الأسود يكسب

كان «أحمد» يجلس في الصالة الخارجية للكازينو … ينظر إلى ساعته بين لحظة وأخرى … وكانت الساعة قد اقتربت من منتصف الليل دون أن يظهر «سرور» أو يُرسل رسالةً أخرى … وفكَّر «أحمد» أنه من غير المعقول أن يُمضي كل هذا الوقت بلا حركة … وفكَّر قليلًا ثم قام إلى التليفون فاتصل بالمقر السرِّي وسمع صوت «باسم» على الطرف الآخر للخط … وقال «باسم»: لقد عدت الآن … لا أثر ﻟ «إلهام» في أي مكان … ولا للرجل الأحمر.

أحمد: الرجل الأحمر هنا في الكازينو … و«سرور» في صالة المقامرة … وقد مضت ساعتان حتى الآن ولم يخرج …

وفجأةً خطرت ﻟ «أحمد» فكرة فقال: اسمع يا «باسم». هات جهاز اللاسلكي الصغير من النوع المستخدم في الإرسال فقط … ستجده …

فقال «باسم»: أعرف مكان الأجهزة …

أحمد: آسف … إنني مضطرب قليلًا من أجل «إلهام» … هاتِ الجهاز وتعالَ فورًا إلى الكازينو … ستجد سيارة كاديلاك خضراء تحمل رقم «١١٥٣٧»، وخذ حذرك وركِّب الجهاز أسفل الرفرف ليُرسل لنا إشارات متقطعةً عن مكان السيارة، ثم أحضر جهاز استقبال صغير لنضعه في سيارتنا … ثم تعالَ إلى الكازينو …

باسم: سأكون عندك فورًا.

ووضع «أحمد» السمَّاعة وقد أحسَّ ببعض الارتياح؛ فقد وضع الرجل الأحمر بين قوسَي مراقبة دقيقة له حيثما ذهب.

عاد «أحمد» إلى مكانه في انتظار رسالة أخرى من «سرور» … ولكن ساعةً أخرى مضت دون أن يُرسل «سرور» كلمةً واحدة … ولكن دخل «باسم» بنظارته الصغيرة ونظر هنا وهناك، ثم اتجه إلى «أحمد» وجلس، ثم مال عليه وقال: كل شيء على ما يُرام.

ابتسم «أحمد» لأول مرة في هذا اليوم … وقبل أن يتحدَّث إلى «باسم»، كان أحد الموظفين يتجه إليه برسالة ثانية من «سرور» … كانت أطول من الأولى:

أكتب لك من دورة المياه … الرجل خطير جدًّا ومُسلَّح جيدًا … ومعه حارسان مُسلَّحان أيضًا. اسمه مثل شكله؛ «رِدْ روك» أو الصخرة الحمراء … وهو صخري فعلًا … لقد جعلته يخسر قدرًا كبيرًا من المال … وأعتقد أننا عندما نخرج سيكون بيننا حديث … وقد يكون هذا الحديث باللكمات والمسدسات … ساعتي الآن الواحدة وخمس دقائق … سأخرج بعد ٢٥ دقيقةً بالضبط … فاستعد.

ناولَ «أحمد» الرسالة إلى «باسم» الذي قرأها ثم وضعها في جيبه.

وفي صالة المقامرة الرئيسية حيث كانت تدور المعركة الرهيبة بين الأحمر والأسود … أو بين «رد روك» و«سرور» … ترك عدد كبير من اللاعبين أماكنهم ووقفوا حول مائدة الرولييت يشاهدون الصراع.

كان «رد روك» قد ازداد احمرارًا … وسال عرقه وكشَّر عن أنيابه … وكان «سرور» يرسم ابتسامةً هادئةً على وجهه رغم إحساسه بالنظرات النفاذة التي كان يوجِّهها إليه الحارسان وهما يشهدان زعيمهما يخسر أمام هذا الرجل الأسمر الباسم، الذي كان يُسيطر على اللعب وكأنه يُدير العملية كما يُريد … رغم معرفة الجميع أن عجلة الرولييت قد صُمِّمت تصميمًا ميكانيكيًّا دقيقًا، بحيث لا يستطيع أحد بما في ذلك المشرف عليها من السيطرة على حركتها مطلقًا.

وفي خمس دورات متتالية كان «سرور» يكسب … ثم خسر الدورة السادسة … وبدت مسحة من الرضا على وجه «رد روك» … وتصوَّر أن الحظ قد تحوَّل إلى صالحه … وبدأ يضع فيشاته وقد رفع قيمة الرهان … ولكن «سرور» لم يمُد يده إلى فيشاته ليضعها على الدوائر والأرقام … بل مد يديه معًا، وأخذ يُنظِّم الفيشات إلى فئاتها المختلفة، وعلى الفور عرف الجميع أنه سيتوقف عن اللعب. وساد الصمت المكان ولم تعُد تتردَّد سوى أنفاس الحاضرين … ولاحظ «سرور» رغم أنه بدا مشغولًا بجمع الفيشات أن «رد روك» قد مد يده بحركة لا شعورية إلى جانبه … وأدرك «سرور» أنه يضع يده على مسدسه … وكان «سرور» متأكِّدًا أن «رد روك» مهما كان أحمق، فلا يُمكن أن يُغامر بإطلاق الرصاص عليه داخل الكازينو وأمام كل هؤلاء الناس … ورغم هذا فإن «سرور» مال إلى الأمام … ووضع يده في حزامه حيث كان يربض مسدسًا من طراز «لوجر» جاهز للإطلاق.

قال «رد روك»: ما زال الوقت متسعًا يا سيدي!

ردَّ «سرور» ببساطة: إنني مرتبط بموعد في الواحدة والنصف … ولم تبقَ سوى دقائق قليلة على الموعد … وأنا اعتدت أن أحترم مواعيدي.

ردَّ «رد روك»: ألم تتعلَّم أن تحترم من تلعب معهم؟

سرور: ليس بيننا ما يستدعي الاحترام أو الاحتقار يا سيدي … لقد قرَّرت أن أتوقَّف عن اللعب وهذا حقي … وفي إمكانك أن تستمر وحدك.

كانت الجملة الأخيرة إهانةً واضحةً للرجل الأحمر … فأغمض عينَيه لحظةً خاطفةً ليخفي نظرة غدر وقال: أعتقد أننا سوف نلتقي مرةً أخرى يا سيدي.

وقام «سرور» دون أن يرد، فاستبدل الفيشات بنقود حشا بها جيبه … ثم وقف أمام مرآة في جانب الصالة متظاهرًا بأنه يُصلح ثيابه … ولكنه في الحقيقة كان يرقب ما يفعل «رد روك» … وقد لاحظ على الفور أن الحارسَين قد اقتربا من الأحمر وإن كانا لم يتحدثا، فقد كان واضحًا أنه أصدر إليهما تعليماته. ولم يشك سرور لحظةً أن هذه التعليمات كانت خاصةً به.

نظر «سرور» إلى ساعته … وكانت الواحدة والنصف إلا دقيقةً واحدة … فغادر الصالة محاطًا بنظرات الجميع … وخرج إلى الهواء الطلق، فأخذ نفَسًا عميقًا … ثم اتجه إلى الكازينو … ورأى «أحمد» و«باسم» يقفان، فغادر المكان في خطوات الرجل الواثق، وفي نفس الوقت كان ينظر جانبًا واستطاع أن يلمح الحارسَين المسلَّحَين وهما يتبعانه على مبعدة.

فكَّر «سرور» وهو يسير … إنهما لن يُطلقا عليه الرصاص إلا مضطرَّين … ولعلهما يحاولان السطو عليه بعد أن يبتعد عن الكازينو … وكان الكازينو يقع على تلٍّ مرتفع يدخل إلى البحر … وتُحيطه الجبال المزروعة من الجانبَين. وقدَّر «سرور» أن «أحمد» و«باسم» سيعرفان أن الحارسَين المسلَّحَين سيتبعانه … وأنهما سيتدخَّلان في الوقت المناسب … وهكذا سار خارجًا من الكازينو … وبدلًا من أن يتجه إلى سيارته مباشرةً سار في اتجاه البحر، وشيئًا فشيئًا أخذت أضواء الكازينو تتلاشى … ويسود ظلام خفيف، ولا تُبدِّده سوى المصابيح البعيدة. وكان «سرور» يُتيح للرجلَين مهاجمته ولم يتردَّدا … فقد أسرع أحدهما على أطراف أصابعه مستترًا بالظلام حتى أصبح خلف «سرور» مباشرة، الذي وقف فوق الجبل المرتفع المطل على البحر كأنه يستمتع بهواء البحر … وأحس بفُوَّهة المسدس الصلبة تلتصق بظهره وبمن يقول له: لا تلتفت.

وأخذ الرجل يضع يده في جيوب «سرور» ويُخرج رُزَم النقود … ولكن ذلك لم يستمرَّ سوى لحظات … فقد كان «أحمد» و«باسم» يراقبان ما يحدث على بعد … وبإشارة سريعة كان «باسم» يتجه كالقذيفة إلى حيث كان الرجل يضع مسدسه في ظهر «سرور»، بينما تكفَّل «أحمد» بالحارس الآخر.

وفي لحظة واحدة كان «أحمد» يقفز على الحارس المسلَّح … و«باسم» يقفز على الحارس الآخر.

كانت مهمة «أحمد» إبعاد المسدس عن جسمه … وفي نفس الوقت منع إطلاقه، فقد كان يُريد أن يمضي كل شيء في الخفاء لحين العثور على «إلهام» … وعندما قفز على الحارس كانت يده اليمنى تُمسك بذراع الحارس اليمنى حيث المسدس … وذراعه الثانية تُطوِّق رقبته … ووضع ركبته في ظهره وجذبه إلى الخلف وطرقعت عظام الرجل، وصاح صيحةً داوية … وأداره «أحمد» حول نفسه، ثم وجَّه إلى وجهه لكمةً هائلةً سقط الرجل على أثرها على الأرض.

أمَّا «باسم» … فقد كان يخشى أن يُطلق الحارس النار على «سرور» … فركَّز كل قوته في ضربة مفاجئة على رقبة الحارس الذي سقط على ركبتَيه … وأسرع «باسم» يُطوِّح قدمه في ضربة بالحذاء أصابت ذراع الحارس وقذفت بالمسدس بعيدًا …

ولكن هذا لم يُنهِ المعركة؛ لقد وقف الحارس بسرعة وأمسك بساق «باسم» الطائرة في الهواء ورفعها إلى أعلى … وسقط «باسم» على الأرض واستجمع الحارس قوته ثم قفز عليه … وكان «باسم» نائمًا على ظهره … فلم يكن يرى جسد الحارس يتجه إليه كالقذيفة، حتى رفع قدمَيه إلى فوق … ومدَّ ذراعَيه، وتلقَّى الحارس على أطرافه الأربعة ثم طوَّح به بعيدًا … ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان؛ فقد كان «باسم» يرقد على طرف الجبل تمامًا … وعندما اندفع إليه الحارس وطوَّحه؛ طار الحارس في الهواء وسقط من ارتفاع شاهق … وبعد لحظات سمع «باسم» و«سرور» صوت جسمه وهو يرتطم بالأرض.

كان «سرور» سعيدًا بما يرى … فهذه أول مرة يحضر فيها صراعًا من هذا النوع يكون طرفه الشياطين … وقال في نفسه: لقد أدَّى الشابَّان دورهما ببراعة ومقدرة مذهلة … فقد كان «أحمد» قد أوقف الحارس الآخر على قدمَيه ودفعه إلى الأمام في اتجاه «سرور» و«باسم».

قال «باسم»: آسف … لقد طار الرجل أكثر ممَّا ينبغي … ونزل أبعد ممَّا توقعت.

قال «أحمد» بسرعة: اذهب وأحضر إحدى السيارات … واترك التي بها جهاز الاستقبال … وخذ هذا الرجل معك … واذهب مع «سرور».

باسم: إلى المقر؟!

أحمد: لا طبعًا … إن «سرور» يعرف كيف يُسلِّم هذا الرجل إلى رقم «صفر» … نريد منه أن يستجوبه ويحصل على كل المعلومات الممكنة.

باسم: وأنت؟

أحمد: سأنتظر خروج «رد روك».

وتمَّ كل شيء بسرعة … وانطلقت السيارة تحمل «سرور» و«باسم» والأسير، بينما اتجه «أحمد» إلى مدخل الكازينو وربض في الظلام.

كانت الساعة قد تجاوزت الثانية صباحًا … وبدأ عدد من رُوَّاد الكازينو يغادرونه … ومرَّت دقائق أخرى قبل أن يظهر «رد روك» … وقف تحت الأضواء ينظر حوله في ضيق وقلق … ولم يشكَّ أحد لحظةً أنه خرج يبحث عن الحارسَين، واضطُر «أحمد» إلى الابتسام … فأحد الحارسَين يرقد على شاطئ البحر وقد فارق الحياة … والثاني في طريقه إلى رقم «صفر» حيث يختفي إلى الأبد.

ظل «رد روك» ينتظر بضع دقائق … ثم اتجه إلى موقف السيارات … ومرةً أخرى توقَّف وأخذ ينظر حوله … ولمَّا لم يجد أحدًا … اتجه لدهشة «أحمد» الشديدة إلى إحدى سيارات الأجرة وركبها وانطلق بها. وأسرع «أحمد» يقفز إلى سيارته ويتبع السيارة الأجرة. لقد استنتج على الفور أن مفاتيح الكاديلاك الخضراء مع أحد الحارسَين … وأن «رد روك» لا يحمل مفاتيح إضافية … وهكذا انهارت خطة «أحمد» في تتبُّع السيارة عن طريق جهازَي اللاسلكي.

مضت السيارة الأجرة مسرعة … وتبعها «أحمد» على بُعد مناسب، ويُضيء كشَّافات سيارته إلا في المنحنيات حتى لا ينتبه «رد روك» إلى أنه يتبعه … ومضت السيارتان تشقان طريقهما فوق الجبل في الظلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤