حوار
في جلبابه الأبيض الفضفاض، جلس على أريكة تتوسط حجرة المعيشة، وتحت طاقيته البيضاء بدا وجهه متجهمًا. أما هي فلم تكن تستقر على حال، يتحرك جسمها الرشيق في فستان البيت الوردي بين مقعد وآخر، أو تنظر حينًا من النافذة المطلة على الطريق الصاخب. قالت بجدية: انتهيت إلى قرار أن أقيم مع خالتي.
فلوح بيده محتجًا وهتف: تهجرين أخاك لتعيشي مع خالتنا! هذا لن يكون، لن تتركي هذا البيت إلا إلى بيت الزوجية.
– ولكن الحياة أصبحت نقارًا مستمرًا.
– كل شيء له سببه.
– الخلاف بيننا لا يهدأ وهو يستفحل يومًا بعد يوم.
– إن ما أقترحه هو عين العقل.
– هذا رأيك، أما رأيي فشيء آخر.
– أنا أخوك وأخبر منك بالدنيا.
– لماذا؟ كلانا متعلم وله عمله، وأنا أكبرك بعامين.
– ولكني رجل، وهذه ميزة لا حيلة لنا فيها.
– لا تردد ذلك من فضلك. لعل انتقالي إلى بيت خالتي.
قاطعها بحدة: لا، من فضلك، افترقنا ونحن على هذا الخلاف يهدد كلينا بكارثة.
– ما العمل ما دمنا لا نتفق في شيء؟
– رأي واضح مثل ۱ + ۱ = ۲.
فدارت ابتسامة طارئة، وهي تقول: الواضح عندي أن ۱ + ۱ = ۱.
– ما أعذبك لو ألنت صلابة رأيك.
– عندي كل شيء طيب.
– ما أطالبك به يقره الناس والمنطق وطبائع الأشياء.
– أستطيع أن أقول نفس الوصف لما أطالب به، ولكنك تقسو على نفسك، حتى الموسيقى الحلوة تعرض عنها.
– يا لك من ظالمة، أليس لي أوقات فراغي أيضًا؟
– ولكنك طيلة الوقت مشغول بالهموم اليومية.
– هي الحياة، لولا ذلك ما بقي لأسرتنا ما تعتز به.
– فضلك مشكور. ولكن الحياة أوسع من ذلك كله.
– لو طاوعتك لرمينا بالجنون.
– دعني أصارحك بأن من الجنون ما يعجبني.
– هكذا أنت، لا تفكرين أبدًا في العواقب.
فحدجته بنظرة متحدية من عينيها السوداوين الشهلاوین، وقالت: غاية الحكمة ألا نفكر في العواقب.
– الله .. الله .. خطوة واحدة تبقى، ثم يدركني اليأس من ناحيتك.
– ما صبرت عليك إلَّا لإيماني بحسن نواياك.
– تذكري عمتك، والعاقل من اتعظ بغيره.
– عمتي! .. ما أروعها!
فكبح غيظه، ولكن وجهه ازداد تجهمًا، وهتف: مناقشة لا تعد بنتيجة طيبة.
– هكذا خلقت فدعني وشأني.
– لا .. لا .. علينا أن نتدبر أمرنا طويلًا.
– ما الفائدة؟
– المزيد من التفكير لا يضر.
– إلا إذا جرَّ وراءه مزيدًا من التردد والخوف.
– لعلك تهربين من المسئولية.
– ليس في حياتي هروب، إنها سلسلة من المغامرات، وكل مغامرة تحمل في طياتها مسئولية هامة.
– والخسائر ألا يدور لها في تقديرك حساب؟
– ما تظنه خسارة أعتبره ربحًا.
– أتمنى ألا تترامى خواطرك إلى الناس!
– الناس .. الناس .. الناس.
– إنهم خطر مُدمِّر.
– إنهم خطر على مَن يهتم بأمرهم.
فقال بنبرة مرتفعة: معي المنطق ووصية أبينا رحمه الله.
فانحرفت بعينيها عن عينيه، وقالت بهدوء: لي أيضًا منطقي، وهو لا يتفق مع وصية أبينا رحمه الله!
– عجبًا، عرفتك دائمًا بارة بالوالدين.
– هذا حق، ولكن لكل شيء حدوده.
– أليس من الجحود الاستهانة بوصيته؟
– أبدًا، طالما أنني أفعل ذلك في سبيل الحياة التي أحبها، والتي علمني كيف أحبها وأحترمها.
– هو أيضًا كان يحب الحياة.
– الحياة التي أحبها غير الحياة التي أقبل عليها.
وتبادلا نظرة مليئة بالانفعالات، وفصل بينهما صمت كئيب، حتى تساءل: والعمل؟
فقالت بأسًى: آسفة على الإزعاج.
– لا يمكن أن أفرط فيك.
– ولكننا لا يمكن أن نتفق.
– الانفصال يعني كارثة لكلينا.
– ليس الأمر كما تتصور.
– يجب أن نستمر معًا، مهما كلفنا ذلك من عناء.
– وهل نتحمل النقار ووجع الرأس إلى الأبد؟
– بل إلى أن نجد ملتقًى للاتفاق.
– أخاف أن يكون ذلك وهمًا يا أخي.
– أبدًا، المهم ألا تنفذي قرارك الأرعن بهجر بيتنا.
– معذرة، لولا أزمة المساكن ما كان يجب أن نبقى فيه يومًا واحدًا.
– هو اليوم نعمة كبرى إذا قيس بسُكنى المقابر.
– أعترف أنه أحسن قليلًا.
– لا تسخري يا جاحدة، أتنكرين أنه شهد أسعد أوقاتنا؟
– بلى، ولكن ماذا يشهد اليوم؟
– وبيت خالتك ليس بالجنة على أي حال، إنها تنظر إلينا من فوق!
– ولكني أستطيع أن أتفاهم معها بسهولة.
– إنها تحتقرنا، أشك أحيانًا أنها شقيقة أمنا، وهي في نظري مسئولة مسئولية كاملة عما حصل لعمتك.
– عمتي! أين نحن من عمتي؟!
– اسمعي، لا أبرئك من الانتهازية!
فضحكت قائلة: الله يسامحك.
– المهم ألا نفترق وألا نيأس من الاتفاق.
فقالت بنبرة واضحة: لا تتوقع تنازلًا من ناحيتي.
– ولا تتوقعي تنازلًا من ناحيتي.
– إذن فلن نجني إلا تعب القلب ووجع الرأس.
فقال بجدية ورجاء: وأيضًا الوفاق.