أحلام متضاربة
كنا زميلين في العمل بسكرتارية وزير المعارف، كما كنا زميلين من قبل بكلية الحقوق. عمل هو — محمد العبلاوي — سكرتيرًا خاصًّا للوزير بحكم قرابته له، ولمرانه على لقاء كبار الزوار؛ اكتسابًا من نشأته في الطبقة العليا، وعملت أنا كاتبًا مختصًّا بشئون الصحافة. وسمعته يومًا يعلن قراره عن خوض معركة الانتخابات القادمة بعد وعد من عمه — نائب الدائرة — بتنحيه عنها له، وليس ذلك غالبًا إلا تمهيدًا لتوليه الوزارة في أول فرصة تسنح. وكانت علاقتنا طيبة جدًّا كما كانت علاقته بإخوانه على أتم ما يكون من المودة والمروءة، وقلت له يومًا: ستكون نائبًا، ثم وزيرًا، فعدني بألَّا تنساني.
فابتسم مبتهجًا بوجهه الجامع بين الجمال والوقار رغم شبابه اليافع، وقال: لك مني وعد شرف بألَّا أنسى العهد أبدًا.
ولكن لم يقدر له أن يخوض المعركة الانتخابية، ولا أن يتولى الوزارة فقد انسدَّ طريقه بغتة بقيام ثورة يوليو، وتبدى واجمًا من اليوم الأول، وسألني في حيرةٍ: هل سمعت شيئًا؟
فقلت ببراءة: إنها كما تعلم الخلافات المعروفة بين الملك والجيش، وسوف تسوى لحساب الجيش.
فقال شاردًا: لا .. إنها أكبر مما تظن.
واستقال صاحبي من وظيفته باختياره، واختفى من مجالي تمامًا. وسارت الثورة في طريقها المعروف، وتغير النظام الطبقي في مصر تغيرًا ملموسًا، وتفتحت دنيا الآمال أمام أمثالنا. لم تقع عيني على صديقي القديم زمنًا طويلًا، وكان يخطر ببالي في مناسبات كثيرة مثل الإصلاح الزراعي، التأميم، الحراسة، المصادرة. أحداث اتسمت بالحزم، واستجابت لها أنفس لا حصر لها بالارتياح وأحيانًا بالشماتة، ولم يكن من السهل لدى كثيرين نسيان القرون التي استعبد فيها الشعب لصالح قلة من المواطنين. فأي ظلم في أن يرتفع المظلومون ويهبط الطغاة؟! وكدت أنساه تمامًا حتى صادفته مقبلًا نحوي في شارع طلعت حرب في الستينات. من أول نظرة تم التعارف والتذكر، وكأنما لم نفترق إلا أمس، ولكنه شخص آخر تمامًا. وتساءلت: ترى هل أدركني نفس التغير وأنا لا أدري؟ كلا، ليس السن وحدها. تلاشت تمامًا الأناقة والرونق، وبرزت معالم شيخوخة قبل أوانها، فابيض شعره كله وتجلت عظام وجنتيه، وأفظع من ذلك كله نظرة العينين الخابية المنهزمة الضائعة، وصوته المنخفض، كأنه الخائف الأبدي أو المراقب أو المطارد.
– كيف حالك؟
– الحمد لله.
– أين أنت الآن؟
فأجبت متلعثمًا: مدير الإدارة القانونية.
– مبارك.
– وأنت؟
– كما ترى!
ثم بصراحة غريبة: لولا حُليُّ زوجتي لهلكنا جوعًا!
فارتبكت كأنني المسئول عما حل به، وقلت مجاملًا: غير معقول.
– أصادف أحيانًا وزراء سابقين في سوق بيع الحُلي.
– يؤسفني أن أسمع هذا يا عزیزي.
وهمَّ بالانطلاق في الحديث، ولكنه عدل فجأة، وتحول به عن مجراه فسألني: هل أستطيع أن أعتمد على معاونتك في نشر بعض القطع المترجمة بأي ثمن؟ .. لا شك أنك تعرف صديقًا هنا أو هناك يمكن أن تُقبل شفاعته في ذلك.
فقلت بصدق: أعدك ببذل أقصى ما لديَّ من جهد.
وتصافحنا ومضى. ولم أقصر، فطرحت الموضوع على صحافي صديق، رحب من ناحية المبدأ، ولكنه عندما سمع اسم المترجم «العبلاوي»، هتف: يا خبر أسود، أسعى في الخير اليوم؛ لأجد نفسي غدًا في المعتقل!
ولكنه لم يتصل بي مرة أخرى. وغاص من جديد في ظلمات الاختفاء، فأعفاني من الحرج.
وتتابعت الأيام بأحداثها. رحل زعيم وتولى زعيم، وجاء عصر الانفتاح ساحبًا وراءه التضخم، ورجعنا نحن — الموظفين — إلى المعاناة والضيق والخوف من المستقبل، بل تهدَّدَنا الجوعُ نحن وأبناءنا. وذهلت يومًا وأنا أقرأ اسم صديقي القديم في مجلة ضمن أصحاب الملايين الجدد. وقرأت له في صحيفتي اليومية سلسلة من المقالات يهاجم فيها الزعيم الراحل وعصره، ويشيد بالزعيم الحالي ومآثره. وألتقي بصديق من كبار العهد الناصري، فيجول معي في أبعاد المواقع ثم يقول بحنق: أردناها ثورة بيضاء، وها نحن ندفع الثمن!
غير أن انشغالي بلقمة العيش لم تترك لي فراغًا للكلام في السياسة. وفي حيرتي وعذابي تذكرت عهد الشرف الذي أعطانيه العبلاوي قبل الثورة إذا وليَ الوزارة. أجل إنه لم يلِ الوزارة، ولكنه على وجه اليقين أغنى من الوزراء مجتمعين. ولن يعجزه أن يجد لي عملًا في محيط نشاطه الحافل بالأعمال، وتحريت عن مكتبه حتى عرفت موقعه، ومضيت إليه كأمل أخير في حياتي العسيرة، والحق أنه استقبلني بحرارة نفت عني ارتباكي وحيرتي. وكان عليَّ أن أستغل الوقت أحسن استغلال بين رنين التليفونات والداخل والخارج، قلت: هل تذكر وعدك القديم؟
فضحك عاليًا ولم يتكلم، فقلت بإيجاز: لعلك تسمع عن معاناة ذوي المرتبات الثابتة.
فقال ساخرًا: كما سمعت أنت عن ضحايا عبد الناصر.
فقلت بسرعة: لم أقصر في حقك، ولكنك اختفيت عني تمامًا.
فقال باسمًا: أدركت أنني أورطك فيما لا قبل لك به.
ثم بلهجة جادة: أتريد عملًا في المكتب بعد الاستقالة من الحكومة؟
– كلا .. المعاش مهم أيضًا .. أريد عملًا إضافيًّا.
– لا مجال عندي لبطالة مقنعة كما تعلم، ولكن توجد وظيفة إضافية لسواق سيارة!
لطمة هوت على كرامتي فلم أدرِ ماذا أقول.
– لن يقل المرتب عن مائة جنيه!
تذكرت القبيلة الصغيرة التي تعاني في البيت، فقلت بتسليم: طبعًا في غير أوقات العمل الرسمية؟!
فقال بهدوء وربما بشيء من البرود: مفهوم!