في غمضة عين
ما ظن يومًا أن زوال محنته يعني انزلاقه إلى محنة جديدة. من أجل ذلك لم يستمتع طويلًا بعطر الخريف وأماراته المشربة بالبياض الناعس التي تغازله في مجلسه بشرفة كافيتريا الجلوب. إلى جانبه وفي متناول مسِّ منكبه جلست رافعة بروفيل وجهها الأسمر الصافي الذي تفانى في حبه على مدى سنوات طويلة. هيأ نفسه منذ اللحظات الأولى للقاء — كالعادة — للتشاكي، ولنفث نسمات الحب في مناخ الإحباط المحدق، وللحومان حول هموم المسكن والخلو والجهاز والمهر، ثم كيفية مواجهة تحديات المعيشة. استقلا معًا قارب الحب منذ المرحلة الثانوية، وتلاعبت به أمواج الحياة المعاندة غير المواتية، ولكنهما ظلا مصممين على البقاء جنبًا لجنب قابضين بشدة كل على مجدافه، رافضين الانهزام أمام العقدة التي تطوقهما. هذا الصباح تطالعه عيناها بمرآة جلية الصفاء، لا ينضح بياضهما النقي بفتور. لم يخلُ قط جمال نظرتها من كآبة خفية تتجلى حينًا وحينًا تستشف. وتاق قلبه لسماع أي خبر حسن، واحتسيا قدحي الجوافة على مهل في صمت حتى خرقه قائلًا: الحلم يتضخم في رأسي، وغير بعيد أن يصبح واقعًا.
فقالت بثقة جديدة كل الجدة: غير بعيد على الإطلاق.
حقًّا؟! اقترح ذات يوم أن يتزوجا بالفعل، وليكن ما يكون. أجل سيظل في بيت والده بالقبيسي، كما ستظل في بيت أبيها بالوايلي، ثم يبحثان عن حل وهما حاملان معًا أمانة الزوجية. أبوه رغم كونه موظفًا صغيرًا ممن عجنهم الانفتاح؛ إلا أنه لم يرتح أبدًا لاختياره ابنة حلاق. لتكن جامعية وموظفة، فأي قيمة لذلك اليوم؟ ولكن الفتى نشأ رجلًا لا يتحول عن المطالبة بحقوقه الكاملة. تفرس في وجهها مأخوذًا بتعليقها القوي، وقال: ماذا وراءك؟ .. لديك شيء جديد!
فقالت بثقة باسمة: أجل.
– حقًّا؟
– تبخرت المشكلة وانحلت العقدة، هبط حل بارع من السماء!
– ماذا عندك؟
فقالت بانفعال لم تستطع كبحه: اسمع، رجل أعمال عرض على أبي التنازل له عن دكانه نظير مبلغ خمسين ألفًا من الجنيهات.
انعقد لسانه من طغيان الفرح. الخبر في ذاته خبر من الأخبار المتداولة في تلك الأيام، ولكنه لم يتصور أن يطرق بابه واقعًا حيًّا.
– أرأيت يا عزیزي كيف تحل العقد بالسحر؟!
– حكاية لا تصدق.
– هي الحقيقة، وبعض زبائن أبي قدموا له نصائح ثمينة.
– مثال ذلك؟
– أن يهجر حرفته ويعمل بالاستيراد، ودلوه على الطريق لفتح مكتب …
– استثمار وثراء مضاعف.
فنقرت على ظهر يده بأظافرها الأرجوانية، وقالت: أبي يجهل اللغات الأجنبية، سيسافر كثيرًا، أقترح أن نستقيل من بطالتنا المقنعة وأن نعمل في مكتبه بمرتب حسن، ونسبة في الأرباح.
ضحك، ولبثت أساريره ضاحكة، ونسي هموم العمر كله، وقال: دخلٌ خيالي.
– وتلاشت المشكلات دفعة واحدة.
ونظرت إليه باسمة، وكأنما تدعوه لإعلان موافقته وشكره، فقال: توفيق ما بعده توفيق.
وتاه في الحلم تحت مراقبة عينيها، مورَّدَ الخدين من الفرح غائصًا في لجة من الخواطر، ومسح بيده على شعر رأسه الغزير، وتنفس بعمق ثم قال، وكأنما يحاور نفسه: سنصبح منهم!
مَن تعني؟
– أنتِ تعرفين ما أعني تمامًا.
الماضي لا يمكن أن يُنسى. إنه ماضٍ حاضر، تجسد في حوار متواصل. انهال بألسنته المحمومة على الانحرافات والطفيليين من منطلق مثالية ناصعة، بل انتماء لا يخلو من تطرف. لكنها قالت: الصفقة مشروعة ولا غبار عليها.
– أسلِّم بهذا، ولكنا لم نُعفِها من نقدنا المُر.
فقالت محتجة: لا بد أن نفرق بين ما هو شرعي وما هو منحرف.
– معك الحق. ولكن أصحابنا سيسخرون منا.
– فليسخروا ما شاءوا، المهم أن عملنا لا غبار عليه.
– العمل لا غبار عليه.
– مَن منهم يُعرِض عن فرصة مماثلة إذا مُنحت له؟
– لا أحد فيما أتصور.
– فلا يوجد سبب واحد يدعو للتردد.
– هذا حق، المسألة …
وتوقف متفكرًا فتساءلت بحدة: المسألة؟!
– ماذا أقول؟ كنا نتكلم بين الأصحاب بحماس جاوز الحد.
– حول المنحرفين، ودائمًا المنحرفين.
– ألم نعتبر بعض أنواع الاستيراد انحرافًا؟
فقالت متجهمة: سنكون موظفين لا أكثر!
– صاحب المكتب هو أبوك وحمُوي!
– لن يكون مهرِّبًا أو خطافًا.
– طبعًا .. طبعًا، ولن يمنعنا العمل الجديد من المحافظة على أفكارنا.
– طبعًا .. طبعًا .. هل تتصور أن تضحيتنا بالفرصة هي التي ستصلح المجتمع؟
– طبعًا لا.
– لا تبالِ إذن بأي قول متعسف.
– هذا هو الرأي الصواب.
– هل أعتبر الأمر منتهيًا؟!
– أي نعم!
هكذا تلاشت المشكلات وابتسمت الحياة. آمن بذلك تمامًا ولكنه شعر في الوقت نفسه بأن محنة جديدة تتربص به بين الأصحاب أو في أعماق ذاته. ومن الآن فصاعدًا ستكون السعادة هي المشكلة. ستكون المشكلة هي الدفاع عنها والمحافظة عليها للنهاية إن أمكن.