النشوة في نوفمبر
لدى خروجه من مملكة النوم الغامضة تلقى وحدته، أمس والآن وربما غدًا. بلورة الوعي المتثائب. وطاف حنينه بأجواء غريبة حبيبة، الولد في بلجيكا والبنت في سنغافورة، ورفيقة العمر تحت الثرى. لكنه يستقبل الصباح الباكر بارتياح وبشر. نوفمبر ذو برودة حانية، يغادر الفراش، يتناول الروب من فوق المشجب ويلتف به، ثم يذهب إلى حجرة السفرة؛ ليجد الشاي والجبن والشهد والتوست المحمص في انتظاره على أحسن صورة.
عبده عجوز نشيط رغم طعونه في السن. وهو سعيد حقًّا بالجبن والعسل. الجبن الدمياطي الأبيض والعسل البائح بشذا البرتقال. يحب منظر إبريق الشاي الفضي وأوعية اللبن والسكر والأطباق الصغيرة المزخرفة. ويركب طاقم أسنانه ويقبل على الإفطار بشهية. لم يعد يضيق بالوحدة كما تعود على الحياة بعد السبعين. صحة لا بأس بها، بوسعها أن تهنأ بالهدية إذا جادت بها السماء على غير انتظار. هدية جميلة حقًّا قلبت موازين الزمن، وشحنت الدقائق والساعات بالوعود المسكرة، وعندما ارتدى ملابسه بدا في بدلته الصوفية نحيلًا طويلًا، أبيض الرأس والشارب، خفيف التجاعيد .. ووجد الشارع أمام العمارة مغسولًا متألقًا، ترى هل أمطرت بعذوبة في الليل؟ وانبسطت السماء بين هامات العمائر تسبح فيها السحب البيضاء في زرقة عميقة صافية. انشرح صدره وتحفز للهو رغم موعد الطبيب المضروب. وطبيبه أيضًا على المعاش ويستقبل مرضاه خلال ساعتين أو ثلاث في نصف النهار الأول. وبسبب من بعض الأمراض المزمنة — القلب مثلًا — تنشأ صداقة بين المريض والطبيب على مدى الزمن. تصافحا، جلس أمام مكتبه الحافل بالمراجع وقوارير العينات حتى تساءل الطبيب: خير؟
– وجبت الزيارة بعد غياب أشهر.
وخلع جاكتته ومضى إلى الفراش وراء البرافان، ففك حزام البنطلون، واستلقى على ظهره، وفحصه الرجل بعناية مستعينًا بأصابعه المدربة ومقياس القلب والضغط، وفي أثناء ذلك جعل يعلق على الأحداث السياسية المثيرة، فضحك الرجل الراقد وتساءل: حتى متى يحل لأمثالنا الكلام في السياسة؟
فأجابه الطبيب، وهو لا يكف عن الفحص: حتى تختل الذاكرة فتعفينا من قرفها، كيف حال ذاكرتك؟
– نحمده، ولكنها فقدت مزايا لا يستهان بها.
– على فكرة، الدواء الذي تواظب عليه ينفع أيضًا للذاكرة.
وارتدى ملابسه وعاد إلى مجلسه الأول أمام المكتب، وأخرج من جيب الجاكتة الصغير مشطًا فسوى به شعره الأبيض الذي تشعث.
وقال الطبيب: بصفة عامة الحالة طيبة لا تغيير في الدواء ولا إضافة، وعليك بتجنب الانفعال.
– نصيحة ثمينة ومستحيلة.
– لا أعني الانفعال وحده!
– أفندم؟
ابتسم الطبيب ابتسامة ذات مغزًى وقال: أنت تزعم أنك ما زلت قادرًا على الحب؟
– ولكني عجوز أرمل!
– عظيم، واظب على ذلك.
فهز رأسه موافقًا أو متظاهرًا بذلك، فقال الطبيب ضاحكًا: صحتك أحسن من صحتي.
غادر العيادة مطمئنًا، وقال لنفسه: إن نشوة رقيقة خير من حياة عامين بلا نشوة. وابتسم داخله. أحمق أم حكيم؟ رب أحمق حكيم ورب حكيم أحمق. مَن يرفض هدية سقطت من السماء سهوًا؟ وحام خياله وهو في السيارة حول التجربة الجديدة، تلك الجارة المحترمة في الأربعين أو جاوزتها بقليل، غاية في النضج والجاذبية. كيف ولماذا أثار اهتمامها؟ لن يجد عند المنطق جوابًا ولكنه اهتمام مذهل فلم يستطع أن يقاومه. يقاومه؟ هوَى من حصنِه دون أدنى مقاومة. وهبته نشوة فاقت جميع انتصارات الحياة. ذاق انتصارات المناصب والثراء والزواج الأرستقراطي الموفق والبنوة الفريدة، هذا الانتصار يفوق سابقيه جميعًا، ولعله لم يفقد حُسن إدراكه فهو يشعر بأنه لا يحب، إنه لا يحب كما أحب في الماضي البعيد. ما هو إلا تعلق بأهداب الحياة. آخر نظرة للشمس قبل الغروب، وهل نسي أنه نبذ فرصة متاحة، وهو في الخمسين رافضًا أن يخون رفيقة عمره؟ ولكن الاستهانة بالفرصة الأخيرة جنون، جنون لا يغتفر. وانزلق في رعونة إلى الحلم بتبادل الإشارات خلسة .. وينتظر في قلق .. ويسعد باللقاء .. ويتغنى بالعواطف كالأيام الخالية. بل افترض أيضًا أنها امرأة ذات خطة وغرض، ومكر ودهاء، فلم يثنه ذلك عن الاندفاع، ورأى العدل كل العدل في أن يؤدي ثمن ما ينال، غير أن الأيام تمر ولا تبدي هي إلا الود، وتهب الحرارة والصدق، دون أي مقابل. فليصدق إذن، أو فليصدق وليوطن نفسه على أي نكسة، ولو أنه كاشف طبيبه نفسه بما يفعل لاقتنع، بل ولربما حسده على جميل حظه؛ لذلك لم يكبح تحذيرُ الطبيب إصراره واندفاعه. وانطلق مساء اليوم نفسه إلى عشه، ونسي في رحابها هموم الحياة وهواجسها، وامتلأ فؤاده بالرضا والراحة والسرور. طيبة ورقيقة ومستجيبة ولله في خلقه شئون. يقول لها: توجد أماكن صباحية غاية في الأناقة والعزلة، فتقول: الستر أوجب.
فيقول متمنيًا: ليتني أرجع إلى الوراء ثلاثين عامًا.
فتقول باسمة: ولكني أحبك كما أنت!
أحيانًا يصدق ولا يصدق أحيانًا. في فترة الجفاف تنبثق له وردة مشتعلة الأوراق. ويتوقع مفاجأة لا تريد أن تقع، ويتمادى في لهفة وراء النشوات. حتى شعر ذات صباح أنه في أشد الحاجة إلى لقاء طبيبه، لم يستطع أن يغادر فراشه وكان ذا خبرة سابقة، وجاء الطبيب وراح يفحصه بعناية وهو يقول: انقطعت عني مدة غير قصيرة.
لاذ بالصمت أو أُجبر عليه، وفرغ الطبيب من فحصه فقال: أزمة بسيطة ولكن الأفضل أن تنتقل إلى المستشفى، ما رأيك؟
أجاب بصوت ضعيف: كما تشاء.
– هناك ستجد كل ما يلزم وسوف أرتب كل شيء، وإن شاء الله تسترد صحتك في أقرب وقت.
– أشك في هذا.
– ليس الأمر بالخطورة التي تظن.
– بل هو خطير حقًّا.
– سوف أذكرك.
وتردد الطبيب قليلًا ثم قال باسمًا: يبدو أنك لم تعمل بنصيحتي!
فقال وهو يسدل جفنيه: ولست نادمًا على ذلك.