الكاديلاك الخضراء

تفرَّق الشياطين اﻟ «١٣» كلٌّ إلى بلده … وكلٌّ منهم يُدرك صعوبة بل استحالة المهمة التي تحدَّث عنها رقم «صفر» … فكيف يعثرون على هذا الطالب الذي لم يرَوه أبدًا؟! صحيح أن رقم «صفر» وزَّع عليهم نشرةً صغيرةً بأوصافه كما ظهر على شاشة التليفزيون … ولكنها أوصاف عامة … شاب في العشرين من عمره، طويل القامة … نحيل … يضع على عينَيه نظارات طبية … شعره أشقر يتهدَّل على جبينه.

ولكن هذه الأوصاف كلها يمكن أن تتغيَّر بقليل من التنكُّر … والاسم غير معروف فيدخل أي بلد بجواز سفر مُزيَّف … إن البحث عن صدَفة صغيرة في قاع المحيط … ربما كان أسهل.

دارت هذه الخواطر وغيرها بأذهان الشياطين جميعًا … ومنهم بالطبع «إلهام»، التي اتجهت هي و«باسم» إلى بيروت … وكانت هي تُشرف على قسم الأجهزة الإلكترونية، وهو يُشرف على قسم بيع وإصلاح السيارات.

وظلت «إلهام» بعد عودتها بخمسة أيام في القسم تُفكِّر، ثم قرَّرت أن تكتب رسالةً إلى «أحمد» … فلم يكن هناك ما يشغلها … سوى انتظار أية معلومات جديدة من رقم «صفر»، والمرور يوميًّا على أماكن وجود السُّوَّاح لعلها ترى أي وجه يُشبه هذا الطالب الذي تحمل أوصافه في ذهنها كما هي في النشرة التي وزَّعها عليهم رقم «صفر» … وكانت تعرف أن ما تفعله أشبه بالعبث … ولكنها كانت تقوم بواجبها.

وضعت «إلهام» ورقةً بيضاء أمامها، وأمسكت بالقلم وفكَّرت قليلًا، ثم بدأت تكتب:

عزيزي «أحمد» …

رغم أن بيروت مدينة ممتعة … ورغم أنها بلدي … ورغم أن في الإمكان دائمًا وجود شيء من التسلية والترفيه في هذه المدينة … رغم ذلك كله أشعر بالملل؛ أولًا لأن المهمة التي تعرفها والتي نعمل من أجلها كلنا مهمة مستحيلة، بل خيالية. ثانيًا لأنك غير موجود … أو قل لأنك أولًا غير موجود … وثانيًا … لأن المهمة خيالية ولن تؤدي إلى شيء إلا إذا تحرَّك الذين خطفوا الطالب الذري هذا … وطلبوا شيئًا ما … أو هدَّدوا، وطبعًا سوف يفعلون هذا بمنتهى الحذر … وإذا كانت أجهزة الأمن في مختلِف الدول العربية لا تستطيع التصدي إليهم … فكيف نصل؟! وكلٌّ منا واحد فقط في بلده … أين ستبحث أنت؟ في القاهرة … في الإسكندرية … في المنصورة … في أسوان؟ … إن ذلك شيء مضحك.

وعلى هذا فإني أقوم بالواجب طبعًا … وأمس زرت منطقة مغارة «جعيتا»، ولعلك تذكر المغامرة التي كانت لنا هناك … وقد تذكرتك طبعًا … وعندما جلست لأتناول طعام الغداء على الجبل تمنَّيت أن تكون معي.

لقد بعت اليوم أكبر صفقة من الأجهزة الإلكترونية منذ فتحنا هذا الفرع، والحقيقة أنني فكَّرت أن نعتزل المغامرات والمشاكل والمتاعب ونعمل بالتجارة … فهذه الصفقة التي بلغت قيمتها عشرة آلاف ليرة، نكسب فيها نحو ثلاثة آلاف ليرة. وقد اشتراها جميعًا رجل واحد أجنبي … قليل الكلام … فقد وضع أمامي كشفًا بالأجهزة التي يُريدها … وللأسف إن بعضها ليس موجودًا عندنا. وقد طلبت منه مهلةً ثلاثة أيام لأحضر له بقية طلباته فوافق … وقال إنه سيعود.

كيف حالك يا «أحمد»، هل هناك أخبار؟ أرجو أن أراك قريبًا.

إلهام

ووضعت «إلهام» الخطاب في مظروف، ثم طلبت «سرور» ورجته أن يُرسل الخطاب عن طريقه … وابتسم «سرور» عندما شاهد عنوان الخطاب؛ فقد كان إلى «أحمد»، ومعنى ذلك أن يُرسله «سرور» عن طريق عميل سرِّي يعرفه «سرور» … ويقوم بعدة سفريات كل أسبوع بين القاهرة وبيروت لنقل الوثائق الهامة التي يُريد رقم «صفر» أو الشياطين إرسالها.

ولم يمضِ سوى يومَين؛ فقد تلقَّت «إلهام» رسالةً من «أحمد» في سطرَين: «ما هي نوع الأجهزة التي اشتراها الرجل؟ إذا عاد فراقبيه.»

حارت «إلهام» في سبب هذا السؤال، ثم قفزت في رأسها فكرة لعلها نفس الفكرة التي خطرت ﻟ «أحمد».

وأرسلت الرد في نفس اليوم: «الأجهزة متعددة الأنواع؛ منها جهاز لقياس الإشعاع، وجهاز لضبط الذبذبات، وجهاز ثالث لحساب حجم الانفجارات في المناجم، وأجهزة أخرى أقل قيمةً وأهمية. ولكن لماذا تسأل؟»

أرسلت «إلهام» رسالتها مع «سرور» في نفس اليوم … وفي صباح اليوم التالي ظهر الرجل … وكانت «إلهام» قد وضعت خطة المراقبة كما طلب «أحمد» … فقد قدَّمت للرجل جهازًا واحدًا ممَّا طلبه، وقالت له إن الجهاز الثاني سيكون موجودًا بعد الظهر … ولم يتحدَّث كثيرًا … فقد دفع ثمن الجهاز وانصرف.

وأسرعت «إلهام» تضع باروكةً على رأسها، ونظارةً على عينَيها، ثم انطلقت خلف الرجل، ووجدت في انتظاره سيارة كاديلاك ضخمة … وسرعان ما كانت تقفز إلى سيارتها وتتبعه.

•••

عندما وصلت رسالة «إلهام» الثانية إلى «أحمد»؛ ركب طائرة المساء إلى بيروت ووصل المقر السرِّي في التاسعة، ووجد «باسم»، فسأله على الفور: أين «إلهام»؟

رد «باسم»: لا أدري!

أحمد: ألم ترَها اليوم؟

باسم: رأيتها في الصباح … نزلتْ إلى قسم الأجهزة الإلكترونية، وذهبت أنا إلى قسم السيارات، وعندما حان موعد الغداء لم تظهر، وعلمتُ من «سرور» أنها تركت له رعاية القسم وخرجت في الحادية عشرة صباحًا دون أن تترك كلمةً واحدة.

أحمد: ألم تتصل تليفونيًّا؟

باسم: مطلقًا.

أسرع «أحمد» إلى غرفة اللاسلكي وأرسل تقريرًا سريعًا إلى رقم «صفر» عن الرسائل التي تبادلها مع «إلهام» … ثم اختفاء «إلهام» … ثم قال في نهاية التقرير: «المعتقد أن غياب «إلهام» سيطول … وأننا وضعنا يدنا على أثر هام.»

وذهب «أحمد» إلى قسم الأجهزة الإلكترونية ونظر إلى مكتب «إلهام»، وكانت فكرة واحدة كافية لأن يرى أن «إلهام» قد تركت مذكرةً صغيرةً جدًّا مكتوبة بخط واضح: «الرجل ضخم الجثة … يضغط على أسنانه باستمرار، أحمر الوجه، أشعث الشعر … يستخدم يده اليسرى فقط، ويبدو أن يده اليمنى مشلولة أو بها عيب ما.»

وأضافت «إلهام» بخط سريع جدًّا: «إنه يخرج الآن وسيركب سيارة كاديلاك خضراء ومعه سائق … وسأخرج خلفه.»

وقال «أحمد» ﻟ «باسم»: مطلوب البحث في لبنان عن رجل ضخم الجثة، أحمر الوجه، أشقر الشعر … وأعسر … ويركب سيارة كاديلاك خضراء …

وبعد أن أرسل «أحمد» تقريرًا بهذه المعلومات إلى رقم «صفر»، قفز إلى سيارة سريعة وقفز «باسم» إلى سيارة أخرى، يدوران في بيروت بحثًا عن الرجل الأحمر … والسيارة الخضراء.

ورغم أن «أحمد» كان يحاول أن يتفاءل إلا أنه كان يُحس أن «إلهام» في خطر شديد، والشياطين جميعًا خارج بيروت حسب التعليمات لرقم «صفر» … وهذا الرجل الذي اشترى الأجهزة الإلكترونية قد لا يكون الرجل الذي يبحثون عنه … ومعنى ذلك أنه هو … «أحمد» … الذي وضع «إلهام» في فم الأسد؛ لقد اشتبه في الرجل الأحمر وطلب من «إلهام» أن تتبعه … ها هي تخرج منذ الصباح ولا تعود … وقد يكون الرجل من عصابة لصوص لا يُهم رقم «صفر» أمرها. وأخذت سيارة «أحمد» السريعة تدور في بيروت … وكلما وجد «أحمد» تجمُّعًا للسيارات توقَّف ونزل وأخذ يبحث عن الكاديلاك الخضراء.

ووصل به المطاف إلى كازينو لبنان … أكبر كازينو من نوعه في منطقة الشرق الأوسط … شمال بيروت على شاطئ البحر.

كان الكازينو مضاءً كالشعلة من النور فوق ربوة تدخل في البحر … كأنه سفينة مبحرة في بحر هادئ.

ركن «أحمد» سيارته ونزل … كانت بجوار الكازينو عشرات من السيارات من كل الأنواع، وأخذ يمشي بينها فاحصًا … وفجأةً بدت الكاديلاك الخضراء التي يبحث عنها واقفة، وتوترت أعصاب «أحمد» وارتفعت دقَّات قلبه وهو يقترب من السيارة … كان يخشى أن تكون عيناه مخدوعتين … خاصةً في اللون … ولكن السيارة كانت خضراء فعلًا، وكانت من طراز كاديلاك الضخم … مقدمتها تشبه السيارة الرولزرويس … وهو أحدث طراز في سيارات الكاديلاك … والْتقط «أحمد» رقمها سريعًا، ثم نظر حوله بحثًا عن السائق فلم يجِده … ورجَّح أنه يجلس عند بوابة الكازينو أو في إحدى صالاته … كان المهم الآن التأكُّد أن هذه السيارة للرجل ذي الوجه الأحمر.

واجتاز «أحمد» باب الكازينو الكبير وهو يحس بالعيون تُحاصره من كل جانب، وكان واضحًا أنه أصغر سنًّا من أن يدخل هذا المكان الذي يجمع أعظم نِمر الاستعراض في العالم … حيث يتكلَّف العرض الراقص الواحد بضعة ملايين من الليرات … وتأتي إليه أشهر فنانات الدنيا للرقص، كما يضم أكبر صالة للقمار … حيث يأتي أصحاب الملايين من جميع أنحاء العالم للعب فيه … وكثير منهم يأتي على طائرته الخاصة … أو يخته الخاص، كما كان يفعل المليونير اليوناني أوناسيس صاحب اليخت كريستينا الشهير.

كان «أحمد» يُفكِّر في هذا كله وهو يدخل من باب الكازينو … لا يدري أين سيجد ذا الوجه الأحمر … هل في صالة الاستعراضات؟ أم في المطعم؟ أم في صالة القمار؟ أم لا يجده على الإطلاق!

ورغم النظرات التي كانت تفحصه جيدًا لكنه خطا بثبات إلى داخل الكازينو، وهو يدور بعينيه في المكان. كان يرجو أن يصل إلى «إلهام» قبل أن يُصيبها مكروه … ولم تكن هناك وسيلة إلا العثور على ذي الوجه الأحمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤