وصية سواق تاكسي
لوحت للتاكسي بيدي فأقبل نحو موقفي فوق الطوار. جلست إلى جانب السواق وأنا أقول: «جريدة الفجر من فضلك». التفت الرجل إليَّ باهتمام حِرت في تفسيره. أيكون من الموظفين الذين يواجهون أعباء الحياة الجديدة بعمل إضافي؟ كلا، شكله يقطع بأنه ليس موظفًا. رجل ضخم كأنه من رافعي الأثقال، ريان الوجه، غليظ القسمات، تطل من عينيه الحادتين نظرة قوية متحدية، ويده القابضة على المقود تذكر بالسلحفاة حجمًا وصورة. هيئته مستفزة معدة للمعارك، وسألني بصوت خشن متهكم: جريدة الفجر؟
فقلت متجاهلًا تهكمه: نعم!
فقال باستهانة وقحة: طظ!
وقدر ردة الفعل السيئة في نفسي فاستدرك.
– طظ في الجريدة لا مؤاخذة، أنت لا شأن لك بالموضوع.
– أي موضوع؟
– عندكم كاتب اسمه الولد علي علام!
فقلت مصححًا: الأستاذ علي علام من أنجح كتاب العمود اليومي.
فدوَّى صوته وهو يقول: طظ وطظ وطظ!
– لماذا؟
– ليتك تبلغه رأيي، خذ رقم التاكس، اسمي عتريس الغندور، وليته يغضب ويجيء لتأديبي، فأسوي به الأرض ببصقة واحدة، وعدٌ عليَّ ونذرٌ ألَّا أمد له يدًا أو رجلًا، بصقة تكفيه وزيادة.
أسفت على عجزي عن الغضب الواجب للفارق غير المحدود بين ضعفي وقوته، وقلت: لا أفهم شيئًا، ولكني مقتنع تمامًا بأنه لا ضرورة لهذا الغضب.
فقال وهو يزداد انفعالًا: حضرته كتب عمودًا عن السواقين الذين لا يشغِّلون العداد، ثم حرض علينا وزير الداخلية.
فقلت بهدوء: هذا رأي، ولعله تلقى شكاوى كثيرة من الأهالي.
– أهالي؟! وهل يهمه أمر الأهالي؟! لمحته مرة في سيارة قدِّ المترو، منتفشًا كالديك الرومي، ماذا يعرف عن همومنا ليشرع ويحرض، ابن القديمة؟!
– لا .. لا .. من فضلك!
ثم بنبرة واضحة: لو عرفته عن قرب؛ لغيرت رأيك في الحال.
فصاح: لو قابلته لشوهت وجهه حتى لتجهله زوجته.
– المسألة بسيطة، لماذا لا تكتب له بوجهة نظرك؟
فقال بصوت الرعد: وما قيمته في الدنيا إذا لم يعرف الحقائق بنفسه؟ هو صحفي أم سائح غريب؟ ألم يسمع عن الغلاء؟ وكيف تحدِّث رقيعًا عن الفول والطعمية وهو لا يهمه إلا الويسكي والسيجار؟ اللعنة على كتاب درب الأغوات!
– الحق، والحق يقال، إنه من أصدق دعاة العدالة الاجتماعية.
فأصدر صوتًا إسکندریًّا وضحك طويلًا ثم قال: يا حلاوة .. يا حلاوة .. عدالة تجار العملة والمخدرات!
– عن كل شيء كتب.
– هل كتب عن أبناء «فلان»، من أين لهم القصور والملايين؟
– لا تصدق كل إشاعة.
– إشاعة؟! .. وعلان الذي نشرت الصحف أنه سرق منه خمسون ألفًا من الدولارات؟
– ما أكثر حملاته عن الانحراف والمنحرفين!
ومضى يعد أسماء رجال ونساء، ثم قال: يا خبر أسود يا هوه .. ينسى كل هؤلاء ويتشطر على عداد التاكسي؟
وضاق صدري فقلت: اسكُت! لعله يسكت، ولكنه لم يسكت وواصل: إذا خاف الكاتب؛ فلا يصح أن يزعم أنه كاتب.
عدت إلى الكلام مضطرًّا فقلت: توجد حدود .. أنواع من الرقابة الداخلية.
– والرجولة؟ .. عليه أن يرفض!
فكرت فيما يجب قوله، ولكنه سبقني قائلًا: ستقول الحياة .. المعيشة .. الأولاد؟!
– أظن أنها هموم حقيقية.
– عظيم .. سلمنا .. وإذن فلا يحق له أن يهاجم عداد التاكسي .. ويجب عليه أن يرتدي فستانًا وحجابًا وحذاء بكعبٍ عالٍ، ويقول: أنا مرَة!