تحت الشجرة
كأنما غادرها أمس. بمدخلها الضيق المتوج باسمها الرنان «فينكس، كافيتريا، بار»، وحجرتها المربعة المرصعة بموائدها الرخامية، وكراسيها الخرزانية ومقصفها المتصدر. وكالعادة مصابيحها مضاءة منذ الصباح لانزوائها في عمق بعيدًا عن نور الشمس. وجوه غريبة لزبائن جدد فيهم نفر من الأجانب. اختار كرسيًّا وجلس بجسمه الطويل النحيل المتهافت، وبنطلونه الرمادي وقميصه الأبيض نصف كم، ورأسه الكبير الموخوط بالشيب، ووجهه الغامق الموسوم بالعناء. نظر فيما حوله، وقلقت في عينيه الواسعتين نظرة حائرة. أقبل النادل، ولما رآه من قريب اتسعت عيناه دهشة وسرورًا، وهتف: مبارك يا أستاذ .. حمدًا لله على سلامتك.
وتصافحا. وطلب فنجان قهوة زيادة، ولكن الرجل سأله قبل أن يذهب: كيف الصحة؟
– كما ترى.
– ستعود كما كنت وأحسن.
حقًّا! سبع سنوات عجاف، ولكنه قال: ربنا يسمع منك.
وذهب الرجل ورجع بالقهوة؛ ثم صبها في الفنجان قائلًا: هذا الفنجان على حسابي!
– تُشكر.
– أسفنا جدًّا، ما باليد حيلة، على أي حال فأنت بطل!
رشف رشفة وسأله: لماذا؟
– السجن في سبيل المبدأ.
– عظيم، هل أنت مستعدٌّ لذلك؟
فضحك النادل الكهل قائلًا: لست بطلًا مثلك.
وذهب يلبي طلبًا. أتى على الشراب فلم يبقَ إلا الرواسب في القعر والتصاوير في الجدران. وتذكر قول قارئة الفنجان في الزمان الأول: قدامك سكة سفر وسعادة. يستوي قول الأول والآخر في الكذب. خمس سنوات ضاعت، وأبوه قال له: «حذارِ من الجنون يا مجنون، البلد مختنقة مهزولة، ولا هم للفقير إلا اللقمة ولا للقوي إلا الثروة». الواضح أن الإيقاع يتضاعف والجنون يتفشى. وتفرس في الوجوه من حوله بدهشة وإنكار. ولما رجع النادل الكهل إليه قال له: لا أرى أحدًا من زبائن زمان!
– لعلهم في البيوت، هؤلاء سماسرة ورجال أعمال وسياح، الانفتاح يا أستاذ.
– والأصدقاء ألا يجيئون كالعادة؟
– أبدًا .. منذ سنوات طويلة.
فعبس متسائلًا: كلهم؟
– ولا واحد يوحد الله.
– عندك فكرة عنهم؟
– طبعًا، القاسم والأرملاوي ورضوان مدرسون في السعودية.
– السعودية مرة واحدة؟
– خير وبركة.
– والقائمة السوداء؟
– لا سوداء ولا بيضاء. وأدوا فريضة الحج أيضًا!
ضحك على رغمه، فقال النادل: سيملكون الشقق والسيارات، لِمَ لا؟
– والسيوفي؟
– السيوفي وبدران ورزق الله في فرنسا، صحافة عربية، ثراء أيضًا، وقيل إن رزق الله اعتنق الإسلام!
ضحك مرة ثانية وتساءل: وأكرم؟
– تاب، ويعمل في الصحافة القومية.
– وجلال؟
– يعمل في الأهالي.
فضحك للمرة الثالثة وقال: لعله جُن!
– كلا، الذي جن هو الأستاذ البرديسي!
– تعني أنه في المستشفى؟
– كلا، يُرى أحيانًا في الشوارع يحاور الهواء.
– أفادك الله.
– حتى زملائي في القهوة هاجروا إلى العراق، ولولا سني للحقت بهم.
– ربنا يعوض عليك.
فحدجه بنظرة باسمة ثم سأله: وأنت متى تهاجر؟
فلم يجب، وارتسمت على زاوية فمه ابتسامة ساخرة، فقال النادل بنبرة ودودة: زمن المبادئ مضى، وهذا زمن الهجرة.
– كلامك كله حكمة.
وتجهم وجهه، فبدا أكبر من سنه بعشر سنوات. أي ماضٍ وأي حاضر وأي مستقبل. أين ومتى يقابل جلال؟ وكيف يصارع العبث؟ وقال للنادل: فنجان قهوة آخر، بن زيادة وسكر زيادة.