مِن تحت لفوق
أي أمل يمكن أن تجود به هذه الحياة؟ إنها من صميم الأسرة، ولكنها غريبة عنها تمامًا في الوقت نفسه، تمضي حياتها على الهامش، على حافة الهامش، رغم أنها المحور الذي يدور حوله كل شيء. أول مَن يستيقظ لتعد الإفطار، ولتمارس بعد ذلك خدمات متصلة، ختامها غسيل الأواني بعد العشاء، لا تشعر بانتمائها إلى الأسرة إلا حينما تجلس إلى مائدة الطعام معهم، أو عندما تتخذ مجلسها أمام التلفزيون بعد الفراغ من السخرة اليومية. وما إن تجاوز الساعة العاشرة حتى تقول لها تفيدة هانم — زوجة أبيها — بنبرة تجمع بين الحزم الصادق والعطف الكاذب: آن لك أن تنامي يا نعيمة؛ لتأخذي قسطك من الراحة.
المرأة لا تهمها راحتها في شيء، ولكنها تحرص على استيقاظها المبكر. يشهد على ذلك ما يتبادلانه من كراهية عميقة الجذور، تتستر أحيانًا بالصمت وتتعرى أحيانًا بقوارص الكَلِم. هذه المرأة التي قضت عليها، وسدت طريق الأمل بجدار غليظ. وحوالي السابعة يغادر أبوها بكري أفندي مسكنه إلى عمله بالحكومة، ويتبعه أخواتها الثلاث إلى وظائفهن التي ألحقن بها حديثًا عقب إتمام دراساتهن الجامعية. وتأخذ نعيمة في عملها اليومي تحت إشراف تفيدة هانم. لم يعد من المستطاع اكتراء خادمة في هذا الزمن، وها هي تسد هذا الفراغ بلا أجر وبلا شكر، وكأنه واجب تؤديه نظير لقمتها وإقامتها في البيت المفترض أنه بيت أبيها. أذعنت لوضعها التعيس، كما يذعن أبوها لمشيئة زوجته، كلاهما يجد في الإذعان منجًى من الكدر. ألفت الخدمة، وكراهية تفيدة هانم، وألفت ملابسها الخشنة الرخيصة الشعبية وحظها التافه من التعليم، مذ أصرت المرأة على إبقائها في البيت للمعاونة مضحية بمستقبلها ومستسلمة لحقدها الدائم، ولم تلقَ عند أبيها الضعيف أي دفاع، لم تجد نصيرًا مذ فقدت أمها وهي بنت ثمانية أعوام، وها هي تعبر الثامنة والعشرين بلا أمل، ولا يكاد أحد يكتشف جمالها وراء غشاء الإهمال والقذارة، الإهمال والقذارة والجهل والسن والفقر. المستقبل لا يبتسم ابتسامته الشاحبة إلا في الحلم، والحلم لا يريد أن يتحقق، فهل تتجرع تعاستها حتى الثمالة؟! أبوها يهرِّب إليها العطف أحيانًا من زاوية عينه في غفلة من المرأة، ثم تطحنه الحياة بأعبائها فيُشغل عنها بهمومه، وتقول وهي تتنهد: نسيني كما نسي أمي من قبل.
وكلما تحدَّتْ زوجةَ أبيها تحديًا عابرًا؛ ينقلب الجميع عليها، أخواتها وأبوها، فتنحصر في ركن وحيدة مغلوبة على أمرها. إنه بيت ظالم يستغلها بلا رحمة، وإنها تمقته من صميم قلبها الجريح. وحلمت كثيرًا في شبابها الأول بمعجزات الحظ السعيد، بمَقْدم رجل الأحلام الذي يضمها إلى قلبه رغم الفقر والجهل ويطير بها في سماوات السعادة، ولكنه لم يقدم ولم ينتظر الزمن، وصادفت أعينًا تتطلع بإعجاب، وهي تنشر الغسيل في الشرفة، أو تتسوق في الطريق، محض نظرات بلا فعل ولا أمل. وتنفذ امرأة أبيها إلى أعماقها أحيانًا، فتخاطب بناتها على مسمع منها: ادخرن واعتمدن على أنفسكن، أبوكن لا يملك إمكانية تجهيز بنت!
الماكرة تخاطبها هي، وتخاطبها أيضًا وهي تقول لأبيها: الشاب اليوم في حاجة إلى زوجة تشاركه حمل الأعباء، والموظفة بمرتبها تماثل صاحبة الإيراد على أيامنا.
ولم تستطع السكوت فقالت: لو لم أجبر على ترك المدرسة؛ لكنت اليوم موظفة!
فقالت المرأة بصرامة: بل كنت ضعيفة في دراستك، فجعلت منك ست بيت، وشيء خير من لا شيء.
فهتفت على رغمها: ربنا بيني وبينك!
فصرخت المرأة: تدعين علي؟!
وتدخل الأب والأخوات، وخسرت كالعادة القضية. وما جدوى الكلام؟ وما جدوى الخصام والشباب يتلاشى مع الأمل؟! بل ها هي تشهد مأساة من نوع جديد، فقد تقدم شاب لطلب يد درية كبرى الأخوات وفشلت الخطوبة؛ لعدم إمكان الحصول على شقة! وليلتها دار نقاش طويل أسيف في الأسرة عن تكاليف الزواج، أدركت نعيمة بعده أن أخواتها لَسْن أسعد حظًّا منها إلا قليلًا. حقًّا لقد تغيرت الدنيا، وها هي تمارس عقوباتها على مَن يستحقها ومَن لا يستحقها! ورجعت ذات صباح من أيام الشتاء الأخيرة من السوق في جلبابها الكستور متلفعة بشال رمادي، ويدها قابضة على سلة الخضار، فوقفت كالعادة تتبادل كلمتين مع زوجة البواب. وإذا بالمرأة تقول: عيني عليك، خادمة بلا أجر!
فقطبت دون ارتياح وفي شيء من الكبرياء فقالت المرأة: أصبحت أكره أسرتك من أجل عيونك!
فتمتمت نعيمة: ربنا موجود.
فتساءلت المرأة بإغراء: ألديك فكرة عن مرتب الخادمة اليوم؟
ما زالت تعتبر نفسها — على الأقل أمام الآخرين — فتاة كريمة من أسرة!
– وهل المرتب هو كل شيء؟
– طبعًا، لا تكوني عدوة لنفسك.
لم تنم ليلتها من الفكر، ولم يكن المرتب هو الإغراء الوحيد، ولكن التحرير أيضًا من سطوة تفيدة وضعف أبيها وأنانية أخواتها. ولم ينقطع الحوار بينها وبين زوجة البواب. رفضت فكرة العمل في شقة مفروشة قائلة بإباء: إني بنت محترمة.
فقالت المرأة: وعندي أسر محترمة أيضًا!
وغادرت نعيمة البيت فلم تعُد. اشتغلت في أسرة بمدينة المهندسين بمائة جنيه، وتحسنت أحوالها في الملبس والصحة. وفي مجرى عامين تزوجت من كهربائي مناسب جدًّا. ووجدت من نفسها رغبة في زيارة أسرتها؛ ليعلم زوجها أنها بنت ناس من ناحية، وليعلم أهلها أي مصير حسن انتهت إليه بعد التحرر من ربقتهم.
وكان يومًا من أسعد أيامها يوم رجعت إلى مسكنها القديم بوجهها الجديد وزيها الجميل بصحبة الزوج السعيد.