الميدان والمقهى
١
الصباح مشرق، السماء صافية، الربيع يزفر فيفعم الجو حلاوة. الميدان يستيقظ بدُوره الحديثة وآثاره العتيقة، الدكاكين تفتح أبوابها، الألبان والفطائر تزهو في معارضها، المقاهي تستقبل العاملين والخاملين. جلست مع الشاي الأخضر أُراوح بين النظر والتذكر، مستمتعًا بالصحة والأمل وأحلام الشباب. لم يخلُ المناخ مما يكدر الصفو، فهذا رجل ذابل العينين من البكاء والسهر، يسأل عن مكتب الصحة، وهذه امرأة طاعنة في السن تتحرى عن أقصر السبل إلى سجن مصر، ولكنها تذوب في حوادث كل يوم. في الوقت نفسه يتهادى صوت أم كلثوم من الراديو ليسعد صباح السامعين. أحتسي الشاي وأطرب وأنعم بالسَّمَر مطمئنًا إلى أن الأكدار عابرة، وأن الجمال أَبَديٌّ لا يذعن لمشيئة الزمن.
٢
انتصف النهار، وجاء الكباب. وراح النادل يرفع الإبريق والأكواب، ويُعد المائدة للغداء.
وقال صاحبي: الزحام اليوم عجيب.
فقلت دون مبالاة: الميدان دائمًا عامر بالخَلْق.
– ولكنه اليوم خرق المألوف.
وتدخل النادل في الحديث متشجعًا بالمودة القديمة، قال: الناس يتغيرون، ليسوا كما كانوا.
قال صاحبي: سبحان مَنْ له الدوام.
فواصل النادل: وتسأل أحدهم عما غيره فينكر ويتهم الآخرين، صدقني الدنيا انقلب حالها.
– أخذنا نتناول طعامنا، وأنا أفكر فيما سمعت. وقلت بنبرة مهدئة: هكذا الناس في كل زمان ومكان.
٣
ما بين الظهيرة والعصر كففنا عن السمر، وحَمْلقنا بأعين ذاهلة فيما يقع. تساءل صاحبي: أهذا زحام كل يوم؟
فقلتُ معترفًا: كلا، ولا في المواسم!
الزحام يتكاثف بصورة مذهلة. الأرض تختفي تمامًا تحت أقدام الرجال والنساء والأطفال. الدكاكين مكتظة بالزبائن. الضوضاء ترتفع في سباق مزعج مع الراديو. أي إقبال على الشراء كأنما يخزنون أو يهاجرون. تيار لا ينقطع من أمواج صاخبة مصطفقة، ويتم كل شيء بسرعة ولهْوجة تثيران الريب. ضاعت توسلات الشحاذين في الهواء، انفجر مولد البيع والشراء والأنات الضائعة بلا نهاية. وتمتم صاحبي: يا خفي الألطاف نجنا ما نخاف.
وضحكنا، وكان الضحك منا سفاهة.
٤
ما بين المغيب والعتمة سارع الناس إلى التفرق والاختفاء. وفي الهرج والمرج توترت الأعصاب، فنشبت معارك لسانية ويدوية. ومضت الأمواج تنحسر ويعقب المد الشديد جزر أشد، فتلاشت الأصوات. خلا الميدان تمامًا وهو الذي لا يخلو إلا في الهزيع الأخير من الليل. فكرت في أن أقوم لأسال جندي المرور، ولكني رأيته مشدود الأعصاب مكْفَهِر الوجه؛ فآثرت السلامة. وإذا بالدكاكين تُغلق أبوابها والبيوت نوافذها، فيغلب الظلام ويسود الصمت، ويتبادل رواد المقهى نظرات حائرة: ماذا حصل للدنيا؟
– ها هي الجرائد ليس بها شيء.
– ولكنْ في الجو شيء ولا شك.
– يجب أن نذهب، ماذا يبقينا بعد الآن؟
– ننتظر نشرة الأخبار.
– تجمَّعُنا خيرٌ من عدمه.
– البيوت؟ .. ومن في البيوت؟!
وقام رجل وهو يقول: قلبي يحدثني …
ولم يتم كلامه، وأشار بيده إشارة غامضة ثم ذهب، وشجع ذهابُه المترددين فتسللوا واحدًا في إثر واحد، وسرت مع صاحبي ونحن من القلق في نهاية. وقال صاحبي: رأسي يدور فبالله حدثني عما حدث؟
فقلت بنفاد صبر: ما حدث قد حدث، ولكن ماذا عما لم يحدث بعدُ؟!