الغابة المسكونة
مرارًا وتكرارًا يشيرون إلى الغابة ويقولون لي محذرين: لا تقترب منها فهي مسكونة بالعفاريت!
الغابة تقوم في الطرف الجنوبي من صحراء مولد النبي بالعباسية. تبدو من بعيد جبلًا من الخضرة الداكنة متعدد الرءوس، طولها ثلاث محطات من محطات الترام، وعرضها قريب من ذلك، وقد يعبر سماءها دخان تحمله الرياح من المقلب الذي تُحرق فيه الزبالة. ما نوع أشجارها الباسقة؟ وما معنى وجودها في ذلك المكان؟ مَن الذي زرعها؟ ولأي غرض زرعها؟ وصحراء مولد النبي هي ملعب الكرة لصبيان العباسية، تتسع للعديد من فرق الهواة يمارسون هوايتهم في وقت واحد. ولما نفرغ من مبارياتنا الودية نرتدي جلابيبنا فوق أردية اللعب المعروفة، ونرجع إلى الحي متجنبين الاقتراب من الغابة المسكونة. وجاوزت الصبا وولجت المراهقة وولعت بهوايات جديدة منها القراءة. وأشرقت على روحي استنارة تحفل بكل جديد وطريف. وتطايرت من رأسي ووجداني خرافات كثيرة، ولم أعد أومن بعفاريت الغابة، ولكني لم أستطع التحرر تمامًا من رواسب الخوف الكامنة في أعماقي. وكنت أخلو إلى نفسي كثيرًا في الصحراء خاصة في العطلات الصيفية، أقرأ أو أتأمل أو أدخن السجائر بعيدًا عن أعين الرقباء. وأرمي ببصري من بعيد إلى الغاية فأبتسم ساخرًا من ذكرياتي، ولكني أمكث بعيدًا وأمضي من بعيد. وأضيق بموقفي وأتحداه وأطرح على نفسي سؤالًا: ألم يأنِ لك أن تكتشف الغابة؟
بعد حوار غير قصير، صممت على الإقدام والتنفيذ. ليكن في العصر والشمس طالعة، فالليل على أي حال غير مأمون. وكان مجلسي قريبًا من محطة لضخِّ المياه يتحرك في فنائها مهندسون وعمال. حييت أحدهم مرة وسألته عن سر الغابة، فأخبرني بأنها تابعة للمحطة، وأنها زرعت قديمًا؛ استغلالًا للمياه الفائضة، ولم تمتدَّ أكثر من ذلك ليمكن إقامة الحفل السنوي بمولد الرسول. قلت لمحدثي: قالوا لنا: إنها مأوى للعفاريت.
فضحك الرجل قائلًا: ما عفريت إلا ابن آدم.
ولأول مرة أمضي نحو الغابة. وقفت عند حافتها مستطلعًا؛ فرأيت الأشجار الشامخة صفوفًا منسقة كالطوابير، والعشب يغطي أرضها ويكسوها بخضرة غضة يانعة، وثمة قناة تشقها بالعرض تتفرع عنها جداول متلألئة، وتجاوب جوها بزقزقة العصافير، فبثت في الهواء عزفًا وطربًا. واستأنست بكل شيء فتقدمت غير هياب. لم أصادف إنسانًا ولكني ثملت بالوحدة والسلام. قلت لنفسي: يا للخسارة! ضاع عمر هدرًا، سامح الله الذين تصوروا أن تكون الجنة مأوى للعفاريت. وعند مركز الوسط تقريبًا ترامت إليَّ ضحكة. الحق أن قلبي ارتجف، ولكن تلاشى خوفي في ثانية. لا ريب أنها ضحكة ابن آدم، تفحصت ما حولي بعناية. لمحت على مبعدةٍ حلقةً من الشبان، وسرعان ما تبين لي أنهم ليسوا بالغرباء، جيران أو زملاء بالمدرسة، اتجهت نحوهم وأنا أحمحم. تحولت الرءوس نحوي حتى سلمت ووقفت باسمًا. بعد صمت سألني أحدهم: أهلًا، أي مصادفة سعيدة جاءت بك؟
فتساءلت ضاحكًا: وماذا جاء بكم أنتم؟
– كما ترى، نتسامر أو نقرأ أو نتناقش!
– منذ زمن طويل؟
– ليس قصيرًا على أي حال.
قلت بعد تردد: يسرني أن أنضم إليكم لو سمحتم.
– هل تحب القراءة والمناقشة؟
– أحبهما من كل قلبي.
– تفضَّل إذا شئت.
منذ تلك اللحظة بدأت حياة جديدة، يمكن أن أطلق عليها حياة الغابة. طيلة العطلة الصيفية نمضي كل يوم ساعتين على الأقل في الحلقة. ومع زقزقة العصافير هبطت أفكار ورؤًى. انتقلت الدنيا من حال إلى حال. ليس الأمر لهوًا ولعبًا ولا رياضة عقلية تمضي إلى حالها. إنها تشير إلى مسيرة ومغامرة وتجربة محفوفة بكافة الاحتمالات. وكان من عادتي أن أجالس أبويَّ بعد العشاء. نستمع إلى الفونوغراف، ونتبادل الحديث. وكنت قد احتفظت بسر الغابة فلم أطلع عليه أحدًا. وكان أبواي آخر من أتصور أن أبوح لهما به. منذ زمن لا أذكر أوله استقرا في أعماق طمأنينة أبدية ونعما بسلام دائم. ولا يخرج أبي عن إطاره إلا إذا أغرته السياسة بأخبارها. يطيب له متابعة الأحداث والتعليق عليها. ويومًا ختم حديثه بقوله: ما أكثر عجائب هذا البلد!
فاندفعت أقول له: العجائب لانهاية لها.
فحدجني بنظرة متسائلة فقلت: إليك بعض الآراء بما يدور في مجتمعنا.
وتكلمت بإيجاز وتركيز، فأنصت إليَّ ذاهلًا ثم هتف: أعوذ بالله، ليس أصحاب هذه الآراء بآدميين، ولكنهم عفاريت!
عند ذاك أدركتُ أنني أصبحت من عفاريت الغابة المسكونة.