مرض السعادة
ثمة عدو خفي يتربص به؛ ليكدر صفوه ويقوض بنيانه. زحَف عليه زحْفَ سحابة ثقيلة متدنية غامقة السمرة، حجبت نور الشمس، وأطفأت ضياء النهار، وتسربت إلى أركان النفس بغشاوة من الكآبة؛ فمزقت الخيوط التي ربطته طويلًا بينابيع الحياة. وتهرب من إعلان حاله لعلها تكون عابرة، ولكنها لم تتزحزح، ولم تخفَ عن عيني شريكة حياته.
– مالك؟ .. لا يمكن أن تكون الصحة، فأنت طبيب!
– صحة أُحسد عليها، الزملاء فحصوني فحصًا شاملًا وتلقيت التهاني.
– إذن طرأ طارئ!
– إني أفتش عنه، فلا أعثر له على أثر.
– لعله الفراغ بعد المعاش؟
– أين هذا الفراغ المزعوم؟ .. لدي النادي .. الصداقات .. الرياضة .. الموسيقى .. المطالعة .. بالإضافة إلى أن كل شيء تمام یا أفندم!
عندما يُلقي نظرة على ماضيه ترتدُّ إليه بتقرير موجز وصريح أن ليس في الإمكان أبدع مما كان. ولد في بيت عز وجاه لأبٍ من تجار القطن، وكان وطنه بدأ يتعرض للعواصف والتقلبات، ولكنه وجد المنجى والمعتصم في نصيحة أبيه حين قال له: كن في نفسك تسلم، ولا شأن لك بالآخرين! ولإعجابه بأبيه وحبه له أخذ بنصيحته. تطوع لأن يكون امتدادًا له بمحض اختياره وحبه. ماج الوسط الطلابي بالزلازل، وهو قابع في ركن هادئ يراقب ويبتسم. لم يهمه إطلاقًا حتى أن يعرف فيم يختلفون أو لِمَ يثورون. وقال له أبوه أيضًا: الإنسان الكامل كامل دائمًا وأبدًا، والكمال هو الكمال سواء في بلد مستعمر أو في بلد مستقل. وعكف على ذاته ينميها ويصقلها بالعلم والرياضة والثقافة والفن، بل كان ضاربًا على البيانو بامتياز. ودرس الطب بكل جدارة، وكان بميراثه في غنًى عن الكسب والعيادة فتخصص في فرع نظري، وحصل فيه على الدكتوراه من إنجلترا، ثم شغَل وظيفة في وزارة الصحة. كره من بادئ الأمر فكرة الاتصال بالجمهور أو العمل في المستشفيات وتطلع إلى المراكز المرموقة. ولعل زواجه كان الإنجاز الوحيد الذي أقدم عليه بدوافع ذاتية، ولكن اختياره حظي بموافقة أبيه وبركاته، وكأنما هو الذي اختاره له. تزوج من كريمة الباشا وكيل الصحة، وكانت مستوفاة لشروط الجمال واللياقة والتعليم المناسب فضلًا عن الأخلاق الطيبة. وواصل حياة هادئة سعيدة ما بين البيت والعمل والنادي، وكأنما قد حقن بطعم واقٍ من هيجان العصر وتقلباته وعواصفه، وأنجب ولدين ممتازين وناجحين. أجل تعذر عليه أن يصبهما في قالبه كما فعل أبوه معه، ولكنهما أرضياه تمامًا في أحلامه الكبرى، فتخرجا طبيبين، وتزوجا من فتاتين لا يقلان في المستوى والأهلية عن أمهما. ما عدا ذلك فللزمن أيضًا مقتضياته. وبلغ هو في ترَقِّيه وكالةَ الوزارة. وقامت ثورة يوليو فلم تمسه بسوء؛ لبعده الطبيعي عن أي شبهة، وأحيل إلى المعاش في ميعاده القانوني؛ ليستقبل حياة جديدة مليئة بالعواطف والمسرات. إنه الرجل السعيد حقًّا، إنه فلتة من فلتات الحظ والطبيعة. طبعًا لم تخلُ تلك الحياة من أكدار روتينية عابرة كمرض عابر أو سوء تفاهم زوجي أو تمرد بنوي أو منافسة في العمل، ولكنها تتلاشى مثل تجعدات أمواج عارضة في محيط واسع من الاستقرار والسعادة. ماذا حدث بعد ذلك؟ لماذا يفقد كل جميل مذاقه الحلو؟ لماذا تتراكم أنات الشكوى ولا موضوع واحد للشكوى؟ الأدهى من ذلك أنه مضى يرفض العمد التي قامت عليها سعادته، النادي .. الصداقات .. الزوجة .. الطعام .. الرياضة. وقبل أن يسلم بالهزيمة ويستسلم لليأس ذهب شبه مرغم للطبيب النفسي. كان صديقًا حميمًا وزميلًا قديمًا، وأدركه أول ما أدركه بالعقاقير. وأحدثت العقاقير أثرًا طيبًا، فرجع إلى الشفاء وأفاق من إغماءته الطويلة. غير أنه لم يقنع بذلك وراح يتساءل: ولماذا يصيبني الاكتئاب في بحبوحة السعادة الشاملة؟
فضحك صديقه قائلًا: ربما بسبب من السعادة نفسها!
فتبادلا نظرة كالإشارة الغنية بنفسها، فقال الرجل: إنك تسخر من نوعية السعادة التي قسمت لي.
فابتسم الطبيب وقال متهربًا: ابناك مختلفان عنك فيما أرى؟
فقال بعفوية: من سوء الحظ!
ولكنه استدرك ضاحكًا: أعني من حسن الحظ!