غدًا تغرب الشمس
فَقْدُ الطعام سحرَه وجاذبيته ليست بالحال العارضة التي يُصبر عليها يومًا أو يومين. وعليه فيجب أن يستشير طبيبه. طالما عد نفسه من السعداء لاقتناصه ستين عامًا من الزمن، وهو على أتم ما يكون من الصحة والعافية. ورغم نشاطه المتواصل كرجل من رجال الأعمال، فلم يهمل جانب الأناقة والرياضة في حياته الثرية، يتبدى دائمًا في أجمل صورة، ويحسن السباحة والتنس ولا تفوته الرعاية الدقيقة لصحته. زار طبيبه بميدان الأزهار، وفحصه الرجل بعناية وعلى مهل. ثم قال: الكبد.
ندت عن يده حركة كالاحتجاج، وخاطبه كصديق قائلًا: أنت تعلم أنني معتدل جدًّا في الشراب.
– لا بد من أشعة.
هذه الإجراءات هي ما تضايقه في الطب الحديث، ولكن لا سبيل إلى التراجع. وصعد إلى الدور السابع بنفس العمارة مسبوقًا بتوصية تليفونية؛ فالتقطت له صورة. ذهب بها إلى طبيبه في مساء اليوم التالي، وقرأها الطبيب ثم قال بإيجاز: لا بد من تحليل الدم.
وساوره قلق جدي لأول مرة باعتباره ذا تجارب مأساوية سابقة في أسرته. فقال: في الأمر اشتباه.
– سيسفر عن نتائج حميدة بإذن الله.
ومضى إلى معمل التحليل مهمومًا مغتمًّا. وانغرزت الإبرة في كبده مصحوبة بآلام لم يتوقعها.
وفي مساء اليوم التالي ذهب بالنتيجة إلى الطبيب، وقال للطبيب وهو يتفحصها: صارحني بالحقيقة الكاملة إني مستعدٌّ لذلك.
فقال الرجل بجدية: هيهات أن يسهل خداعك.
فقال متظاهرًا بالبساطة: إذن فهو ما كنا نخشاه؟
أجاب بإيماءة من رأسه فقال المريض: وإذن فلا شفاء ولا دواء، ولكن مجرد مسكنات!
– بل يرجى إيقاف الورم، وليس هذا بالإنجاز القليل.
– أتنصحني بالسفر إلى الخارج؟
– ما كنت لأتأخر عن اقتراحه عليك لو أفاد.
وتفكر قليلًا ثم سأله: هل يمكن أن تحدد لي المدة الباقية من حياتي.
فقال بعجلة: كلا! الأعمار بيد الله وحده.
– ولو على وجه التقريب؟
– كلا! كلنا أمام الموت سواء. وقد يسبقك إليه جميع الأصحاء من أصحابك؟
فقال برجاء: جنبني الألم ما استطعت.
– هذا متيسر.
بين يوم وليلة، بل في غمضة عين، مذهل حقًّا مذهل، خاطب نفسه بقوة: «حذار من الانهيار». وقال لها أيضًا: «سلمي بهذا الواقع كأي واقع آخر». ومن أول لحظة قال له عقله كلامًا مليحًا، ولكنه لم يستطع أن يخلصه من قبضة الهزيمة والخوف والأسى. وقال له صديق: ليتك تستطيع أن تتناسى الموضوع.
فقال: هذا ما أحاوله؛ وإلا فلن أنجز شيئًا.
أجل، أمامه واجبات معقدة كثيرة، أو كما قال لنفسه: «لولا الأسرة لقمت بسباحة حول الأرض غير مبالٍ بشيء». وفكر أول ما فكر في عمله، فتراءى له لأول وهلة أن يتخلى عنه لنائب عنه، ولكنه سرعان ما استبعد الفكرة، ما دام أن العمل سيشغل وقته، وينقذه زمنًا لا يستهان به من الوحدة والأفكار المضادة. وانهمك في توزيع ثروته ومشاورة محاميه بما يحقق الاستقرار لأهله، وتوفير الضرائب التي يمكن توفيرها. ولم يبُحْ بسر مرضه إلا لزوجته، أما الأبناء فقد رسم خطة لإعدادهم للنهاية دون إزعاج لا ضرورة له قبل الأوان .. وواصل ترشيده لهم في الأمور التي تهمه كالجنس والمخدرات وشئون المال والعمل. والحق أن انهماكه في ذلك كله خفف من قسوة محنته، وبخاصة في إبان حدتها وشدتها. واستعاد شهيته للطعام ولم يشعر بأي ألم مما هجست به نفسه، ومارس رياضاته المحبوبة باعتدال. ووجد امتنانًا كبيرًا للعلم وما أبدعه من مسكنات، ولم ينقطع عن ناديه وأصحابه ولا عن شجون الحديث في الاقتصاد والسياسة. وكلما ألمت خاطرة سوداء ردد في باطنه قول طبيبه وصديقه: «كلنا أمام الموت سواء»، بل إنه مع مرور الزمن أخذ يؤمن بأن مرضه أتاح له فرصًا لم تكن مهيأة من قبل.
ألم يستعد لأمور كثيرة كان يمكن أن تترك معلقة وأن يشقى بها أهله؟
واعترف أيضًا بأنه خفف من عبء الدنيا الذي حمله على كاهله طويلًا وفي معاناة مستمرة. حقًّا ما زال يواصل عمله، ولكن هان توتره العصبي الذي لم يرحمه جل حياته. إنه يعمل من أجل الدنيا ولكنه لم يعد أسيرًا في قبضتها. وانجابت عن وجدانه مخاوف كثيرة طالما ناوشته مع كل طلوع شمس. موت أول ابن له في عز الشباب، ماذا يعني الآن؟! حسده لأقران له لعبوا دورًا أكبر من دوره في تاريخ وطنه. تدبير الدولارات اللازمة لشراء مستلزمات الإنتاج. الركود الاقتصادي والخوف من العجز عن تسديد بعض الأقساط للبنوك. مستقبل البلد السياسي وما ينذر أمثاله من تقلبات مجهولة.
أجل يصح له اليوم أن يتساءل عما ينتظره بعد الموت. إنه لم يدخل في حياته جامعًا إلا في مناسبة دُعي فيها ضمن من دعوا ليكونوا في شرف استقبال رئيس الجمهورية. لم يؤدِّ فريضة دينية قط ولا يعرف عن دينه شيئًا يذكر، ولكنه يعتبر نفسه من المؤمنين بالله ورسوله. ويؤمن بأن الله أرحم الراحمين بمخلوقاته. فضلًا عن أنه لم يرتكب في حياته إثمًا كبيرًا كما كان كريمًا مع الفقراء من أقاربه وأصدقائه. ولم يفكر في أن يعرف من شئون دينه ما فاته أن يعرفه؛ خشية أن تفتح له المعرفة أبوابًا تفسد عليه صفوه وطمأنينته إلى رحمة الله. أقنع نفسه بأن إيمانه البسيط سينقذه بلا حاجة إلى مزيد، ومرت له لحظات خيل إليه أنه اليوم أسعد مما كان أمس. وعجب لذلك عجبًا شديدًا. أكان يضمر كراهية لحياته الماضية رغم الصحة والنجاح؟ أكان يجاهد وهو لا يدري ليتحرر من قبضتها العاتية؟ هل ضاق بأن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا، وود أن يتعامل معها كأنه يموت غدا؟
وقال لصديقه يومًا وهما يتناجيان: المرض لقنني درسًا، وهو: أن الموت صديق في ثياب عدو.