مولانا
ابن الأرض، من أسرة الأعشاب البرية، نشأ ونما وترعرع في البستان الذي توسط يومًا ميدان العتبة الخضراء القديم. من المجهول انبثق، لتربيه الأيدي القذرة، تطعمه لقمة وتلبسه جلبابًا وتسلبه إنسانيته. وذات يوم — وكان عوده قد اشتد وطال — أشار إليه عابر سبيل، وقال لصاحبه بصوت مرتفع ضاحك: انظر، كأنما هو الملك!
الملك! يعرف أنه يوجد ملك، ورأى من بعيد موكبه. ماذا يعني الرجل؟ وتكررت الإشارة والنظرة المندهشة. أيشبه الملك حقًّا؟ أيمكن أن يحدث ذلك في هذا الوجود؟! وسعى إلى مرآة مصقولة معروضة عند مدخل محل لبيع الأثاث في أول شارع الأزهر ليرى صورته، ليرى الملك .. إذن فهذا هو الملك. لم تطمس شكله رثاثة الجلباب ولا قذارة الوجه، وراح يغسل وجهه ويمشط شعره، ويقطع الميدان بالطول والعرض فيحرز النجاح بعد النجاح، ويتلقى الإشارات والتعليقات، ويمضي باسمًا مزهوًّا بصورته النفيسة. وعُرف في المنطقة مع الأيام بمولانا، مولانا صاحب الجلالة. وفسرت الظنون الساخرة الشبه العجيب بما عرف عن الملك الراحل الأب من رمرمة جنسية، فمَن يدري؛ فلعله … وأليس من الجائز أن …؟! وما وجه الاستحالة في أن يكون …؟ هكذا ألحقته السخريات بالدم الأزرق المصون لأسرة محمد علي. وهو لا يعرف لنفسه أُمًّا ولا أبًا؛ فكل شيء محتمل. وُجد على الأرض، عاريًا أو في لفة، ونشأ في أحضان الطبيعة مثل أجداده الأول في العصور الغابرة. وحام مع الظنون حول أصله الرائع المجهول، وانتظر من وراء ذلك الشبه خيرًا وأي خير. والواقع أن فخامة منظره خففت عنه من بلاء التشرد وجنبته كثيرًا هراوات الشرطة، فكان أكرم المتشردين وآمن النشالين. وقال له أقرانه: إذا رفعك الحظ يومًا فلا تنسنا!
فوعدهم بالخير والحماية، وتعلق أكثر بأحلامه الخرافية. وطرقت شهرته أخيرًا قسم الشرطة وذهب المخبرون ورجعوا قائلين: الطول والشكل واللون، إنه معجزة.
وقرر المأمور أن يراه بنفسه، ولما مَثل بين يديه تفحصه بذهول، ولما صرفه وجد نفسه يفكر فيه كمشكلة حقيقية. أيمكن أن يتغاضى عنه كدعابة لا وزن لها؟ هل يأمر بمراقبته حتى يقبض عليه متلبسًا؟ لم يقنع بهذا الحل أو ذاك، ورأى أن يبلغ الخبر إلى أحد الرؤساء في الداخلية الذي تربطه به علاقة حميمة. وجرت التحريات من جديد، وارتبكت مراكز الأمن العليا، واعتبرت الموضوع بالغ الأهمية والخطورة.
– قد يتكشف الأمر عن مضاعفات مجهولة، ونسأل عند ذاك أين كنتم أيها السادة؟
– والعمل؟
واستقر الرأي على اعتقاله ووضعه في الطور باعتباره من الخطيرين على الأمن الواجب استبعادهم، وتم التخلص من فاروق «الثاني»، واطمأنت القلوب وكاد ينسى تمامًا.
وقامت ثورة يوليو، وانهالت المطارق على العهد البائد. وكتب أحد الصحافيين عن واقعة شبيه الملك المخلوع المنسي في المعتقل، فكانت كلمته إيذانًا بالإفراج عنه.
رجع إلى تشرده، ولكن بلا حلم هذه المرة ولكنه حمد الله على نعمة الحرية .. ونشرت بعض المجلات صورته، فاكتسب شهرة لم تخطر له في بال. وقررت إحدى الشركات السينمائية أن تنتج فيلمًا يصور الفساد في عصر ما قبل الثورة، وكان الملك يظهر فيه في منظر هامشي فيما وراء الأحداث، واستدعت الشاب لتجربه في الدور، فأداه أداء مقبولًا لسهولته، وحاز سمعة لا بأس بها، ولكنها لم تفتح له طريق النجاح، ولم تكتشف فيه موهبة ذات شأن. ورأى المسئولون أن الحديث يتكرر عن الشاب، وأن صوره تنشر أكثر مما ينبغي … وإذا بمشكلة جديدة تنشأ من حيث لا يحتسب إنسان. وقال شخص بعيد النظر: شعبنا طيب، ولا يبعد أن يوجد فيه من يعطف على الملك رغم فساده، وسيكون وجود هذا الشاب محركًا لهذا العطف.
– إذن يمنع نشر صوره.
– بل الأوفق أن يختفي تمامًا!
وظن الشاب أنه وُلد من جديد؛ ليستقبل عهدًا جديدًا. وأشعل الدور الصغير الذي قام به في الفيلم طموحه إلى أقصى حد، وتوقع الخير مع طلعة كل شمس. وكلما شعر بمرارة الانتظار قال: إن الله لم يخلقني في هذه الصورة إلا لحكمة بالغة.
ولكنه اختفى بلا سبب ظاهر. لم يعد أحد يراه في أي من مظانه. اختفى تمامًا، بل يبدو أنه اختفى إلى الأبد.