العجوز والأرض
لفت نظري منظر جديد في أثناء مسيرتي اليومية على شاطئ النيل بشارع الجبلاية. الساعة السابعة صباحًا، أوائل الربيع، الطريق تكاد تخلو تمامًا من أي عابر، رأيت على سفح المنحدر نحو النهر رجلًا وامرأة. الرجل عجوز يقارب الثمانين، طويل القامة مع احْدِيداب خفيف، أبيض الشعر خفيفه، عتيق القسمات، يرتدي بدلة متهدلة من التيل السنجابي، والمرأة فوق الستين، امَّحت من صفحة وجهها أمارات الأنوثة وحل الجفاف والخشونة. على الأرض بينهما انطرحت خيمة مطوية، وتناثرت حُلل نحاسية وآنية شاي وموقد غاز. خطر لي أنهما جاءا يمضيان يومًا على شاطئ النيل تسلية عن الوحدة والكبر، فأشفقت على صفوهما من حصا المنحدر والقاذورات المتراكمة فوق أديمه. في اليوم التالي أدهشني أن أرى الاثنين بنفس موضع الأمس. وضاعف من دهشتي أن أراهما منهمكين في رفع الحصا وكنس القاذورات على مدى مسافة غير قصيرة من الشاطئ. تُرى ما شأنهما؟ هل يبغيان إقامة طويلة؟ وتمهلت في السير ممعنًا النظر. انتبها إليَّ فتطلعا نحوي بأعين متوجسة مرتابة، فلم أرَ بُدًّا من الإسراع في الخطو دفعًا للحرج. هل داخلهما شك في نيتي؟ هل حسبا أنني أراقبهما من موقع مسئوليتي عن الشاطئ؟ شعرت نحوهما بالعطف والرثاء، وتمنيت على الله ألا يخيب لهما رجاء. في صباح اليوم الثالث رأيت الأرض قد خططت فأصبحت أحواضًا متتابعة على هيئة مستطيلات، على حين ركب أسفل المنحدر شادوف لرفع المياه، وغير بعيد جلس الزوجان يحتسيان الشاي. ولما رأياني مقبلًا رفعا رأسيهما نحوي في قلق فاق قلق الأمس. مررت مسرعًا مشفقًا متحاشيًا التقاء الأعين. إنه الخوف عليه اللعنة. يطاردهما في مهجرهما الجديد ولا شك. وثمة سبب يمكن تخمينه رغم جهلي بتلك الأمور. إنهما يسيئان الظن بمسيرتي الصباحية، ويتوهمان أنها تدور من أجل مراقبتهما. كيف أعفيهما من جرعة النكد اليومية التي أصبحهما بها؟ لا غناء لي عن الطريق، ولكن بوسعي أن أتجاهلهما أو أُشعرهما بذلك. ويومًا بعد يوم أرى — بلحظ العين — المياه وهي تغمر الحقل، والخيمة وهي تنتصب في رشاقة. ويومًا بعد يوم تغير وجه الأرض، فآذن بمولد حياة جديدة. ويومًا بعد يوم ذرت القرون الخضراء كالأغاريد الخفيفة مبشرة بالبهجة المشرقة. تمنيت لو كان في قدرتهما أن ينشرا العمران في الشاطئ كله، ويريحا البصر من سوء مطلعه. ولم يكدر صفوي إلا إصرارهما على التوجس والحذر. حتى قررت يومًا أن أحيي وأبتسم. وما كدت أفعل حتى لوح إليَّ العجوز بيده، وصَعِدَ نحوي حتى وقف أمامي، ثم سألني: حضرتك موظف؟
فأجبت بالإيجاب فعاد يسأل: في المحافظة؟
فقلتُ بوضوح: كلا، لا علاقة لي بالمحافظة ولا الداخلية ولا ما شاكل ذلك.
فصمت حائرًا فقلت ضاحكًا: لماذا تنظر إليَّ في ارتيابٍ كأني عدو؟
فقال بنبرة اعترافية: أنا رجل عجوز على المعاش، كنت موظفًا بالزراعة، أخلت الشرطة بيتنا الآيل للسقوط، فكرت في سكنى الشاطئ بدلًا من المقابر!
– فكرة جميلة.
– المعاش قليل، قلت: أزرع لآكل لا لأتاجر. بعنا العفش القديم واشترينا ما يلزمنا كالخيمة والشادوف.
– فعلت خيرًا.
فتردد قليلًا ثم قال: أعتقد أن هذا لا يسيء إلى أحد؟
– حسبك أنك جمَّلت رقعة من الشاطئ القذر.
– ولكني أخاف التعليمات والإجراءات.
فقلت بصدق: الحق أنه لا دراية لي بذلك.
وتمنيت له الخير ثم صافحته وذهبت. ولما هلَّ الصيف قمت بإجازتي السنوية. وعدت من المصيف بعد شهر ونصف شهر لأواصل حياتي المألوفة. واستأنفت مسيرتي الصباحية، ولما اقتربت من شارع الجبلاية تذكرت — ربما لأول مرة — الرجل والمرأة. أقبلت نحو موضعهما توَّاقًا للاستطلاع. ولكني لم أجد أثرًا لهما ولا للحقل. رجع المنحدر إلى حاله القديمة من الخراب والقذارة. لا تفسير لذلك إلا أن مخاوف العجوز قد وقعت وتحققت. فاض قلبي بالأسى وأنا أتساءل عن مصير العجوزين. ورأيت جندي المرور على مبعدة يسيرة من المكان، فقصدته وتبادلنا التحية كعادتنا منذ سنوات. قلت له: كان هناك رجل وامرأة يزرعان الأرض.
فضحك الرجل قائلًا: لم يدم الحال وسبحان مَنْ له الدوام، جاء شرطي ذات يوم للتحقيق، وقاد الرجل إلى القسم لعمل محضر مخالفة.
صمتُ مغتمًّا متفكرًا، فقال الجندي: أرض الحكومة ليست لكل مَنْ هب ودب، وجاء عمال، فاقتلعوا الزرع قبل أن ينضج، ولا علم لي بما حصل للرجل بعد ذلك.
انقبض صدري حزنًا على آدم وحواء وحقلهما، وصحبتني ذكراهما زمنًا حتى تلاشت في خضم الحياة اليومية.
مضى اليوم على ذاك التاريخ أكثر من عشرين عامًا. أذكره أحيانًا عند مروري بالموضع إياه.
أذكر الرجل والمرأة والحقل الأخضر الذي عصفت به التعليمات المقدسة.