ذكرى امرأة
أسير تحت العمارة الشاهقة بشارع شريف كل صباح وكل ظهر في ذهابي إلى العمل، ولدى عودتي منه إلى محطة الترام. كلما أسير تحتها يرتفع بصري بحركة تلقائية إلى الدور الخامس، حيث تطل على لافتة الجراح المعروف (…) لا لأنه من أبناء الحي القديم وأقران الصبا فحسب، ولكن — وهو الأهم — لأنه تزوج من الفتاة التي استحوذت على إعجابي وحبي عهدًا طويلًا. لا يبقى اليوم من ذلك الحب إلا الذكرى، حكاية قديمة لم يكد يفطن إليها أحد. أما العاطفة المتأججة فقد بردت وماتت، وأمست نشواتها وآلامها كأن لم تكن، أو كأنما عاناها شخص آخر تلاشى في تيار الزمن العجيب. ويومًا أرى الطبيب واقفًا في الشرفة وراء اللافتة وهو يخطب .. يخطب؟ إي والله وبصوت كالرعد ملوحًا بذراعيه يمنة ويسرة، كأنما ليهيمن على جمهوره المحتشد. ولكن أين الجمهور؟ العمائر في الصف المواجه له إما مغلقة النوافذ، أو تنظر إليه من خلال أفراد تجمعوا في الشرفات والنوافذ من موظفي الشركات. وعابرو الطريق وقفوا قليلًا؛ لينظروا ويسمعوا ويتبادلوا النظرات والابتسامات، ثم يمضي كل إلى سبيله إلا المتسكعين، فلم يبارحوا الطوار وتابعوه باهتمام. لا أتصور أن أحدًا ميز كلمة مما يقول؛ لارتفاع موقعه، ولتضارب أصوات الخلق والمركبات. وتدل النظرات والهمسات على اقتناعهم بأن الطبيب خرج عن وعيه أو حصل له لطف. رغم غرابة المنظر وشذوذه وإغرائه بالضحك إلا أن جانبه المأساوي غلب، وسلط الوجوم على الخلق كغبار منتشر. والحق أني تألمت وملكني الرثاء للزميل القديم الذي فرق العمر والعمل بيننا. وطارت خواطري محتدمة نحو شريكته في الحياة، لؤلؤة حيِّنا التي لا تنسى، فأسفت من أعماق القلب. ولم أحتمل البقاء طويلًا، خاصة بعد أن سمعت أن البعض اتصل بالإسعاف وشرطة النجدة، فغادرت المكان مغتمًّا، تتقدمني صورة الفتاة التي فتنتني في الزمان الأول، وأتساءل: ترى كيف آل إليه حالها اليوم؟ هل ما زالت متمتعة بجمالها الرائق؟ وكم أنجبت من الذرية؟ أما زالت تشتغل بالتدريس أم استغنت عنه بعد أن أغناها الله؟ وكيف تتعامل مع هذا البلاء الذي ستُمتحن به؟ وتظل الواقعة حديثي مع نفسي، ثم مع الأصدقاء في المقهى، حتى عرفت ختامها صباح اليوم التالي في جريدة الصباح، بالبنط العريض وفي أسفل الصفحة الأولى قرأت «انتحار الجراح المعروف (…) يلقي بنفسه من شرفة عيادته بالدور الخامس»، شد ما تأثرت لتلك النهاية، وكل صديق تأثر لها حينًا، رغم أن علاقتنا به انقطعت منذ التحاقه بكلية الطب. واختلطت التفسيرات؛ لعله مرض لا شفاء منه، أو نكسة مالية مفاجئة، أو خطأ في نطاق المهنة، حتى قال أحدنا: أو جُنَّ وكفى، ألا يجن الإنسان بلا سبب إلا الجنون نفسه؟!
ومضينا ننسى المأساة كما ننسى كل شيء، ولكن صديقًا آخر فجرها قبل أن تموت. هو أيضًا طبيب من أقران الصبا، ويقيم في نفس الحي — الزمالك — الذي كان يقيم فيه المنتحر، ولم تنقطع صلته به قط، كما لم تنقطع بنفر منا. ولدى أول زيارة له في أعقاب الحادث توفر أكثر من سبب لإثارة الموضوع.
قال لي: أنت تذكره لا شك، كان غاية في الاتزان والاجتهاد.
فقلت مصدقًا: كل ما أذكره عنه حسن.
– هو أيضًا قمة في مهنته، وأثرى ثراء واسعًا.
– هذا مسلَّم به ولذلك تبدت مأساته لغزًا محيرًا!
فهز صديقي رأسه وقال: الله لا يسامحها، زوجته!
فهتفت بذهول: سميحة؟!
فابتسم قائلًا: طبعًا تتذكرها.
– حيُّنا كله يتذكرها، الجمال والكمال والأدب، المثل الأعلى للاستقامة والرزانة والحشمة في ذهابها إلى المدرسة وحين العودة منها، هي حصن منيع أمام أي عابث حتى شهد لها الجميع بالامتياز الخارق، وحق للمرحوم أن يغبط ويهنأ يوم وفق في طلب يدها.
فأكمل الدكتور قائلًا: وأنجب منها ولدًا وبنتًا، الولد في كلية الطب والبنت في الثانوية العامة، ولكنها مع الأيام والمعاشرة تكشفت عن امرأة أخرى تمامًا.
تابعته بانتباه فائق وذهول، فواصل: امرأة أخرى تمامًا، ولولا اختلاطي بهم ما صدقت ما أسمع وما أرى.
– يا للعجب!
– هي الحقيقة، وكم حاولت الإصلاح ولكن دون جدوى.
– اعتبرناها ملاكًا من السماء.
فارتسمت بسمة ساخرة على شفتيه، وقال: جبارة متسلطة ذات رأس صلب، تفرض رأيها بإصرار وبعنف، لا تقبل المناقشة، عصبية لحد الجنون، يذهلها الغضب عن كل شيءٍ فتحطم التحف والأواني، وتسب بلا تحفظ، ثم إنها مسرفة لدرجة جاوزت كل الحدود، ولم تكن تترك له إلَّا مصروف الجيب.
وصمت لحظة ممتعضًا ثم قال: حتى العفة لم تسلم.
فصمت على رغمي.
– العفة؟!
– إني واثق مما أقول.
– يا للداهية! أكانت مجرد ممثلة ماهرة؟!
– عسير عليَّ أن أتصور ذلك.
– ولمَ لم يطلقها؟
فقال متمهلًا: كان أضعف من أن يتخذ قرارًا حاسمًا.
فقلت وأنا من الانفعال في نهايته: مَن كان يتصور ذلك؟
– هو أيضًا سحره المظهر، ثم إن شكواه لم تقتصر عليها، ولكن امتدت إلى أمها وحتى إلى أبيها.
هكذا انتهت قصة الطبيب، وقصتي أنا أيضًا. تقدمني في السباق لوفرة إمكاناته، ولولا ذلك لربما كنت أنا الضحية. ولكن كيف يمكن أن أنسى صورتك الملائكية يا سميحة؟! ولمَ أصدق ما يقال دون تحفظ؟ أليس من الجائز لو جمعتني بك الأيام يومًا أن ينقلب الحكم أو يتغير؟!