محاولة مستميتة
كان الشاب الأمريكي أصغر ممَّا توقَّع «أحمد» بكثير … وكان يبدو مُجهَدًا وشاحبًا كأنه خارج من قبر … وبدا واضحًا أن شحوبه يعود إلى سجنه الطويل بعيدًا عن الشمس.
ومد «أحمد» يدًا له مُرحِّبًا … وجلس الشاب بعد أن سلَّم على «أحمد» وقال: لقد سمعت من «رد روك» بوجودك.
قال «أحمد» وهو يصب له فنجانًا من الشاي: وأنا أيضًا علمت بوجودك … كيف خطفوك؟ … ابتسم الشاب ابتسامةً متعبةً وقال: إنها قصة طويلة … ولكن العصابات الأمريكية تستطيع أن تخطف أي شخص … ولعلك تقرأ عن حوادث خطف أصحاب الملايين أو أبنائهم.
أحمد: وكيف أخرجوك من الولايات المتحدة؟
الشاب: عن طريق كندا في ملابس قسيس وبأوراق مُزيَّفة. طبعًا بعد أن قام ماكيير ماهر بتغيير ملامحي ولون شعري إلى آخره.
أحمد: وهل أتممت صنع القنبلة الذرية حقًّا؟!
الشاب: نعم.
أحمد: وكيف تفعل ذلك وأنت تعرف ماذا تريد العصابة بها؟!
الشاب: حتى الآن لا أعرف … ولكني استنتجت طبعًا أن العصابة سوف تستخدمها للتهديد والابتزاز.
أحمد: ولماذا لم تمتنع عن العمل؟
الشاب: لأن والدتي ووالدي وإخوتي مهدَّدون بالموت … وقد أحضروا لي تسجيلات بأصواتهم فهمت منها ما حدث لهم … ولم يكن في إمكاني إلَّا أن أفعل ما فعلت.
ساد الصمت لحظات وتناول الشاب فنجان الشاي، وأخذ يرشف منه في هدوء …
أحمد: هل يسمحون لك بالتجوُّل؟
الشاب: نعم … ولكن هناك حارس دائمًا خلفي … وهو يقف الآن أمام الباب!
أحسَّ «أحمد» بميل نحو الشاب فقال: ما اسمك؟
ردَّ الشاب: ممنوع أن أقول اسمي لأحد … ولكن ممكن أن تناديني «مارلون»، فقد اعتادت أمي أن تناديني به.
أحمد: ماذا تتوقَّع بعد ذلك؟
الشاب: لا شيء سوى أن أعود إلى بلادي … إن رِد وعدني أن نرحل بعد أيام قليلة!
وما إن انتهى الشاب من فنجان الشاي حتى قام وهو يقول: إنني أنزل بالغرفة رقم «٣»، وتستطيع أن تزورني في أي وقت.
وتصافحا … وانصرف الشاب … وجلس «أحمد» في مكانه يُفكِّر … إن القنبلة جاهزة فعلًا للإطلاق … ولن يكون أمام رقم «صفر» والحكومات العربية إلا دفع المبلغ الضخم … ونظر حوله … كانت الغرفة كلها منحوتةً في الصخر … وليس بها إلَّا مخرج واحد هو الباب. ووقف في هدوء ثم اختبر الباب … وتأكَّد على الفور أنه في إمكانه فتحه … فالسلاح الدقيق الذي يُخفيه معه بعض الأدوات الدقيقة التي يُمكن أن تفتح أي باب … ولكنه لم يُفكِّر أن يفتح الباب الآن … لقد قرَّر أن ينتظر حتى يهبط الظلام … وهو يعرف أن رقم «صفر» لن يرد قبل الساعة العاشرة ليلًا حسب الاتفاق … سيتصل ﺑ «إلهام» … بكازينو لبنان … وتسأل عن «دراكسي» وهو أحد أعوان «رد روك» … ثم تعود «إلهام» و«دراكسي» بالرد إلى مقر العصابة السرِّي في بطن الجبل.
تمدَّد «أحمد» إلى فراشه وأخذ يُفكِّر في جغرافية المكان … الدخول لا يعرفه … فقد كان الوقت ليلًا وقد ربطوا عينَيه … ثم فتحها في الدهليز الصخري … وعند تقاطع الدهليز الرئيسي مع دهليز فرعي ركب المصعد … واستغرق المصعد إلى مكتب «رد روك» نحو دقيقة … أي أنه على ارتفاع نحو عشرة أمتار … وفي غرفة «روك» بابان … لا بد أن أحدهما يؤدي إلى غرفة نومه … والثاني إلى غرفة التحكُّم في جهاز إطلاق الصاروخ … ومضى «أحمد» يُفكِّر ويرسم ويُخطِّط وهو مستلقٍ على سريره … وغلبه النعاس مرةً أخرى فنام … وعندما استيقظ وجد الساعة قد تجاوزت السابعة مساءً … وأحسَّ بكل خلية في جسمه تضج بالنشاط والحيوية، وأنه على استعداد للإقدام على أية مغامرة … المهم أن يتصرَّف بالعقل.
وقام إلى الباب وحاول فتحه ولكن الباب كان مغلقًا … فدقَّ عليه … وسرعان ما ظهر حارس خلف الباب وفتحه، ثم خرج «أحمد» قائلًا: أريد أن أتجوَّل قليلًا في المكان؛ فقد تيبَّستْ عظامي.
ولم يرُدَّ الحارس ولكن مضى خلف «أحمد» يتبعه خطوةً خطوة … ومشى «أحمد» يتفرَّج على هذه القلعة الحصينة من الداخل … كانت في الواقع هندسيةً لم يملك نفسه من الإعجاب بها؛ كانت كل الأبواب من الصلب القوي بحيث يصعب تمامًا فتحها … والصالة الرئيسية مستديرة تتفرَّع منها الدهاليز إلى مختلِف أنحاء المكان … وعلى مدخل كل دهليز أرقام الغرف التي به … وعرف أن غرفة «مارلون» في الدهليز رقم «٢» … ثم قرأ على أحد الدهاليز كلمة «جيروسكوب» … ممنوع الاقتراب.
أخذ «أحمد» يتذكَّر المعلومات التي درسها في المقر من الأجهزة الإلكترونية وغيرها من أدوات الحركة والمقاس … إن «جيروسكوب» تعني جهاز ضبط الاتجاه … فإلى أي مكان وجَّه «رد روك» القنبلة؟
ولم يتوقف كثيرًا أمام المكان حتى لا يلفت الحارس نظره … بل عاد بعد ذلك إلى غرفته … وبعد قليل وصلته وجبة العشاء فتعشَّى … ونظر إلى ساعته … كانت التاسعة وقد بقيتْ ساعة لتعود «إلهام» بالرد مع «دراكسي» … فهل رتَّبت «إلهام» أي خطة لمعرفة المكان أو اقتحامه … هل وصل بعض الشياطين إلى لبنان؟! ماذا يفعل رقم «صفر»؟
كانت الساعة الباقية كأنها سنة، و«أحمد» يتصوَّر كيف تعود «إلهام» … وماذا تحمل معها … ولم تكن الساعة تصل العاشرة حتى قفز من مكانه وفتح الباب سريعًا، ثم انطلق في الممرَّات إلى غرفة «رد روك» … ووجده يجلس وحيدًا يُدخِّن في انتظار حضور «إلهام» … ولم يتحدَّثا … لقد كان كلٌّ منهما ينتظر الرد … ومضى نصف ساعة، ثم وصلت «إلهام» تحمل مظروفًا صغيرًا … دفعت به إلى «رد روك» … ولم يكد الرجل يقرأ ما في المظروف حتى لمعت عيناه … وانحدرت قطرة عرق مسرعة على جبهته … وبدا وجهه مُربدًّا كأنه احترق … وقال بصوت مختنق: هذا ليس ردًّا … إنه محاولة للتسويف!
كان «أحمد» يجلس هادئًا وقد أمسك بيد «إلهام» فسأل «رد روك»: ماذا في الرد؟
دفع «رد روك» بالرسالة إلى «أحمد» الذي قرأ ما فيها … كان سطرًا واحدًا: «لا أستطيع أن أضمن أي شيء … سأتصل بالحكومات المعنية …»
قال «أحمد»: هذا هو الرد الوحيد المنطقي … إن قيادتنا لا تملك التصرُّف في أي شيء.
صاح «رد روك» ولعابه يسيل من فمه في غضب شديد: ومتى يتم الاتصال؟ … ومتى يرد؟ إن هذا كلام فارغ … بعد أن عرَّضت نفسي للمخاطر! وأشار بيده إشارةً غاضبة، فقام الحُرَّاس بجذب «إلهام» و«أحمد»، وسرعان ما ألقوا بهما في حجرتهما … ثم قيَّداهما.
كانت الأحداث سريعةً حتى أذهلت «أحمد» لحظات … فلم يستردَّ أنفاسه إلا بعد أن وجد «إلهام» تنظر إليه وتبتسم … ثم أخذت تزحف لتقترب منه وتقول: وصل «عثمان» و«بو عمير» و«فهد» و«زبيدة» … وأعتقد أنهم قريبون جدًّا منا … لقد وصفت لهم بقدر الإمكان حدود المكان … ومعهم جهاز «جيجر» الذي يمكن أن يدلَّهم على المكان إذا كانت هناك أقل كمية نشيطة من الإشعاع.
قال «أحمد»: سنعمل بسرعة … ولن ننتظر معونةً من الخارج!
إلهام: كيف؟!
أحمد: هناك سلاح على جانب ساقي اليمنى من الداخل … حاولي الوصول إليه.
أخذت «إلهام» تهتز وتتلوَّى في محاولة مستميتة للاقتراب من ساق «أحمد» … وكانت يداها مقيدتَين خلف ظهرها، وأخذت أصابعها تعمل في محاولة لرفع ساق البنطلون … كانت المسألة بالغة الصعوبة … وفي النهاية وجدت أنها غير ممكنة … وقالت: من الأفضل تمزيق القماش.
ومرةً أخرى أخذا يتلوَّيان في اتجاهات مختلفة … ولكن قماش البنطلون كان سميكًا وقويًّا … ولم يعد هناك بُدٌّ من استخدام أسنانها في تمزيقه … وبعد لحظات كانت قد شقَّت البنطلون … ثم مدَّت أصابعها واستطاعت الوصول إلى السلاح، وجذبته. كان أنبوبةً من الصلب … تكون مسدَّسًا صغيرًا ومجموعةً من الأدوات الدقيقة … وبإحدى هذه الأدوات استطاعت «إلهام» أن تقطع قيود «أحمد» … وبعد لحظات كان «أحمد» قد خلَّص «إلهام» من قيودها.
أسرع «أحمد» إلى الباب فوضع أذنه عليه، وأخذ يتصنَّت بعمق، ثم مال على «إلهام» وقال: أعتقد أن القاعدة نامت … ولكن سننتظر نصف ساعة أخرى.
وسكت «أحمد» لحظات ثم سأل: هل تلقَّيت تقارير من رقم «صفر»؟
إلهام: نعم … إنه مندهش أشد الدهشة … وهو على اتصال بكل الجهات المعنية، كما أن مجموعة عمل من رجاله قد بدأت البحث هي الأخرى في نفس المنطقة … كما أن هناك مجموعة طائرات استكشاف تمر فوق الجبال وتقوم بتصوير المكان!
أحمد: لا بأس … ولكن سنحاول نحن …
إلهام: الهروب من المكان!
أحمد: لا.
ومضت النصف ساعة في حديث هامس عن خطوات العمل القادم … ثم قام «أحمد» مرةً أخرى إلى الباب … وبدأت أدواته الدقيقة تعمل … ولم تمضِ ثوانٍ قليلة حتى كان الباب قد فُتح …
قالت «إلهام»: سيكتشفون في أية لحظة أننا هربنا!
أحمد: هذا ما أريده بالضبط … إنني أريدهم أن يرتبكوا.
وفتح «أحمد» الباب … وأطل خارجًا … وفي لحظة هوت على رأسه ضربة قاسية ترنَّح على أثرها وسقط … وبدا رجل في فتحة الباب … ولم يكن أمام «إلهام» إلَّا شيء واحد … اندفعت بكل قوتها في ضربة قاتلة بقدمها في بطن الرجل … وبينما كان يترنَّح إلى الأمام وضعت قبضتها معًا في ضربة على عنقه، فارتطم وجهه بالأرض الصخرية وغاب وعيه.
شدَّت «إلهام» «أحمد» إلى داخل الغرفة ثم أغلقت الباب بهدوء، وأسرعت إلى دورة المياه الصغيرة وعادت بالمنشفة المبلَّلة بالماء، وأخذت تُدلِّك وجه «أحمد»، وبعد لحظات فتح عينَيه … ثم مدَّ يده يتحسَّس أثر الضربة على رأسه.
وأشارت «إلهام» إلى الرجل الممدَّد … وبدت الدهشة على وجه «أحمد»، ثم أخذ يزحف حتى وصل إلى الرجل … وبدأ يُفتِّش … مسدس … مجموعة من المفاتيح … فرح بها «أحمد» كثيرًا.
وربط الرجلَ ببقايا الحبال التي كانا مربوطَين بها، ثم سحباه إلى دورة المياه وأُغلق الباب … ومرةً أخرى اتجه إلى الصالة الرئيسية … أسرع «أحمد» إلى الدهليز رقم «٢» وخلفه «إلهام» تحمل مسدس الحارس الصريع … ثم اتجه «أحمد» إلى غرفة «الجيروسكوب» … وجرَّب المفاتيح التي كانت مع الحارس، وسرعان ما انفتح الباب وتقدَّم «أحمد» من الجهاز … وفي هذه اللحظة سمع «أحمد» و«إلهام» صوت أقدام تقترب من باب الغرفة، ورفعت «إلهام» المسدس … ولكن «أحمد» أشار لها أن تنتظر … واختفيا معًا خلف الباب. أطل وجه من الباب … ورفعت «إلهام» مسدَّسها بسرعة لتهوي به عليه … ولكن منع يدها … لقد كان «مارلون» عالم الذرة الشاب.