المرة القادمة
توثبنا للعمل من قبل أن تطلع الشمس. وتألقت الأعين بالنشاط والحماس والأمل. وقلت بحزم ومحبة معًا: إنه يوم الامتحان، وعند الامتحان يُكرم المرء أو يهان.
وبهمة عالية تناول كل فرد من أسرتنا مكنسته، وراح يكنس حجرته بعناية وأمانة. ومماشي الحديقة الصغيرة كنسناها وغسلناها أيضًا، وشذبنا الأشجار فنزعنا منها كل ورقة جافة. وأخذنا المنافض وجعلنا نجلو المقاعد والستائر والأخونة والنوافذ والمصابيح والتحف، حتى لمع كل شيء وابتسم. ورششنا الجو بالنفاثات العطرية فانتشرت روائح الورد والبنفسج والقرنفل في الحجرات. ونظمنا الورد في الأصص، وأعددنا الصواني والآنية؛ فتجلى البيت كأنه متحف قبل أن ينتصف النهار. وهرعنا إلى المطبخ ليقدم كلٌّ ما يملك من معونة. اختصت ربة البيت بالطهي، ولكن بقي لنا مجال في غسل الخضر وتقشير البطاطس والبصل ونَقْع اللحوم وصنع السلطات وغسل الفاكهة. فعلنا كل شيء ونحن من السرور في نهاية، وتناولنا غداء خفيفًا في المطبخ. واسترحنا ساعة بين النوم والاسترخاء. وأقبلنا على الحمام تباعًا وفي مقدمتنا الإناث. تطهرنا ولبسنا ثيابنا الجديدة، ومشطنا شعورنا وتطيبنا، وصرنا في أحسن تكوين. وكان جو الربيع نقيًّا لطيفًا، فتجمعنا في الحديقة وفتحنا الباب على مصراعيه وانتظرنا. وربما ساور ربةَ البيت هاجس قلق فتمضي إلى الداخل لتلقي نظرة ناقدة على الأشياء، ولتطمئن إلى كمالها. وأكثر من صوت قال: ليس في الإمكان أبدع مما كان.
وعلى سبيل الترشيد قلت: عندما تصل السيارة أهرع أنا وأمكم إلى الباب لنكون في شرف الاستقبال، أما أنتم فتصطفون في نظام الجنود وأدب السفراء، ثم نقدمكم واحدة فواحدة وواحدًا فواحدًا، ولينطق كلٌّ بما حَفِظ عن ظهر قلب في أدب وخشوع وامتثال.
وقالت الأم: سنسير بين يدي سيادته حتى مجلسه في صدر الثوي، نظل واقفين حتى يشير إلينا بالجلوس فيتخذ كلٌّ مجلسه، سيلقي أبوكم كلمة موجزة للترحيب، وإذا وُجِّه إلى أحدكم سؤال فليجب بالحياء الواجب وبالقدر الملائم، وإن جاد علينا بمُلْحة؛ فالابتسامة أولى بنا من الضحكة.
وقلت: لن أُذكِّركم بآداب المائدة، ولا تنسوا ما زودنا به أنفسنا من معلومات إن خطر لسيادته أن يختبرنا!
وقالت الأم: وحذار أن تتجاوزوا حدود الأدب إذا شاء أن يتبسط معنا في السمر، أو رأى أن يخص أحدنا بتأنيب أو زجر .. وعلينا أن نصدع بما يأمر دون تردد أو حذر.
وقلت مشجعًا ومذكِّرًا: إنها فرصة العمر، فلنسأل الله السلامة والتوفيق.
وجلسنا ننتظر بأعين تتطلع إلى الباب من خلال أشجار الورد. نحلم بما سنفعل أو نقول، ونحلم بالنعمة التي سيجود بها القدر. وانتظرنا .. وانتظرنا .. وانتظرنا. واشتد الشوق والوجد وتناهى الصبر. وقلنا: يا نسائم الربيع احملي إلينا السيد المنتظر. ولكن خطوات الوقت مضت تثقل، والزمن يتمطى ويطول والأعصاب يعتريها الألم. وكلما سمعنا أزيز سيارة أو نفخة بوق قمنا نسوي من هندامنا، وغبنا حتى الذوبان في المجهول المتمادي أمامنا، ومن حومة الجزع ارتفع صوت أحد الأبناء متسائلًا: ألم يحدد ساعة حضوره؟
فقالت الأم: حسبه أنه تفضَّل بتحديد اليوم.
فغمغم الشاب فيما يشبه الضجر: ما أطول اليوم!
وأخذ النور يخف ويتوارى، والمغيب يرسل ألوانه الهادئة الرزينة المليئة بالشجن. وتطلع نحونا الأبناء في صمتٍ وتساؤل، فقلت بثقة: إنه لا يخلف الميعاد.
– مع التأخير ستقل فرص السمر.
فقلت وكأنني أوجه الخطاب لنفسي أيضًا: ما أشقى مَنْ لا ينعم بنعمة الصبر!
وانتظرنا. وزحف الليل بجحافله، وهبط الظلام مشبعًا ببرودة. وعند ذاك ارتفع أول احتجاج يجيء من أصغر الأبناء: ضاع الوقت وخسرنا مسرَّات اليوم دون جدوى.
وهتفت به مؤنبًا ومداريًا ضيقي: ما أفظع ما تقول!
فقال بعِناد: في انتظار نعمة كبرى ضيعنا النعمة المتاحة.
فنهرته أمه: هذا هو الهذيان.
ولكن بتوغل الليل وتماديه فتر الحماس وتراجع الأمل، وغلب الظن بأننا لم نحسن فهم المكالمة التليفونية. ولم ندرِ ماذا نفعل ولا ماذا نقول. وانسحبت الفتيات بهدوء إلى الداخل، وشغلن التليفزيون. وما لبث الأبناء أن غادرونا، فذهب أولهم إلى النادي، والثاني إلى المسرح، والثالث إلى ملهى في الهرم. وتبادلت مع الأم نظرة مثقلة بالخجل وخيبة الرجاء.
وآوينا إلى حجرتنا، وأنا أقول: يلزمنا حبة من الحبوب المنومة!
وجمعتنا سفرة الإفطار في ضُحى اليوم التالي، تجنبنا الإشارة إلى مأساة الأمس، ورن جرس التليفون فقامت الأم إليه، ثم رجعت في غاية من الانفعال والاضطراب وهي تصيح: وا خجلتاه!
وحدجناها بنظرة متسائلة، فقالت بنبرة باكية: سكرتير السيد، قال: إن سيادته جاء في ميعاده، فوجد البيت نائمًا فرجع، أردت أن أشرح له ما حدث، ولكنه كان قد أغلق السكة.
هتفت بصوت كالأنين: يا للعار!
فقال ابني: لا ملامة علينا، أكان يجب أن ننتظر حتى الصباح؟!
فرجعت أقول بأسًى: يا للعار!
– ولكنا فعلنا الواجب وزيادة.
فقلت وقلبي يتقطع من الحزن: بل لم نصبر بما فيه الكفاية.
وأخذتِ الأم تنشج باكية، فقلت معزيًا: لا جدوى من البكاء، ثم إنني ألمس في اتصاله الجديد بنا توبیخًا لا يخلو من العناية.
فتساءلت ابنتي: هل يمكن أن يقرر الزيارة من جديد؟
فقلت على سبيل العزاء لهم ولي معًا: كل شيء ممكن، وليسدد الله خطانا في المرة القادمة.