في المدينة
١
رُزق بولد أول ما رزق. سعد بالمولود سعادة رجل يقدس الأسرة والإنجاب، ولا يعترف بالإنجاب إن لم يتوَّج بذكر. كان يقترب من أواسط العمر، ويستقر في دنيا النجاح كمحامٍ نابه. والزواج كان تقليديًّا، بُني على البحث والسؤال وحسن الاختيار، ثم جاءت العاطفة في حينها لتكمل البناء وتنمقه. غير أن إعصارًا عصف بسعادته بلطمة واحدة. فيومًا اصطحب زوجته إلى السينما، ولما رجعا إلى مسكنهما بالحدائق لم يجدا الوليد ولا الدادة. لم يكن من المألوف أن تخرج به ليلًا، خاصة ليل الشتاء، فبدا الأمر مقلقًا، وسأل الرجل الجيران والبواب فلم يظفر بما يطمئنه، وانتظر هو وزوجه على غير طائل، ثم ذهب أخيرًا إلى القسم. أدلى بالأقوال المطلوبة عن الدادة والمخدم الذي جاء بها والطفل ذي العامين، ثم رجع إلى مسكنه مهيض الجناح مشتت العقل، ولم يغمض لهما جفن — هو وزوجه — حتى الصباح. وقامت الشرطة بتحريات واسعة، وتردَّد عليها أيامًا متواصلة، ولكن البحث لم يسفر عن نتيجة، ولم يعثر على أثر للطفل أو للدادة. أيقن أن ابنه قد سُرق، لحساب الدادة من أجل أم عقيم، هل ما زال على قيد الحياة؟ وأي مرعى جديد يؤويه ويحتضنه؟ وتعكر صفو الزوجين، وكابدا آلامًا مبرحة، لعلها أشد من آلام الموت نفسه الذي يؤلف في النهاية كقدر لا مفرَّ منه. ولكن مرور الأيام دواء على أي حال، فسلم الرجل أمره لِلَّه وأذعن لمشيئته، وانهمك في عمله غارقًا في هموم الحياة ومشكلاتها. وقد رُزق بعد ذلك ببنات ثلاث، ولم يُرزق بولد رغم اللهفة والحسرات، وظل عند مولد كل بنت يتذكَّر ابنه الضائع في خضم الحياة المصطخب. وتقدم في عمله من نجاح إلى نجاح حتى عُدَّ بين النخبة من رجال القانون والقلة من أثرياء أصحاب المهن. وشيد لأسرته فيلا في الهرم واقتنى سيارة مرسیدس، واستمتع بالجاه والصيت العريض، وتوج نجاحه بالمساهمة في الحياة السياسية، فتألق كنجم من نجوم المجتمع وقائد من قادة الفكر. ولم تُمْحَ ذكرى ابنه المفقود من ذاكرته. أجل لم يكن يذكره بصوت مسموع رحمة بأمه، ولكنه كان يستحضره في المناسبات، فيقول: لو بقي لي لكان اليوم يتأهب لامتحان الثانوية العامة، أو لكان اليوم يختم دراسته الجامعية، أو لربما كنا نحتفل بزواجه، ثم يتمنى على الله أن تهيئ بيئته الجديدة له الدفء والحب والفلاح. وفي أثناء ذلك تزوجت بناته، فانضم إلى الأسرة ثلاثة شبان في سن ابنه المفترضة أو قريبين منها، وصار له أحفاد من الذكور عوضوه عن فقده خيرًا، ولكن عقدة الابن الذكر لم تفارقه، واقتضته إجراءات كثيرة؛ لحفظ إرثه في ذريته دون مشاركة أحد من إخوته الذين لم يكونوا في حاجة إلى ماله. وعاش في نظر الناس مثالًا للنجاح والسعادة، وفي باطنه مثالًا للسعادة الواقعية التي لا تخلو من حزن أو ألم.
٢
أما الابن، فقد نشأ وترعرع في شقة صغيرة في بيت قديم بمصر القديمة. إنه يذكر تمامًا أمه الطيبة المحبة، كما يذكر أباه الكهل الذي كان يغادر البيت صباحًا ويعود إليه مساء، كما يذكر شاربه الغليظ وعصاه وبدلته الأنيقة، حظي بحياة طيبة مريحة، وفي السادسة دخل المدرسة، ولم يجد في جو البيت الطيب ما يشجعه على الدراسة، وما لبث أن مات أبوه ولم يوفق في الدراسة، ثم ماتت أمه وهو في الثامنة. وجد نفسه وحيدًا بلا أهل. ولم تتركه جارته لوحدته فدعته للبيات مع أولادها. واتفقت هي وزوجها مع صاحب البيت على إخلاء الشقة وبيع الأثاث، واقتضى العدل أن يحتفظا بالمال نظير إيواء الغلام والعناية به. ولكنه لم يحظَ برقابة كافية فضاع مرة أخرى بين مسكنه الجديد والمدرسة حتى فصلته المدرسة. وتغيرت المعاملة مع الزمن؛ فما إن بلغ العاشرة حتى وجد نفسه يعمل خادمًا في البيت والسوق. ومن أول يوم كره عمله الجديد ورفضه ولكنه تحمله راغمًا. وأحيانًا يتذكر حنان والديه فتدمع عيناه في وحدته. ويومًا خرج للتسوق فوجد الشوارع تموج بالكبار والصغار، يصيحون في غضب، ويقذفون السيارات ومصابيح الشوارع بالطوب. روعه المنظر لأول وهلة ولكنه سرعان ما استجاب إليه بسرور خفي وشارك فيه. وفرَّ في الوقت المناسب مصممًا في الوقت نفسه على عدم العودة إلى مخدومته. هام على وجهه ولكنه التقى بكثير من الهائمين، وعند الضرورة تسول رزقه حتى عطف عليه منادي سيارات، فاستغله في التنظيف والحراسة نظير المأوى واللقمة. وكان الرجل رب أسرة وله أطفال دون سن العمل. وارتاح لعمله الجديد وسعد به، وعاش يومه كله في الهواء الطلق. ولما بلغ المراهقة وتدرَّب على عمله، قرر الرجل أن يختار له موقعًا مستقلًّا نظير جُعلٍ يوميٍّ. قال له: إنها فرصة مليحة لا تتاح إلا لسعيد الحظ، ولا تتيسر إلا بالمال والفهلوة.
ولكي يضمن ولاءه زوجه من كبرى بناته، وهي عروس لا بأس بها شكلًا وموضوعًا، بالرغم من أنها عوراء، واتخذ مسكنه مع حميه مستقلًّا بحجرة منفردة، واستقبل حياة طيبة مثمرة.
٣
طيلة ذلك العمر، جمعت مدينة واحدة بين الابن وأسرته الحقيقية، أبيه وأمه وأخواته. أما والداه الزائفان فقد نسيهما تمامًا، ولم يخطر له ببال أنه ابن شرعي لوالدين آخرين. ومرات كثيرة اخترقت سيارة الأب الشارع الذي يعمل فيه الابن، دون أن تقع عين أحدهما على الآخر. غير أنهما تقاربا مرتين فرأى الابن أباه، وثمة احتمال أن الأب أيضًا رأى ابنه. الأولى وقعت عندما كان الابن ما يزال صبيًّا مساعدًا لحميه؛ إذ ركن الأب سيارته المرسيدس في الموقف وتركها لموعد هام مع النائب العمومي. وقف الابن على مبعدة يسيرة ينتظر دوره في العمل، فرأى أباه وهو يغادر السيارة ويمضي لعبور الطريق. مرت عينا الرجل به فيما مرت بأشياء الطريق القائمة والمتحركة. أما الابن فقد راعه منظر الرجل بجلاله وأبهته فخلف في باطنه أثرًا عميقًا، وأقبل على تنظيف السيارة بحماس. ولمح وهو يجلي زجاج النافذة سيدة في الداخل فتنته فخامتها رغم کهولتها، ولكنها كانت مستغرقة في قراءة جريدة فلم تلتفت نحوه. الثانية تمت في سياق المعركة الانتخابية، فقد أقام الأستاذ سرادقًا شعبيًّا ليوزع حلاوة المولد على الكادحين؛ لمناسبة حلول المولد النبوي قُبيل الانتخابات. في ذلك الوقت، كان الابن قد استقل وتزوج. ووقف يتفرج دون أن يشترك مع الجالسين. جاء الأب متبوعًا بنفر من أعوانه وراح يوزع علب الحلاوة بنفسه ويتقبل الدعاء. وتذكره الابن وانبهر به مرة أخرى، ولما فرغ الرجل من مهمته وغادر السرادق، اقترب الشاب منه مدفوعًا بانجذابه وقال: هل أنبه السائق للحضور بالسيارة؟
ولكن أحد الأعوان كان قد بادر للقيام بالمهمة، فنظر الأب نحوه نظرة عابرة وقال: شكرًا ولا داعي للإزعاج.
فصادف قوله من نفس الابن منتهى الرضا.