على ضوء النجوم
في الصباح الموعود تجمع الفريق، وهو على أتم الاستعداد. الشتاء يطوي ذيوله والجو ينفث في الأرواح الحيوية والنشاط. ارتدى كل فرد بنطلونًا صوفيًّا «وبلوفر» رماديًّا، وغطاء رأس من القطن الأبيض، وانتعل حذاء من المطاط، وجيء بشاحنة متوسطة، فحملت بالأطعمة الجافة وقوارير المياه، وهلَّ علينا رجل فارع الطول واضح الملامح مهيب الطلعة، مثلنا في زيه كأنه واحد منا، غير أنه يطوق عنقه بقلادة تدلى منها صفارة فضية فوق صدره العريض. قال بصوت جهير: أنا مرشدكم، والله يوفقكم، هل اطلعتم على التعليمات؟
فأجبنا بالإيجاب، فعد ثلاثًا ثم قال: سيروا ورائي على بركة الله.
فمضت القافلة تخترق الصحراء والسيارة تتهادى وراءها. رحلة كل عام ولعبته التي تجرى تحت رعاية اتحاد الأندية الرياضية. يسير الفريق وراء المرشد، وعلى كل أن يخمن الواحة التي يقصدها، معتمدًا على ما حصَّل من معلومات عن الصحراء، ومَن يصدق تخمينه يحصل على الجائزة السنية. والجائزة لا تقسم، وينالها كل فائز وإن تعدد الفائزون. سرنا مع طلوع الشمس، يخيم علينا الصمت، نستذكر التعليمات حتى لا نخرج من السباق لهفوة عارضة، ونمارس ما أوتينا من قوة ملاحظة وفطنة ومعرفة يحدونا الأمل في الفوز. المنظر يتمادى، وتختفي من أبعاده المعالم، ويمضي على وتيرة واحدة تبعث على الملل. وقاومت الرمال أقدامنا، واقتضتنا جهدًا إضافيًّا. وثقُل الوقت، وتساءلنا ألا يوجد محطات للراحة؟ شعرنا بالحاجة إلى الكلام لولا أنه ممنوع، أما مخاطبة المرشد فتعتبر خطيئة. إنها رحلة ممتعة وواعدة، ولكنها شاقة أيضًا، بل شاقة فوق ما تصورنا، ولا يخبرها بحق إلا من يكابدها. وحدث أن تبادل زميلان كلمة بسبب لا ندريه وإذا بالمرشد يتوقف عن السير، ويلتفت نحوهما كأنما رآهما بعين ثالثة، وقال بحزم: إلى السيارة.
قال أحدهما: سألته عود ثقاب لأدخن.
فقال المرشد بصرامة: التدخين ممنوع أيضًا، اذهبا.
ولاح القهر في وجهي الرفيقين، ولكنهما أذعنا لأمره مرغمين، فرجعا إلى السيارة يجران ذيول الخيبة.
وقال بوضوح: واجبي لا يتضمن أي تساهل مع المتسيبين أو الكسالى أو المنحرفين.
وعند الضحى أوشك أن ينهكنا التعب، وفترت قوانا في الملاحظة والمتابعة، ووضح لنا أنها رحلة شاقة بكل معنى الكلمة وامتحان قاسٍ للكرامة، وإن جرت في إطار الرياضة. وتراءت لكثيرين لهوًا ولعبًا. واشتد الوقت وغلظ، وتاقت أنفسنا إلى لمسة من الراحة، وإذا بالمرشد ينفخ في الصفارة ليشد الانتباه إليه، ثم يصيح بنا: عليكم أن تفعلوا مثلي.
واندفع يجرى جريًا هادئًا مع رفع الساقين وتحريك الذراعين. حلمنا بدعوة إلى الراحة لا إلى مضاعفة الجهد. واضطررنا إلى محاكاته بقلوب حانقة ووجوه مكفهرة. وارتفعت الشمس نحو كبد السماء مرسلة أشعة ساخنة رغم عذوبة الهواء. وتعثر شاب فندت عنه آهة، وتوقف مغلوبًا على أمره، فصاح المرشد: إلى السيارة!
هكذا خرج سيئ الحظ من السباق، وأمدنا خروجه بشيء من الصلابة والصبر، ولاحت عن بُعد صخرة عاتية كأنها صغيرة، تشبه إلى حد ما رأس أبي الهول من الخلف، فاتجه الرجل نحوها، ولما بلغها نفخ في الصفارة مرة أخرى ووقف، فوقفنا ونحن نلهث ونكاد نسقط إعياء، والتفت نحونا وقال: جلسة للراحة وتناول الغداء.
افترشنا الرمال، ووزع علينا رجال السيارة لفافات وقارورة صغيرة من المياه. وفي صمت جعلنا نحل أربطة اللفافات، فوجدنا رغيفًا وبطاطس وقطعة من الطماطم وشريحة من اللحم البارد وبرتقالة. التهمنا الطعام بشهية عظيمة، وارتوينا ثم استلقينا على ظهورنا طلبًا للاسترخاء أو النوم، وسأل أحدنا المرشد ببراءة: هل يمكن أن أدخن سيجارة هنا؟
فقال الرجل بهدوء: اذهب إلى السيارة!
وجم الشاب، وندت عن جارٍ له ضحكة ساخرة فقال المرشد للضاحك: وأنت معه فورًا!
ونظر الرجل نحوهما بتحدٍّ فلم يجدا بدًّا من الإذعان لمشيئته. وقام قبل أن ننال كفايتنا من الراحة فنفخ في الصفارة، وعد ثلاثًا، ثم واصل السير. تبعناه ساخطين وصامتين. أيكون هذا الرجل مثاليًّا أم ساديًّا؟! وقلت لنفسي: صدق من قال إن السلطة تكشف في صاحبها عن أحسن ما فيه وأسوأ ما فيه معًا. وتذكرت مَن نصحوني بعدم الاشتراك في هذا السباق، ولكني لم أنسَ كيف يتباهى الفائز فيه بما أحرز على مدى العمر. وأعملت في الملاحظة والاستذكار جماع ما أملك من قوة ومعرفة. حقًّا إنه سباق يتطلب قوة في الملاحظة، وصلابة في الإرادة وصفاء في الذاكرة، وتألقًا في الذكاء، بالإضافة إلى ما يحتاجه من شدة الصبر والاحتمال والشجاعة وضبط النفس، وحسن السياسة مع مرشدنا الجبار. وسارع إلينا التعب، وساورتنا الهواجس، وتوقعنا من ناحية المرشد مفاجأة جديدة تفوق سابقتها في عنفها، ومع ميل الشمس نحو الأفق انخفضت درجة الحرارة ونضح الهواء ببرودة غير مؤذية، وزادت سرعته فأنذر بهبوب عاصفة، ووهنت عزيمة شابين فتخلفا عن السباق باختيارهما ولاذا بالسيارة في كآبة واضحة. وتساءلت فيما بيني وبين نفسي ألا يجوز على هذا الرجل ما يجوز علينا من التعب؟ لماذا يبدو وكأنما قُدَّ من عجينة غير عجينة بقية البشر؟! وحدث ما توقعناه فغير الرجل إيقاع السير، واندفع يجري بسرعة جديدة مضاعفة. بدأنا الجري والليل يهبط، وخضنا الظلام على ضوء النجوم الخافت، معرضين طوال الوقت لشيء نرتطم به أو شيء يرتطم بنا، أو حفرة نقع فيها أو منحدر ننزلق عليه، وتعذر علينا الاستمرار في الملاحظة والتفكير، حتى خيل إليَّ أن الحظ وحده كان وراء من فاز في هذا السباق في الأعوام السابقة. وأخيرًا وبعد الإشفاء على اليأس انطلقت الصفارة وارتفع صوت المرشد آمرًا بالوقوف. وقفنا ونحن من الإرهاق في حال. ولعلنا لم نعد نطمح إلى الجائزة مؤثرين السلامة. وقال الرجل: العشاء، ثم النوم، نستأنف السير عند منتصف الليل، وبعد مرور ساعتين من التحرك تجمع البطاقات مسجلة عليها الأجوبة، نبلغ هدفنا بمشيئة الله عند طلوع الشمس.
وجيء بكلوب مُضاء فعُلق في طرف عمود وغُرز في الرمال؛ وجدنا أنفسنا على مبعدة يسيرة من تل كبير، ووُزع علينا العشاء وهو تكرار للغداء. كما وزعت علينا الأغطية والحشيات السفري، واقترب المرشد من أحدنا، ونحن نتناول طعامنا، وقال له بخشونة: معك قارورة خمر جرعت منها مرتين، اذهب إلى السيارة.
وصرخ الشباب غاضبًا: بيننا جاسوس دنيء.
فصاح به: هات القارورة واذهب إلى السيارة.
فقال بتحدٍّ: ليس معي قارورة.
– لا تعرض نفسك للتفتيش.
– لن أسمح لأحد بتفتیشي.
– لن تسمح؟!
ومد نحوه يده؛ فدفعها الشباب بجرأة غريبة، عند ذاك لطمه على وجهه لطمه عنيفة طرحته على الأرض. وفجأة اشتعل غضبنا جميعًا، ولم نعُد نبالي بالسباق ولا بالتعاليم، وتطايرت أصواتنا الهادرة: أي إهانة؟! .. لا نقبل الإهانة. لكل شيء حدود!
تصفح الرجل وجوهنا بهدوء منذر، ثم قال: هذا تمرد عام، وإني أعلن إلغاء الرحلة، سوف تحاكمون أمام مجلس إدارة الاتحاد، وسأنسحب فورًا ودون تردد.
وذهب الرجل إلى السيارة يتبعه رجاله حاملين الكلوب، ولم تمضِ دقيقة حتى تصاعد هدير السيارة، وتحركت بمَن عليها حتى غابت في الظلام تاركة فريقنا بلا مرشد. وقفنا جميعًا في دائرة واحدة، ذاهلين من المفاجأة، حائرين أمام وحدتنا الضائعة، ثم تفجر الحوار بيننا: كيف يجرؤ على تركنا في الصحراء بلا مرشد؟
– سنرفع خصومتنا معه إلى اللجنة العليا.
– ولكن علينا الآن أن نفكر في موقفنا.
– نبقى في مكاننا حتى يطلع الصباح.
– بل لا بد من التحرك، فكل دقيقة لها ثمنها.
– في أي اتجاه يكون التحرك؟
– توجد ولا شك تخمينات شتى، نقترع عليها ونأخذ بالأغلبية.
وتضاربت الآراء ولم يكد يتفق اثنان على رأي، وبعد مناقشات عنيفة تمخَّض النقاش عن خمس فرق. ورجعنا إلى الحوار تحت وطأة المسئولية الثقيلة: قد نتوه، فنموت عطشًا أو جوعًا.
– أو نتعرض لوحش أو ثعبان أو قاطع طريق.
– لا مفر من المغامرة.
– ألا يحسن بنا أن نبقى في مكاننا حتى يعثروا علينا؟
– لا تعلل نفسك بأمانٍ قد تصدق أو لا تصدق. لم يبقَ لنا إلا الاعتماد على النفس.
ومضت كل فرقة إلى وجهتها، واضعة ثقتها في رأيها، يحدوها الأمل في السلامة، ينبسط أمامها مصير مليء بكافة الاحتمالات في ذلك الليل البهيم، وكأنهم على موعد مع طلوع الشمس.