يوم الوداع
الحياة ماضية بكل جلَبتها كأن شيئًا لم يكن، كل مخلوق ينطوي على سره وينفرد به. لا يمكن أن أكون الوحيد، لو تجسدت خواطر الباطن لنشرت جرائم وبطولات، بالنسبة لي انتهت التجربة من جراء حركة عمياء، لم تبقَ إلا جولة وداع عند مفترق الطرق تحتدم العواطف وتنبعث الذكريات. ما أشد اضطرابي! تلزمني قدرة خارقة للسيطرة على نفسي، وإلا تلاشت لحظات الوداع، انظر وتملَّ كل شيء، وانتقل من مكان إلى مكان، ففي كل ركن سعادة منسية يجب أن تذكر، يا لها من ضربة مفعمة بالحنق والغيظ والكراهية! اندفعت بقوة طائشة ونسيان تام للعواقب، تطايرت حياة لا بأس بها. انظر وتذكر واسعد ثم احزن. لأسباب لا وقت لإحصائها انقلب الملاك شيطانًا، شد ما يلحق الفساد بكل شيء طيب، واقتلع الحب من قلبي فتحجر. لنتناسَ ذلك في الوقت القصير الباقي، يا لها من ضربة قاضية! ما الأهمية؟ هذا شارع بورسعيد يتحرك تحت مظلة من سحب الخريف البيضاء. الأبخرة المتصاعدة من صدري تغبش جمال الأشياء، وغمزات الحنين من الماضي البعيد تطرق أبواب قلبي، قدماي تجرانني إلى زيارة أختي. وجهها الهادي الشاحب يطالعني من وراء شراعة الباب، يشيع فيه السرور وتقول: خطوة عزيزة على غير توقع، في هذا الوقت الباكر.
ذهبت لتعد القهوة وجلستُ في حجرة المعيشة أنتظر، نظر إليَّ الوالدان والإخوة الراحلون من صورهم القائمة فوق المناضد. لم يبقَ لي إلا هذه الأخت الأرمل المحرومة من الذرية التي وهبت موفور حبها لي ولسميرة وجمال. هل جئت لأوصيها بابنتي وابني؟ رجعت بالقهوة ومن داخل روبها الأبيض تساءلت: لِمَ لم تذهب إلى الشركة؟
– إجازة لوعكة.
– واضح ذلك من وجهك، نزلة برد؟
– نعم.
– لا تهمل نفسك.
بدأ وجهي يفضحني. ترى ماذا يجري في شقتي التعيسة الآن؟
– زارني أمس سميرة وجمال.
– إنهما يحبانك كما تحبينهما.
– وكيف حال سهام؟
يا له من سؤال بريء!
– بخير.
– ألم يتحسن الجو بينكما؟
– لا أظن.
– دائمًا أنصحها وأشعر بأنها تضيق بي.
غلبني القهر؛ فسكت، فقالت: زماننا يحتاج للصبر والحكمة.
أود أن أوصيها بسميرة وجمال، ولكن كيف؟ سوف تدرك مغزى زيارتي فيما بعد. هل تغفر سميرة وجمال لي ما فعلت؟ ما أشد اضطرابي.
– ما رأيك في أن أصحبك الآن إلى طبيب؟
– لا ضرورة لذلك يا صدِّيقة، سأذهب الآن؛ لإنجاز بعض الأعمال.
– وكيف أطمئن عليك؟
– سأزورك غدًا!
غدًا؟! ها هو الطريق من جديد. انظر وتملَّ وانتقل من مكان إلى مكان، شاطئ اسبورتنج وحيد أيضًا، خالٍ من البشر وأمواجه تصطفق منادية بلا مجيب. القلب يخفق تحت غلاف الهموم المحكم. ساعة خرجت من الماء بجسمها الرشيق، مخضبة الإهاب بلعاب الشمس. تلفعت بالبرنس وهرعت إلى الكابينة؛ لتجلس عند قدمي والديها، كنت أتمشى في بنطلون قصير فالتقت عينانا. غمرني ارتياح ابتهج له قلبي، وناداني صوت فلبيت فوجدتني في مجلسها، وكان المنادى خالها وزميلي في الشركة. وتعارفنا وجرى حديث عابر ولكن ما كان أمتعه! لحظات من السعادة الصافية لا تشوبها شائبة. لا تتكرر، تأبى أن تتكرر، تطوف بقلبي الآن على هيئة حنين طائر. له وجوده الدافع رغم تمزق الخيوط التي ربطته يومًا بالواقع. وقولها ذات يوم: قلبك طيب والقلب الطيب لا يقدر بثمن، حقًّا؟ مَن إذن القائلة لا يوجد من هو أخس أو أحقر منك، ومن القائلة ربنا خلقك لتعذيبي وتعاستي، كان على الحب أن يصمد أمام خلافات الأمزجة، ولكن الخلافات قضت على الحب. كلانا عنيد شعاره كل شيء أو لا شيء. أنت مجنونة بالمظاهر الفارغة. فتصرخ في وجهي: بل أنت متخلف. سميرة وجمال يلوذان بحجرتيهما مذعورين. شد ما أسأنا إليهما! عانى الحب بيننا ساعة بعد أخرى ويومًا بعد يوم حتى لفظ أنفاسه. اختنق في لجة الجدل والخصام المستمرین، والشتائم المتبادلة. ولكن في هذا الكازينو، في هذا الركن بالذات، كاشفت خالها بإعجابي بها.
– إنها متعلمة، لم تدخل الجامعة. أبوها له سياسة خاصة، بعد التعليم الثانوي يعد الفتاة للبيت اكتفاء بدخل لا بأس به.
قلت: هذا مناسب جدًّا، دعانا — أنا وهي — إلى عشاء في سانتالوشيا. التقينا في حديقة البجعة بعد ذلك، أيام الخطوبة والأحلام والسلوك المثالي أسمع نغمة جميلة تهيم رغم تقصُّف جميع الأوتار التي عزفتها. يا لها من ضربة قاضية! ماذا يحدث في الشقة الآن؟ لم لا تكون الحياة أيام خطوبة دائمة؟ آه يا أقنعة الأكاذيب التي نتوارى خلفها! لا غنى عن وسيلة ناجعة لمعرفة النفس.
– أستاذ مصطفى إبراهيم؟
نظرت إلى المنادي، فإذا به مفتش بالشركة ماضيًا ولا شك إلى عمل.
– أهلًا عمرو بك.
– إجازة؟
– متوعك.
– واضح جدًّا .. تحب أوصلك إلى أي مكان؟
– شكرًا.
لعله أول شاهد، كلا. رآني جاري الدكتور وأنا أغادر الشقة، هل لاحظ شيئًا غير عادي؟ رآني البواب أيضًا. لا أهمية لذلك، لم أفكر في الهرب قط، في الانتظار حتى النهاية. لولا هيامي الأخير بالوداع لذهبت بنفسي، لم أسعَ إلى نبذ الحياة باختياري. انتزعت من بين يدي عنوة، ما قصدت هذه النهاية أبدًا، بيني وبين الخمسين خمس. ورغم المعاناة فالحياة حلوة، لم تستطع سهام أن تبغضها إليَّ، هل أزور سميرة وجمال بكلية العلوم؟ ذهبا دون أن أراهما ولم أكن أتوقع ما حدث، ولن أجد الشجاعة للنظر في عينيهما، ويعز عليَّ أن أتركهما لمصيرهما. أتصورهما يطرقان الباب دون أن تهرع ماما لفتحه. سيخلف هذا اليوم أثره حتى نهاية العمر، وإذا لعناني فلهما الحق. متى أتناسى كربتي وأخلص للوداع؟ انظر وتملَّ وانتقل من مكان إلى مكان. السوق .. يوم سرنا في السوق لنبتاع الدبلتين، ويشعر من يمتلك العروس أنه يتحفز لامتلاك الدنيا. ويشعر بأن السعادة قد تكون أي شيء إلا أن تكون كالكحول، وأقول لها بوجد: إلى سان جيوفاني.
فتقول مشرقة: أتلفن لماما.
الرقة والعذوبة والملائكية في أيامنا الأولى. متى وكيف ظهرت المرأة الجديدة؟ بعد الأمومة ولكن دون تحديد حاسم، كيف هيمن عليَّ شعورٌ بخيبة الأمل؟ قالت لي سميرة مرة: ما أشد غضبك يا بابا وما أسرعه! واعترفت لسهام مرة قائلًا: قد أنسى نفسي وقت الغضب، ولكنني لا أغضب إلا لسبب!
– وبلا سبب .. إنه سوء الفهم.
– تهدرين حياتنا في السفاسف.
– السفاسف؟! إنك لا تفهم الحياة.
– أنت مستبدة، لا وزن للعقل عندك، وما في رأسك يجب أن يتم دون اعتبار لأي شيء.
– لو احترمت آراءك لحقت علينا اللعنة!
أنظر وتملَّ وانتقل من مكان إلى مكان، أبو قير مصيف الفطرة. ليكن الغداء سمكًا، املأ بطنك، وحركه بشيء من النبيذ الأبيض، هذا المكان جلسنا فيه سويًّا، وعلمنا فيه سميرة وجمال السباحة وهما صغيران، اهدأ يا اضطرابي فاليأس إحدى الراحتين. ألم يكن الأفضل أن أطلقها؟
– طلقني وخلصني.
– عز المنى لولا إشفاقي على سميرة وجمال.
– بل تشفق على نفسك بعد أن وضح لك أنك شخص لا يُطاق.
الحق أني تمنيت كثيرًا موتك، بيد الأقدار لا بيدي، أي متاعب تهون إلى جانب جحيم الكراهية، نتبادل الكراهية دون خفاء. بعد تبادل أقسى الألفاظ وأفظعها، كيف تناولت طعامي بشهية؟ حقًّا لليأس سعادة لا يستهان بها، وترامت من راديو أغنية «أنا والعذاب وهواك» فارتجف قلبي، أغنية أحببتها كثيرًا في ذلك الشهر المراوغ شهر العسل. كيف تتلاشى السعادة بعد أن تكون أقوى من الوجود نفسه؟ تتطاير من القلوب لتعلق بأجواء الأماكن بعد اندثار مصدرها، ثم تقع كالأطيار على الأرض الجافة، فتزخرفها بوشي أجنحتها ثواني من الزمن، أنا والعذاب وهواك وهذه الضربة القاضية، لعله اليوم الذي انقضضت فيه على سميرة بجنونك؛ ففزعت أدفعك عنها فسقطت على رأسك. يومها اشتعلت في عينيك نظرة غير إنسانية تمجُّ سمًّا: إني أكرهك.
– في داهية.
– أكرهك حتى الموت.
– إلى الجحيم.
– إذا تعكر قلبي، فهيهات أن يصفو.
هي الحقيقة للأسف، يا ذات القلب الأسود، لم يُجْد اعتذار أو مجاملة أو توادد، ولم يجرِ بيننا حديث بعد ذلك إلا عن الواجبات والميزانية، واختلط الانتقام بتكاليف المعيشة. ونضب معين الرحمة، حامت أحلامي حول الهروب كالسجين أو الأسير. جفت رغبات قلبي وأطبقت عليه الوحشة، وراحت تتصرف تصرف المرأة الحرة، فتذهب وتجيء بلا إذن أو إخطار، يلفها الصمت فلا تندُّ عنها كلمة إلا للضرورة، وانطوت على سرها كبرياء، فلم تشكني إلا لأختي صِدِّيقة. ولما لم تقم بما توقعته منها، وقصدت التوفيق كرهتها بدورها. وقالت: إنه ليس بجنون رجل ولكنه جنون متوارث عن أسرة. وانتهزت فرصة انفرادي بسميرة وجمال، سألت عن رأيهما فيما يشهدان من أحوالنا. قال جمال: حالكما لا يسر يا بابا، كحال بلدنا أو أسوأ؛ لذلك فإني سأهاجر في أول فرصة.
أعرف الكثير عن تمرده، أما سميرة فبنت عاقلة، متدينة وعصرية في آنٍ، ولكنها قالت: معذرة يا بابا، لا تسامح من ناحيتك أو ناحيتها.
– كنت أدافع عنك يا سميرة.
– ليتك ما فعلت، كانت ستصالحني بعد ساعة، لكنك سريع الغضب يا بابا.
– لكنها غير معقولة.
– بيتنا كله غير معقول!
– اخترتك قاضية.
– كلا .. لا يحق لي هذا أبدًا.
– لم أجد عندكما أي عزاء.
فقال جمال: لا عزاء عندنا ولا عزاء لنا.
إذا لم يحبني هذان الاثنان كما أحبهما؛ فأي خير أرجو في هذا الوجود؟! آه! .. انظر وتمل وانتقل من مكان إلى مكان، بحق الحياة الضائعة، عش الساعة التي أنت فيها وانسَ الماضي تمامًا، املأ عينيك؛ فما تغادره لن تراه مرة أخرى، كل لحظة هي اللحظة الأخيرة، من دنيا لم أشبع منها ولم أزهد فيها، وانتُزعت من بين يدي في هوجة غضب. أي شارع من هذه الشوارع لم يشهدنا معًا؟ أو يشهد أسرتنا الكاملة وسميرة وجمال يتقدماننا. ألم تكن توجد وسيلة لإصلاح ذات البين؟ أقسى عقوبة أن تودع الإسكندرية في مجلى خريفها الأبيض، وفي عنفوان الرجولة والرشاد. وهذا هو البحر الصامت في الناحية الأخرى من أبو قير، ونغني معًا: «يا للنعيم اللي انت فيه يا قلبي»، في حوار غنائي بين قلبين يقظين، وسميرة وجمال مبهوران بعدِّ قوارب الصيد الراسية فوق شعاع القمر. هل يكفي يوم واحد للطواف بمعالم ربع قرن؟ لم لا نسجل الاعترافات العذبة في إبانها لعلها تنفعنا وقت الجفاف؟ الذكريات كثيرة مثل أوراق الشجر والمدة الباقية قصيرة مثل السعادة، السعادة تغيب الوعي حين حضورها وتراوغنا بعد زوالها، ومَن لي بمن يجمعني بدولت؟ لا سبيل إلى ذلك اليوم. ولو تيسر لزادني ارتباكًا وفضح أمري قبل الأوان. وما جدوى ادعاء حب لا وجود له؟ اليأس وراء انزلاقي فيه. ولم تكف أبدًا عن التلويح لي بالزواج دون اكتراث لمصير سميرة وجمال، ليس هو بحب ولكنه نزوة انتقام. ليتني وقفت عنده ولم أعبره للضربة القاضية. المساء يهبط والبحث عنى يشتد ولا شك، فلأنتظر في إستريا أحب أماكن المساء إليَّ، مجمع الأسر والعشاق والأحلام الوردية. الجعة والعشاء الخفيف والمرطبات، ربما أكون المنفرد بنفسه الوحيد. معذرة يا سميرة معذرة يا جمال، استقبلت الصباح بنية صافية، ولكنه الغضب يطوح بنا فوق المحاذير، ضرعت إلى الساعة أن تتأخر دقيقة واحدة. ولما تلاشت التوترات العنيفة لم يبقَ إلا اليأس بوجهه الثلجي الأبكم، وجلت جولة الوداع يتبعني الموت حينًا ويتقدمني حينًا آخر. أختزل العمر في ساعات، فعرفت الحياة أكثر من أي وقت مضى. ما أسعد الناس من حولي ولو وقفوا على سري لسعدوا أكثر، ويسألني النادل مجاملًا: أين الهانم؟
فأجيبه باكتئاب خفي: مسافرة.
لم يعد في الوقت بقية. عما قريب سيقترب مني رجلان أو أكثر: حضرتك مصطفى إبراهيم؟
– نعم يا أفندم.
– تسمح تتفضل معنا!
أقول بهدوء كامل: كنت في انتظاركم.