستطِع الجمهورية الألمانية العثور على مكانها … لقد عثرت دولة أخرى على مكان الغوَّاصة … ليس هذا فقط، ولكن تم انتشالها أيضًا.
وبدا الاهتمام على وجوه الشياطين، وقال رقم «صفر»: لقد حصلت أجهزتنا على الخطة رقم «٣» التي تم بها انتشال الغواصة … وهي ذات جانبَين … الجانب الأول: خطة تمويه واسعة النطاق … قامت بها أجهزة الدولة التي انتشلت الغواصة حتى لا يعلم أحد أنهم عثروا عليها … والجانب الثاني: التكنولوجيا المتقدمة جدًّا التي أتمَّت هذا العمل الخطير، وإن كان قد وقع خطأ.
وسكت رقم «صفر» ثم مضى يقول: الخطأ أنه أثناء رفع الغواصة … انشطرت إلى نصفَين … بسبب ضغط المياه، والتآكل الذي أصاب هيكلها … وسوف نشاهد الآن رسمًا توضيحيًّا لأسلوب انتشال الغواصة …
أُطفئت الأنوار … والْتفت الشياطين إلى شاشة كبيرة ظهر عليها رسم متقن لسفينة ضخمة لم يسبق للشياطين رؤية مثلها … وبدأ صوت رقم «صفر» يقول: هذه السفينة صُنعت خصيصًا لعملية الانتشال، حمولتها ٣٦ ألف طن … وارتفاعها ٢٩ مترًا … وعرضها ٤٠ مترًا … إنها تُمثِّل رصيفًا عائمًا … وتغيَّرت الصورة وشاهد الشياطين صورة صندل عائم … مساحته مثل مساحة ملعب كرة القدم، وقال الصوت: وهذا الصندل الذي يُشبه ملعب كرة القدم، صُنعت جوانبه من الصلب، وثُبِّتت فيه مخالب فولاذية ضخمة مُهمَّتها رفع الغواصة. أمَّا الآلات التي تُحرِّك هذه المخالب فموجودة في السفينة الأولى التي سُميت «جونومار».
ومضى الصوت يقول: وحتى لا تكشف الأقمار الصناعية الألمانية العملية، فقد تم إنشاء مظلة بيضاوية الشكل تُغطي منطقة العمل … وعندما رفعت المخالب الغواصة، وضعتها على ظهر الصندل العائم الذي أبحر بها …
وتُعتبر هذه العملية أكبر عملية انتشال تمَّت حتى الآن، ومنه اتضح أن الغواصة مزودة بثلاثة صواريخ نووية، وعدد من الطوربيدات من ذوات الرءوس الذرية … إلى جانب مجموعة من الشفرات المستخدمة في الاتصالات السرِّية.
إن هذه العملية قد تُذكِّركم بعملية كنوز الملك «حيرام»، والخطة التي وضعتها العصابة لإخفاء الكنز الأثري … ولكن …
ولم يُتم رقم «صفر» جملته … فقد دوَّى صوت عميق في جنَبات الكهف … عرف الشياطين جميعًا أنه صوت إنذار هام … ومعناه أن معلومات على جانب كبير من الخطورة قد وصلت إلى المقر السرِّي … وأنه يجب بحثها فورًا …
وانقطع صوت رقم «صفر» … واختفت أنوار صالة الاجتماعات … وبدأت رءوس الشياطين تقرب بعضها من البعض، وقد انتقلت الأسئلة من فم إلى فم … ما هي المعلومات التي وصلت الآن؟ ومدى أهميتها؟ وهل لهم دور فيها؟
ومضت لحظات من الانتظار، ثم عاد صوت رقم «صفر» يصل إليهم من مختلِف أنحاء القاعة كالمعتاد … قال الصوت العميق: لقد وصلت الآن رسالة على أكبر جانب من الأهمية؛ إن قنبلةً ذريةً تُصنع الآن … أو تم صنعها فعلًا في إحدى دول الشرق الأوسط … وهي قنبلة صغيرة نسبيًّا … ولا تحتاج في إطلاقها إلى طائرة أو صاروخ.
وسكت رقم «صفر» … وقفزت علامات الاستفهام من رءوس الشياطين اﻟ «١٣» … قنبلة ذرية! … شيء مذهل! … أين؟ وكيف؟ ومن؟
وأجاب رقم «صفر» على الأسئلة دون أن يسمعها: أنتم تذكرون أنه منذ عام تقريبًا نشرت الصحف أن محطة تليفزيون كولومبيا في الولايات المتحدة قدَّمت طالبًا في برنامج تليفزيون … وهذا الطالب يدرس الرياضة والعلوم في إحدى الجامعات، وقد استطاع الطالب أن يشرح بطريقة عملية أن أي إنسان على قدر من المعرفة بالعلوم يمكنه صنع قنبلة ذرية.
وسكت رقم «صفر» لحظات ثم مضى يقول: وقد أوضح الطالب المعادلات الرياضية والوزن الذري لمختلِف المواد المطلوبة لإنتاج القنبلة … وقال إنها لا تُكلِّف أكثر من ١٠٠ ألف دولار.
تذكَّر الشياطين أنهم قرءوا هذا الخبر فعلًا … وسمعوا رقم «صفر» يكمل حديثه قائلًا: وقد أكَّد كبار علماء الذرة في الولايات المتحدة الأمريكية أن المعادلات والمعلومات التي قدَّمها الطالب الأمريكي صحيحة فعلًا … وأنه بناءً على هذه المعلومات يُمكن صنع قنبلة ذرية صغيرة تكفي لتدمير مدينة متوسطة الحجم … وقتل ربع مليون شخص.
وصمت رقم «صفر» … وساد صمت عميق قاعة الاجتماعات الواسعة، ثم أكمل رقم «صفر» حديثه: وقد حرصتْ محطة التليفزيون على إخفاء اسم ومكان الطالب … ولكن …
وساد الصمت ثواني قليلةً ثم قال الصوت العميق: ولكن الطالب اختفى منذ شهر تقريبًا، وقد أخفت أجهزة الأمن في الولايات المتحدة خبر اختفائه؛ حتى لا تُحدث ذعرًا في البلاد … لأن هناك احتمالًا بأن تكون إحدى العصابات القوية مثل عصابة «المافيا» قد اختطفته، وأجبرته على صنع القنبلة … وربما تكون إحدى الجمعيات الثورية قد فعلت هذا … ولكن حدث ما هو أخطر … إن الطالب الأمريكي المختفي قد اتجه إلى منطقة الشرق الأوسط!
ونحن نعرف أن هناك صراعات ضخمةً تدور في المنطقة … ومن الممكن أن يلجأ أحد أطراف النزاع إلى استخدام الطالب في صنع القنبلة لتهديد الطرف الآخر … ومن الممكن أيضًا أن تكون إحدى العصابات الدولية هي التي خطفته وأحضرته إلى المنطقة لصنع القنبلة … حتى تتمكَّن من تهديد من تشاء وتبتز مبلغًا ضخمًا من المال.
وبدا واضحًا أن الاجتماع الذي حضر من أجله الشياطين اﻟ «١٣» لن يتم، وهذا ما قاله رقم «صفر»: إنني آسف أن أُنهي هذا الاجتماع بأسرع ما يمكن، وأطلب منكم السفر فورًا إلى مختلِف البلاد التي جئتم منها … المطلوب أن تتشمَّموا أخبار هذا الموضوع بكل الطرق … إننا أمام حدث خطير لم يسبق له مثيل … وإنني أعتبره بالنسبة لكم تحديًا ضخمًا … فهل تقبلون التحدي؟
ولم يكن رقم «صفر» ينتظر إجابة … فقد كان يعلم أنهم يقبلون.