يرغب في النوم
غادر التاكسي عند مدخل شارع حسن عيد. الضحى ارتفع والشمس تريق أشعة حامية من سماء باهتة، ودفقات متابعة من الخماسين، تزيد من الحرارة وتثير الغبار، وتنفث الضيق والكدر. تغير كل شيء بقوة تفوق الخيال. الطريق من محطة مصر حتى هنا يكشف قاهرة أخرى. أين ذهبت القاهرة التي عاش فيها منذ نيف وخمسين عامًا؟ جُنت بالزحام والسيارات والصراخ والدمامة. ليس وجهه وحده الذي عبث به الزمن. وهو متوسط القامة نحيلها، معروق الوجه، أصلع، شائب العذار والشارب. مطوق العينين والفم بالغضون، يتوكأ على عصًا، ويتمتع بنشاط يُحسد عليه بالقياس إلى سنِّه. ها هو قد رجع بعد عمر طويل فما الأمل؟ لم يرجعه عقل أو منطق، ولكن نداء خفي مُلحٌّ متعب مبدد للراحة، قال له: اذهب وانظر وافعل شيئًا ما، لعله يجعل نومك أعمق. وشارع حسن عيد يتراءى في تكوين جديد. حتى اسمه امحى من الوجود وحل محله اسم جديد هو الشهيد مصطفى إبراهيم، وعلى الجانبين قامت العمائر العالية، وتراصَّت في أسفلها الدكاكين، وماج الطريق بالزبائن. إنه سوق ولا أثر للبيوت القديمة والهدوء الشامل والذكريات المتلاشية كحلم. نداء عقيم، ساقه بلا وعي. وسيتمخض عن لا شيء. واتجه نحو العمارة الأخيرة في الجانب الأيمن، هنا قام يومًا البيت القديم. كأن الشارع لم يُكنس منذ جيل، والخماسين تشتد وتحمَى منذرة بالمزيد من الإرهاق. وحنَّ إلى متجره في الريف، والأولاد والبيت الذي اضطر إلى الابتعاد عنه بعد إقامة نصف قرن. بواب العمارة مشغول ببيع الفاكهة في مدخل العمارة معروضة على رف طويل تحت صناديق البريد ما بين برتقال وموز وليمون. وقعت عيناه على عينيه، فانتبه الرجل متوقعًا زبونًا جديدًا فحياه بسرعة وقال: هل تعرف عم محمد الشماع أو أي أحد من أسرته؟
فتر إقبال الرجل، وقال: لا أعرف أحدًا بهذا الاسم.
– كان يقيم في البيت القديم الذي شُيدت هذه العمارة محله؟
– هذه العمارة قائمة منذ أربعين عامًا!
– لعل أحدًا بهذا الاسم في عمارة أخرى؟
– لا أظن، وعليك أن تتأكد بنفسك بسؤال البوابين.
دورة من العناء والضجر واليأس ولا أحد يعرف الشماع أو أسرته. كانوا أسرة كاملة مكونة من أب وأم وأخ وأخت. مَن رحل يا تُرى ومَن بقي؟! ونصف قرن — بل أكثر — ليس بالزمن القليل، عمر طويل دالت فيه دول وقامت دول. وهل تنسى أيام التعاسة الأولى، أيام القحط والأزمة؟ وإن يكن جيل مضى ألم يخلف جيلًا جديدًا؟ ألا توجد همزة وصل تصل ما بينه وبين ذلك الزمن الغابر؟ هل يرجع كما جاء؛ ليجد الذكريات فوق فراشه ترصده بنظراتها الباردة القاسية؟ ورجع إلى الشارع العمومي، فشعر بالعرق ينساب على جسده خطوطًا لاذعة تحت جلبابه المخطط، واشتدت الخماسين واكفهرت وأثارت مزيدًا من التراب فحجب الأفق عن الرؤية. لا مفر من الانتظار حتى المساء؛ ليعود مع قطار الصعيد. وقت طويل والتسكع لا يحلو في مثل هذا اليوم. تُرى أين أصحاب الشباب ومَن بقي منهم على قيد الحياة؟ لعل عند أحدهم نبأ عما يبحث عنه، ولكن أين هم؟ وهل ما زالوا يتذكرونه؟ لا. لا .. بحث عقيم عن أناس اقتُلعوا تمامًا من وجدانه، وكأنهم ماتوا وشبعوا موتًا. حتى أغاني ذلك الزمان لم تعد تُطرب أحدًا وتثير السخرية. وخطر له خاطر لا يدري من أين جاء، أن يزور المدفن القديم، ومِن توِّه مضى إلى باب النصر. وجد القرافة عامرة بالسكان كما قرأ في الصحف، أصبحت في موسم دائم. ولكن حوشهم نجا لصغره؛ إذ كان يحوي قبرًا واحدًا، وخاليًا من المرافق والمياه، ولا يكاد يتسع لواقفَين أو ثلاثة. وسأل عن التربي الذي نسِي اسمه تمامًا فجاء عجوز يسعى، في سن أبيه لو كان على قيد الحياة، ولعله ظن أنه استُدعيَ لرزق جديد. اطمأن إلى شيخوخة الرجل، وحدس أن يعرف من خلالها أشياء. وبعد تحيته سأله: حوش الشماع؟
– نعم.
– إني أسأل عنه، أو عن أي فرد من أسرته.
انطفأ وميض الأمل في عيني الرجل وسأله: مَن حضرتك؟
– صديق قديم، ويهمني جدًّا أن أهتدي إلى أي فرد من الأسرة.
– كنت على معرفة وطيدة بعم محمد الشماع الله يرحمه.
– مات؟!
– ورقد في هذا القبر منذ أكثر من خمسين عامًا!
– والست الكبيرة؟
– لحقت به بعد عام أو عامين.
– وماذا عن الآخرين؟
– لم يُفتح القبر منذ وفاة الست … ولا علم لي عن الآخرين.
– كان للمرحوم ابن وبنت.
– كان له ابنان وبنت!
خفق قلبه وهو يتساءل: ابنان؟!
– الابن الأصغر، ربنا يجحمه حيث يكون.
– لماذا؟
– ولد فاسد شرير، كان يعمل في الدكان مع أبيه وأخيه، وفي عز الأزمة سرق الخزانة وهرب، ولم يُسمع عنه خبر بعد ذلك.
– أعوذ بالله، لا شك أنه تركهم لأيام عسيرة.
– محنة وفقر وتسول، سرعان ما مات الرجل كمدًا، ولحقت به امرأته. أنجب شیطانًا، ولا شك في أن الله قد انتقم منه شر انتقام.
نظر إلى القبر مليًّا، ثم رفع بصره إلى السماء المغبرة، وهمس: شكرًا.
فقال الرجل: ربنا يدلك على ابن الحلال ليرشدك إلى ما تريد.
وحيَّاه وانصرف. سار كالأعمى لا يرى ما بين يديه.