العجلة تدور

وفي تلك الأثناء التي كان «أحمد» فيها يدور كالمجنون بحثًا عن «إلهام»، وفي نفس الوقت الذي دخل فيه كازينو لبنان الكبير … كانت «إلهام» تُحاول استعادة وعيها وهي ملقاة على أرض غرفة حجرية في مكان لا تعرفه … فتحت عينيها فرأت جدران الغرفة تدور بها … وخُيِّل إليها أن السقف ينخفض، ويكاد يُطبق عليها؛ فأغلقت عينَيها، وهي تُحس أن رأسها ثقيل كالرصاص … وأن الصداع يكاد يجعل عينَيها تقفزان من محجرَيهما.

ماذا حدث؟!

أخذت تتذكَّر … وكانت ذكرياتها مضطربة … فهي تريد أن تذكر البداية … نعم ذلك الرجل ذو الوجه الأحمر يدخل صالة المبيعات قسم الإلكترونيات. خروجها خلفه … هل تركت مذكرةً بخروجها … إنها لا تتذكَّر بالضبط ولكن خرجت … السيارة الكاديلاك الخضراء التي رأتها من الباب الزجاجي … ركوبها سيارتها، ثم تتبع السيارة الكاديلاك …

وضعت يدها على رأسها وأخذت تُركِّز انتباهها … ماذا حدث بعد ذلك؟! إن الذكريات الآن أكثر وضوحًا … لقد غادرت السيارة الكاديلاك بيروت مسرعة … ثم صعدت الجبل، ومرَّت بعدة طرقات عامة … ثم انحرفت وبدأت تدخل في طريق مُترَّب … كان الطريق وعرًا … و«إلهام» تحاول السيطرة على سيارتها … وجاءت سيارة ثالثة خلفها وصدمتها صدمةً قوية … وكادت سيارتها تهوي إلى قاع الجبل، فلم تستطِع السيطرة عليها إلا بصعوبة بالغة … وفي اللحظات الأخيرة … وعندما نزلت من السيارة بأعصاب ثائرة لترى هذا المجنون الذي صدمها … فوجئت باثنَين ينزلان من السيارة التي صدمتها، وقد شهر كل منهما مُسدَّسًا ضخمًا في وجهها … بينما كانت الكاديلاك الخضراء قد اختفت تمامًا.

واقترب أحد الرجلَين منها وقال بالإنجليزية: لقد كان خطأك يا آنسة. وجُن جنونها وهي تقول: أنا المخطئة؟!

ابتسم الرجل ببساطة وهو يقول: طبعًا … ألم تقرأي أن هذا الطريق طريق خاص!

وقالت: وهل هذا يُبرِّر محاولة قتلي؟!

الرجل: لم يكن هناك حل آخر.

نظرت «إلهام» حولها … كانت في مكان لم ترَه من قبلُ رغم أنها من لبنان، ورغم أنها زارت الجبل مئات المرات … ولم يكن هناك صدًى لصوت واحد في الأفق … كانوا ثلاثتهم منعزلين عن العالم … وبدا واضحًا أنها وقعت في فخ محكم … سيارتها معطلة … والمسدس الذي معها موجود في تابلوه السيارة حيث لا تستطيع الوصول إليه … والرجلان يبدوان في غاية القوة … ومسدساهما يلمعان في ضوء الشمس، يحملان إليها رسالة الموت إذ هي حاولت الفرار.

وقرَّرت «إلهام» — كما تتذكَّر — أن تتظاهر بالسذاجة فقالت: ولماذا المسدسان؟ ابتسم الرجل عن أسنان صفراء قذرة وقال: لأننا سنطلب منك الركوب معنا!

إلهام: معكما! لماذا؟!

الرجل: بضعة أسئلة ثم نتركك.

إلهام: لماذا؟!

الرجل: لا داعي للأسئلة الآن يا آنسة.

إلهام: ولكن هذا اختطاف، وإنني سأُبلِّغ عنه القانون!

عاود الرجل الابتسام وقال: إنني أحترم القانون جدًّا يا آنستي … ولكن لنا نحن أيضًا قانون خاص ستسمعين به بعد قليل.

وحاولت «إلهام» أن تطيل المحادثة … ولكن الرجل كان حاسمًا، فقد اقترب منها ثم جذب ذراعها بعنف شديد … وأركبها السيارة في المقعد الخلفي، ثم قال للرجل الآخر: هيا!

وتحرَّكت السيارة، وقال الرجل الجالس في الخلف: ادفع السيارة دفعةً صغيرة أخرى.

أحست «إلهام» بالألم يعتصر قلبها … ولكن لم يكن أمامها ما تفعله … وقاد الرجل السيارة حتى أصبحت خلف سيارة «إلهام» التي كانت تقف على حافة الهاوية … ثم صدمها صدمةً بسيطة … فخفَّت السيارة مندفعةً فوق سفح الجبل، وسمعت «إلهام» صوت عجلاتها وهي ترتطم بالصخور … ثم وهي تنقلب … ثم سمعت بعد لحظات صوتًا عاليًا رغم بُعد المسافة، لقد سقطت السيارة في قلب الهاوية …

كانت «إلهام» ملتفتةً بكل حواسها إلى سيارتها العزيزة وهي تسقط إلى حيث لن تخرج مرةً أخرى بين الأشجار والأعشاب الكثيفة … وفجأةً أحسَّت بألم سريع في كتفها … وأدركت على الفور أنها حقنة قد غرسها الرجل في كتفها دون أن تُدرك.

وبعد لحظات شعرت «إلهام» بالغيبوبة. لقد كانت حقنةً مخدِّرة … وقبل أن تغيب تمامًا عن وعيها … تذكرت «أحمد» … وتمنَّت أن تراه.

وفي نفس الوقت الذي استيقظت فيه، وأخذت تستردُّ وعيها في سجنها الحجري، كان «أحمد» يدخل كازينو لبنان … ويتجوَّل مسرعًا بين الموائد باحثًا عن ذي الوجه الأحمر … ولكن لم يكن في المطعم أو الكازينو رجل تنطبق عليه الأوصاف التي ذكرتها «إلهام» في رسالتها القصيرة.

ولم يبقَ إلَّا أن يدخل صالة القمار … وكان يعلم أنه في سن لا تسمح له بالدخول حسب قوانين البلاد … ومع ذلك … شد قامته ثم اجتاز الباب، ولكن قبل أن يخطو خطوةً ثانيةً إلى داخل الكازينو، كانت عشرات الأيدي قد امتدَّت وأمسكت به، وقال الرجال: آسفون يا فتى … ممنوع!

نظر «أحمد» إلى الرجال وأدرك أن أي محاولة للدخول محكوم عليها بالفشل … فدار ببساطة وغادر المكان وأسرع إلى الكازينو واتجه إلى التليفون واتصل بالمقر السرِّي … وردَّت عليه الست «بديعة» فقال لها: أريد «سرور» فورًا!

وبعد لحظات كان «سرور» يرد عليه، فقال «أحمد»: هل عاد «باسم»؟

سرور: لا لم يعُد حتى الآن.

أحمد: اكتب له مذكرة: «إنني في كازينو لبنان، والبس أنت ملابس السهرة، وهاتِ معك كميةً كبيرةً من النقود وتعالَ فورًا.»

سرور: هل أُحضر أسلحة؟

أحمد: بالطبع!

ثم وضع السمَّاعة وجلس يشرب كوبًا من الشاي، ويأكل علبة بسكويت؛ فقد أصابه الجوع.

مضت ساعة بطيئة … وظهر «سرور» على عتبة باب الكازينو … وأحس «أحمد» بالإعجاب عندما ظهر «سرور» بقوامه الفارع ووجهه الأسمر الهادئ يدخل مسرعًا … وأشار له «أحمد» فاتجه «سرور» إليه، وقال «أحمد»: إنني أبحث عن رجل أحمر الوجه، أشقر الشعر … أعسر يستخدم يده اليسرى … لعله موجود في قاعة القمار.

سرور: وما هو المطلوب؟

أحمد: حاول أن تتعرَّف به إذا وجدته … وأرسل لي ورقةً صغيرةً إذا وجدته.

سرور: هل هذا خاص بغياب «إلهام»؟

أحمد: نعم … إنني أشتبه في أن له صلةً بغيابها.

شد «سرور» قامته … وشاهده «أحمد» وهو يجتاز عتبة الكازينو … وعندما دخل سرور إلى القاعة الواسعة … أجال بصره بين الموجودين … وجز على أسنانه عندما شاهد الرجل الأحمر يجلس إلى أحد موائد اللعب … وبسرعة أخرج ورقةً وقلمًا وكتب رسالةً قصيرةً إلى «أحمد» بها كلمتان: «الأحمر موجود!»

ووصلت الرسالة إلى «أحمد» … وأحس بالدماء تندفع إلى رأسه … وتمنَّى لو استطاع الدخول إلى الصالة المغلقة التي لا يدخل فيها سوى الكبار … وأن أطبق يديه على رقبة الرجل الأحمر وسأله بأعلى صوت: أين «إلهام»؟!

اتجه «سرور» إلى المائدة التي يجلس إليها الرجل … وكانت مائدة رولييت … وهي لعبة مشهورة تتكوَّن من عجلة لها ذراع تدور على مجموعة من الأرقام والألوان، ومن يضع مبلغًا من المال على رقم أو لون تقف عنده ذراع العجلة يكسب … وابتسم «سرور» … فقد كان دوره في المخابرات قد وضعه عشرات المرات أمام موائد اللعب … وكان يعرف أسرار اللعبة جيدًا … ومع ذلك قرَّر أن يقضي فترة المراقبة.

وعندما وقف أمام المائدة؛ أسرع أحد الموظفين بتقديم مقعد له … ولكن «سرور» ابتسم قائلًا: ليس الآن … بعد قليل.

كانت المجموعة التي تلعب مكونةً من أربعة رجال وسيدتين … وكان أمام الرجل الأحمر كومة هائلة من فيشات اللعب … كل فيشة منها تساوي ألف ليرة … بعضها أقل قيمة. وبحسبة سريعة أدرك «سرور» أن ما أمام الرجل يبلغ نحو ٢٠٠ ألف ليرة.

كان على «سرور» أن يجد وسيلةً للتعرُّف إلى الرجل الأحمر … ولم تكن هناك وسيلة أفضل من اللعب … ووقف يراقب اللعب … وكانت اللعبة تبدأ بمجرَّد أن يرفع مراقب اللعب الكرة العاجية البيضاء بيده اليمنى … ويُدير العجلة بيده اليسرى، ثم يضع الكرة ويتكرها تدور في الدائرة … وكان على اللاعبين أن يضعوا نقودهم قبل أن تقف الكرة … ولاحظ «سرور» أن الرجل الأحمر لم يلعب هذا الشوط … ومضت الكرة تدور وتدور … وأخذت تُهدِّئ من سرعتها ثم توقَّفت نهائيًّا على رقم «٢٥» … وكان من نصيب إحدى السيدتَين مبلغ ٢٠ ألف ليرة … وانتقل «سرور» من مراقبة اللعب إلى مراقبة الرجل الأحمر … وأخذ يرسمه في ذهنه … الطول نحو ١٨٠ سنتيمترًا … البشرة حمراء … الشعر ذهبي … العينان زرقاوان … الأسنان طويلة ومندفعة إلى الأمام … إحدى الأذنين مقطوعة … وقد أُجريت بها عملية تجميل دقيقة لإعادتها إلى مكانها … اليدان ضخمتان … يُغطِّيهما الشعر الكثيف … يُدخِّن سجائر حاميةً من نوع «روثمان» … واضح أنه مُسلَّح بأكثر من سلاح تحت ذراعه الأيسر … وتحت الجاكتة عند الحزام.

وأدرك «سرور» أن الأحمر خصم يُعمل حسابه … خاصةً وقد شاهد حوله حارسَين يحومان من بعيد … وإن تظاهرا أنهما لا يعرفانه.

واكتفى «سرور» بهذه المراقبة وبقي أن يتعرَّف على الرجل … فمد يده وأخرج رزمةً ضخمة من النقود، ثم اتجه إلى مكان الفيشات واشترى بالمبلغ كله … ثم عاد واختار كرسيًّا مواجهًا للرجل الأحمر … وقرَّر أن يقوم بحركة تلفت إليه الأنظار، فوضع ٥٠ ألف ليرة دفعةً واحدةً على اللون الأحمر، و٥٠ ألفًا أخرى على رقم «١٣» … متفائلًا بعدد الشياطين اﻟ «١٣».

ونظر الرجل الأحمر إلى «سرور» … كان وجهه ساكنًا تمامًا كأنما نُحت من الصخر، ثم وضع مبلغًا مماثلًا لما وضعه «سرور» … على اللون الأسود … وعلى رقم «٢٦»، وهو ضعف رقم «١٣» … ولم يشترك بقية اللاعبين في هذه الدور؛ فقد بدا أن منافسةً رهيبةً سوف تبدأ … ورفع المشرف الكرة وأدار العجلة، ثم أطلق الكرة تدور بين الألوان والأرقام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤