تاريخ المدرسة النمساوية ونهجها
-
المدرسة النمساوية هي نهج لعلم الاقتصاد نشأ في فيينا في سبعينيات القرن التاسع عشر. وهي تنتقد بشدة الاتجاهات الاقتصادية الحديثة السائدة.
-
يؤمن النمساويون (كما يطلق عليهم — مع أنهم موجودون اليوم في كل مكان) بأن كل الأحداث الاقتصادية تنبع من قيم الأفراد المعنيين واختياراتهم وظروفهم في وقت الاختيار.
-
يرى النمساويون أن جمهور علماء الاقتصاد مخطئون عند محاولة البحث عن صلات إحصائية بين الظواهر الاقتصادية.
-
يقول النمساويون إن نهجهم المبني على الفرد والقيمة يوفر تفسيرًا أفضل للأحداث الاقتصادية؛ كفترات الانتعاش والكساد الاقتصاديين.
ليست المدرسة النمساوية للاقتصاد مؤسسة تعليمية مقرها فيينا، وليست حتى معنية باقتصاد النمسا ذاتها. بل يشير المصطلح إلى نهج خاص في علم الاقتصاد، وإلى الاقتصاديين الذين يتبعونه في أرجاء العالم.
كيف ينبغي أن يعمل الاقتصاديون؟
ومع هذا فأصول المدرسة النمساوية ترجع إلى جامعة فيينا؛ إذ بدأت مع نشر كتاب «مبادئ علم الاقتصاد» لكارل منجر. انتقد الكتاب الأفكار الاقتصادية السائدة وقتها في العالم المتحدث بالألمانية؛ ما يسمى بالمدرسة التاريخية، بقيادة فيلهلم روشر. تبنت المدرسة التاريخية وجهة النظر القائلة إن علم الاقتصاد يشبه التاريخ؛ أي إنه يتعامل مع أحداث متفردة يستحيل أن تتكرر على النحو ذاته أبدًا. وعلى هذا كان من المستحيل إرساء قوانين عامة للاقتصاد — صلات تنطبق بصرف النظر عن المكان أو الزمان، كقوانين الفيزياء — مثلما افترض اقتصاديو المدرسة الكلاسيكية بإنجلترا.
رأى منجر أن الاقتصاديين يمكنهم الخروج بمبادئ تثبت صحتها في كل مكان وزمان، لكن الاقتصاديين الإنجليز كانوا مخطئين في البحث عن هذه الصلات بين إحصائيات التجارة والتبادل. وإن ما يحدث في عالم الاقتصاد هو أن ملايين الأفراد يقومون بالاختيار على نحو متواصل. وهذه الخيارات هي أساس الظواهر الاقتصادية كالعرض والطلب والسعر والسوق. ومن الحتمي أن تصير أساسًا لعلم الاقتصاد أيضًا. على الاقتصاديين البدء من مستوى الأفراد — وهو النهج المعروف باسم «الفردانية المنهجية» — ومحاولة تفهم كيف يختارون.
نادى منجر أيضًا بأن الخيارات الفعلية التي يقدم عليها الأفراد تعتمد على القيم والتفضيلات الخاصة التي يحملونها نحو مختلف الأشياء. لكن هذه الأمور تتعلق بالمشاعر والانفعالات الشخصية، وهي أمور يستحيل على الاقتصاديين الوصول إليها على نحو مباشر. يستطيع عالم الطبيعة قياس الوزن أو الحجم، لكن الاقتصاديين يعجزون عن قياس قيم الناس، تمامًا مثلما يعجزون عن قياس ما ينتاب شخصًا ما من مشاعر الحزن أو الفرحة أو الحب. ومن الحتمي أن يصير علم الاقتصاد معنيًّا بالظواهر الطبيعية «الموضوعية»، والظواهر البشرية «الذاتية» أيضًا.
وعلاوة على ذلك، أحدث منجر أيضًا (إلى جانب وليم ستانلي جيفونز وليون فالراس، مع أنهما عملا على نحو مستقل عنه) ثورة في الفكر الاقتصادي تدعى «تحليل المنفعة الحدية». يظل هذا التحليل أحد ركائز علم الاقتصاد السائد اليوم. وفكرته هي أنه حين يقدم البشر على خياراتهم ويتاجرون، فإنهم يسعون للحصول على أي شيء من شأنه أن يلبي أكثر احتياجاتهم إلحاحًا أولًا. بعد ذلك يسعون لتلبية الحاجة الأقل إلحاحًا (أو الأكثر «حدية»). وبالمثل، إذا كان عليهم أن يتخلوا عن شيء ما، فسيختارون أولًا التخلي عن أي شيء يمنحهم أقل قدر من الإشباع، قبل التخلي عن الأشياء التي يقدرونها أكثر. بعبارة أخرى، البشر يختارون على أساس «المنفعة الحدية» التي تقدمها لهم الأشياء المختلفة. يمكِّننا هذا المبدأ من أن نتفهَّم إلى حدٍّ بعيد كيف يجري الناس صفقاتهم الاقتصادية وكيف تعمل الأسواق.
الموجات الأولى
أثار نهج منجر خلافًا كبيرًا حول ماهية العلوم الاجتماعية، ومن بينها علم الاقتصاد، عرف باسم «النزاع المنهجي» أو الخلاف حول المنهج. في خضم هذا الخلاف، أُطلق على منجر ورفاقه في جامعة فيينا؛ يوجين فون بوهم بافرك وفريدريك فون فايزر، اسم «المدرسة النمساوية».
طور بوهم بافرك نهج منجر الذاتي من خلال تطبيقه على مجال الفائدة ورأس المال. وقد بيَّن أن الفائدة تعكس تفضيلًا معينًا لدى البشر؛ التفضيل الزمني تحديدًا. فنحن نفضل الحصول على الأشياء الآن وليس في المستقبل، ونحن مستعدون للاقتراض بفائدة للحصول عليها. وحين نقرض شيئًا لبعض الوقت، فنحن نطالب بأن يُدفع لنا فائدة. ومن هذا المفهوم اشتق بوهم بافرك جانبًا كبيرًا من نظرية الاستثمار والإنتاج وكيفية استخدام رأس المال.
تبنى فايزر — من جانبه — النهج ذاته في تحليل التكلفة. وقد بيَّن أن التكلفة ليست مقياسًا موضوعيًّا، وأنها أيضًا تنبع من القيم والتفضيلات الذاتية لمتخذي القرار. يتضمن الإنتاج التخلي عن بعض الأشياء الآن من أجل إنتاج أشياء أخرى لاحقًا، وعملية تحديد هل تلك الخيارات تستحق الجهد المبذول تقوم على الحكم الفردي، لا على القياسات الصارمة. شدد فايزر على دور رواد الأعمال في اختبار مثل هذه الأحكام، وذلك بناءً على فهمهم الخبير للأسواق.
يمثل منجر وبوهم بافرك وفايزر «الموجة الأولى» للمدرسة النمساوية. أما «الموجة الثانية» فكانت بقيادة لودفيج فون ميزس وفريدريك هايك، اللذين تعاونا في الثلاثينيات في تفسير دورات الاقتصاد؛ فترات الانتعاش والكساد الدورية التي تبدو ملمحًا مستديمًا للعالم التجاري. وقد ناديا بأن هذه الدورات تنبع من إدخال الائتمان المصرفي. فالاقتراض الرخيص يشجع رواد الأعمال على الاستثمار أكثر في عملية الإنتاج، ويشجع المستهلكين على شراء المزيد من البضائع من المتاجر، لكن عند زوال المحفزات الائتمانية تظهر الحقيقة. ويجد رواد الأعمال أنهم ينتجون من الأشياء غير المرغوبة أكثر مما هو ضروري، ويتعثر العمل، ويتحتم على الاستثمارات المفرطة في طموحها أن تزول.
مع تزايد التهديد النازي، غادر هايك وميزس النمسا في ثلاثينيات القرن العشرين. ذهب ميزس إلى الولايات المتحدة، وركز على علم الاختيار والفعل الخالص، وعمل على تنقيح مبادئ منجر الأساسية ودراسة تداعياتها. ذهب هايك أولًا إلى بريطانيا، ثم إلى الولايات المتحدة أيضًا، وركز على الدور المحوري للمعلومات في إقدام البشر على خياراتهم وكيفية عمل الأسواق على أرض الواقع.
النمساويون المعاصرون
جاءت «الموجة الثالثة» من اقتصاديي المدرسة النمساوية من الولايات المتحدة بالأساس، من جامعات على غرار نيويورك وأوبورن وجورج ماسون. بيد أنها عكست نطاقًا أوسع من التقاليد الفكرية، وبينما لن يتردد الكثيرون في أن يطلقوا على أنفسهم لقب «نمساويون»، يقر آخرون فقط بتأثرهم، بدرجة كبيرة أو صغيرة، بنهج المدرسة النمساوية.
من أبرز النمساويين الذين علينا أن نذكرهم كل من موراي روثبارد، الذي ألقى بمسئولية دورات الاقتصاد بكل وضوح على عاتق البنوك المركزية، وطور نقدًا ليبرتاريًّا للدولة، وإسرائيل كيرزنر، الذي تتبع الأهمية الحاسمة لريادة الأعمال في دفع التقدم الاقتصادي، ولورانس وايت، الذي أوضح كيف أن الأعمال المصرفية تتم على نحو أفضل في غياب القواعد والضوابط الحكومية. إلا أن اقتصاديين بارزين كثيرين غيرهم، ومن بينهم عدد من الفائزين بجائزة نوبل في علم الاقتصاد، يعتنقون بعض أفكار المدرسة النمساوية ويدينون لها بالفضل.
فاز هايك نفسه بجائزة نوبل، في عام ١٩٧٥، عن عمله الذي أجراه في الثلاثينيات عن دورات الاقتصاد، وهذا أثار قدرًا من الاهتمام في العالم بأفكار المدرسة النمساوية. ومع هذا، يظل الاقتصاديون النمساويون هم القلة الخارجة عن النهج التقليدي السائد والمعارضة له. يرجع هذا في جزء منه إلى أن نهجهم دقيق ومعقد ولا يسهل شرحه للطلاب. أو لأنهم يرفضون الكثير مما يُقبل بوصفه جزءًا من «علم» الاقتصاد، ومن ثم يعتبرهم جمهور الاقتصاديين «غير علميين». أو لأنهم يُعتَبَرون طائفة منغلقة على نفسها، غير مستعدة للخضوع للنقد.
مهما يكن السبب، تظل الحقيقة أن نهج المدرسة النمساوية يمكن أن يعلمنا الكثير عن كيفية إقدام البشر على خياراتهم، أو كيف «يقتصدون» بلغة الخبراء. وهذا ببساطة هو جوهر علم الاقتصاد. ومن هنا جاءت الحاجة لتقديم أفكار المدرسة النمساوية ببساطة، وبطرق مفهومة على نحو واسع، حتى لو كان هذا يعني المخاطرة بقدر من الإفراط في التبسيط والتشويه.