عيوب الاشتراكية
-
ينخرط البشر في التبادل الحر الطوعي لأن كل طرف للمعاملة التجارية يرى نفسه في حال أفضل بسببها. ومن ثم تقلل الاشتراكية، التي تتدخل في التبادل الحر، من المنافع البشرية التي تولدها عملية التبادل.
-
الإنتاج عملية معقدة. يمكن إنتاج أي عدد من الأشياء، وبأي عدد من الطرق. ودون إرشاد الأسعار الذي يبين مقدار ندرة الأشياء، لا يملك الاشتراكيون سبيلًا لحساب أي المدخلات والمخرجات يستحق ما يبذل فيه.
-
تحت لواء الاشتراكية تكون الأصول الإنتاجية مملوكة للشعب، ولا تباع أو تشترى إطلاقًا، ومن ثم لا تتحدد أي أسعار لها، وهو ما يؤدي إلى إساءة الحسابات والإهدار. ودون إغراء الربح لا يوجد ما يحفز على التحسين.
يرى اقتصاديو المدرسة النمساوية الأسواق كطريق محايد وكفء لتخصيص الموارد، باستخدام كل المعلومات المتاحة للبشر. وهم يؤكدون على أن التبادل الحر يفيد طرفي عملية التبادل، كما يجب عليه أن يفعل؛ لأنه كما أشار منجر فإنه لن يدخل أحد طوعًا في صفقة ما إذا ظن أنها ستعود عليه بالخسارة. ومن ثم تفيد عمليات التبادل البشر مثلما يفيدهم الإنتاج؛ وهو الأمر الذي كثيرًا ما يغفل عنه الاشتراكيون في ظل تركيزهم الدائم على الإنتاج.
بناءً عليه تعظم الأسواق الحرة، التي يجري فيها التبادل طوعًا، من القيمة البشرية. وأي شيء يتدخل في هذا — كإجبار الناس على القيام بأعمالهم بطريقة معينة أو منعهم من إجراء التبادلات الطوعية — يقلل من القيمة التي توجدها التجارة. هذا، بطبيعة الحال، هو ما تحاول الحكومات القيام به على الدوام، في ظل الضوابط التي تفرض قواعد جديدة على أنواع العمل التي يمكن القيام بها، وحظر بعض أنواع المعاملات كلية، وذلك على أساس «المصلحة العامة». لكن النمساويين يقولون إن هذا معناه التخلي عن المصلحة العامة الحقيقية، المبينة من حقيقة أن جميع المشاركين في التجارة يعتبرون أنفسهم في حال أفضل، واعتناق فكرة سياسية مسبقة التصور عن المصلحة العامة.
لهذا يجب تجنب التدخل الحكومي والسياسي في الأسواق الحرة. قد تكون هناك حاجة لنوع من القواعد الحكومية لضمان الحرية الحقيقية للأسواق، وللتأكد من أن الناس لا يجبرون على الدخول في معاملة ما. وقد تكون هناك حاجة لسلطة من نوع ما لضمان وفاء الناس بتعاقداتهم ودفع ما عليهم من استحقاقات بعدها. لكن خلاف ذلك يكون تدخل الدولة مضرًّا، وبعض النمساويين، كروثبارد، يرون أن المشاركين في السوق يمكنهم تهيئة ظروف السوق الأساسية هذه دون الحاجة إلى قوة الحكومة القسرية.
نقد ماركس
بدأ صدام المدرسة النمساوية بالاشتراكية على الفور. ففكرة منجر عن أن القيمة لا تكمن في المنتجات، بل توجد فقط في عقول الأفراد الذين يجدون لهذه المنتجات نفعًا، كانت تخالف على نحو مباشر الفكرة التي روج لها كارل ماركس القائلة إن قيمة السلعة تساوي مقدار العمل الداخل في إنتاجها. وفق «نظرية قيمة العمل» هذه، كلما بُذل عمل أكثر في إنتاج شيء ما، زادت قيمة هذا الشيء.
ومع هذا فالنظرية لا تصمد في وجه الاختبار. فقد أوضح منجر أن السلعة لا تصير ذات قيمة فقط لأن المنتِج استثمر فيها الكثير من الوقت والجهد. بل تصير ذات قيمة فقط إذا أراد المستهلكون الحصول عليها واستقوا منها بعض الإشباع. كانت نظريات ماركس السياسية والاقتصادية الموجهة بالمنتِج مقلوبة رأسًا على عقب؛ فليس الجهد المستثمر في السلعة هو الذي يمنحها القيمة، بل القيمة التي يضفيها الناس على السلعة هي التي تحدد مقدار الجهد الذي يستحق استثماره في إنتاجها.
وجه بوهم بافرك انتقادات أشمل وأكثر دقة لماركس. وعلى وجه التحديد حاج بافرك بأن ماركس نسي بالكامل أهمية عنصر «الزمن» في الإنتاج. فعلى أساس نظرية قيمة العمل، آمن ماركس بأن أصحاب العمل الرأسماليين يستغلون العمال، ويحصلون على عمل عدة أيام — ومن ثم قيمة — منهم مقدمًا، قبل أن يمنحوهم أجورهم في نهاية الأسبوع. على العكس، كما يقول بوهم بافرك، فمع عمليات الإنتاج الراقية الطويلة المعقدة «غير المباشرة» المعتاد وجودها في الاقتصاد الحديث، يمكن أن تمضي شهور أو حتى سنوات قبل أن يصير المنتَج جاهزًا للطرح بالسوق، ووقتها فقط سيحصل رائد الأعمال على أمواله. في حقيقة الأمر يزود رواد الأعمال عملهم بالدخل قبل أن يحصلوا على العائد على أمل بيع السلعة التي ينتجونها.
حتى هذا الأمل ليس مؤكدًا. فهناك مخاطرة، على رائد الأعمال أن يتحملها، مصاحبة لعبء تمويل عمليات الإنتاج «غير المباشرة» المعقدة وتنظيمها. والأجور المدفوعة للعمال لا تعكس سوى ما يتوقع الناس اليوم أن تكون عليه قيمة المنتَجات في المستقبل، حين تُطرح للمستهلكين. بالطبع سيختلف رواد الأعمال والعمال على هذا الأمر؛ فمن المرجح أن يكون رائد الأعمال (الذي يتحمل المخاطرة) أكثر حذرًا من العمال وممثليهم. ولهذا السبب تقع المنازعات حول الأجور. لكن المنازعات ما هي إلا اختلافات طبيعية في التقييم، وليست علامة على استغلال طرف للآخر.
مناظرة الحساب الاشتراكي
وجه ميزس المزيد من الضربات للاشتراكية بصفة عامة، فيما عرف ﺑ «مناظرة الحساب الاشتراكي» في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين. كانت النقطة الرئيسية التي أثارها هي أن طرق الإنتاج اليوم معقدة للغاية، وأن إنتاج كل شيء له احتياج في أي نظام اقتصادي حديث سيتطلب عددًا هائلًا من المدخلات. وكل مدخل من هذه المدخلات يمكن استخدامه، بطبيعة الحال، بعدد هائل من الطرق الأخرى، في عدد هائل من عمليات الإنتاج المختلفة الممكنة، من أجل إنتاج عدد هائل من المنتجات البديلة. كيف يمكن للمخطط الاشتراكي معرفة أيها سيختار؟
على سبيل المثال: هل ينبغي على الاقتصاد الاشتراكي إنتاج المزيد من النبيذ أم الزيت؟ إن إنتاج أي منها سيتطلب أنواعًا من الأراضي وكميات مختلفة منها ووسائل التخزين والزجاجات والبراميل ووسائل النقل وغير ذلك الكثير. وكل قرار بإنتاج شيء ما سيتطلب عددًا كبيرًا من القرارات الأخرى بشأن ما نحتاجه لإنتاجه وكيف يمكن التنسيق بين الاستخدامات الممكنة المتعارضة لهذه السلع الإنتاجية. وكما قال هايك فإن نطاق الاختيارات أكبر بكثير من قدرة أي عقل بشري على التفكير فيه.
في الاقتصاد الرأسمالي تكون بنية وقرار الإنتاج مدفوعين بنفس الآلية البسيطة الخاصة بالأسعار. فسعر السلعة الاستهلاكية يعكس القيمة التي يوليها الناس لهذه السلعة وهم يتبادلون مختلف السلع في السوق. هذا السعر بالتبعية يُعْلِم المنتجين بالقدر الذي يستحق إنفاقه من أجل تخليق هذا المنتج بعينه. وبهذا تعكس أسعار السلع الإنتاجية، كالمباني والماكينات والمدخلات المستخدمة، قيمة هذه السلعة الاستهلاكية في نظر المشتري النهائي لها. بهذه الطريقة تجذب أسعار السلع الإنتاجية الموارد الإنتاجية إلى المواضع التي تخلق فيها أعلى قيمة للمستهلكين، وهي تفعل هذا على نحو مباشر وفعال.
لكن في الاقتصاد الاشتراكي تكون «وسائل الإنتاج» — السلع الإنتاجية أو الرأسمالية — ملكية عامة. (حين تفكر في الأمر ستجد أن السلع الاستهلاكية لا يمكن أن تكون ملكيتها عامة؛ لأنه ليس بمقدور مجموعة من البشر ارتداء المعطف نفسه أو تناول قطعة الشوكولاتة نفسها، لذا ركز الاشتراكيون في حصافة دعواهم على الملكية العامة للسلع الإنتاجية، التي يمكن التشارك في ملكيتها.) لكن لو كانت السلع الإنتاجية خاضعة للملكية العامة، ولا تباع أو تشترى أبدًا، فهذا يعني أنه لا سوق لها، ومن ثم ما من سبيل لتعيين أسعار لها. لا يملك المخطط الاشتراكي أي سبيل بسيط كي يقرر أيًّا من ملايين الموارد المتاحة ينبغي تجميعها وبأي من ملايين الطرق الممكنة من أجل إنتاج أي من ملايين السلع الاستهلاكية الممكن إنتاجها.
مشكلة التنسيق
هذه عقبة كبيرة؛ لأن السلع الإنتاجية ليست متماثلة، بل هي «متفاوتة»؛ فلها العديد من الأشكال والنوعيات المختلفة. ودون وجود لوحدة حساب موحدة، يصير الاختيار بينها أشبه بالاختيار بين الزيت والنبيذ. ودون إرشاد الأسعار يجب أن يأتي الخيار من الحكم الشخصي للمخططين، وليس بناءً على حكم الجمهور، الذي يدفع عملية الإنتاج في اقتصاد السوق.
هي أيضًا ليست مشكلة تقنية خالصة يمكن حلها من خلال إدخال عدد كافٍ من الأرقام إلى حاسب آلي، كما يقترح بعض الاشتراكيين. فلا يملك المخطط الاشتراكي أي معرفة مباشرة بالقيمة التي يوليها مختلف الأشخاص للسلع المختلفة. فقيم الناس شخصية، والمعلومات الخاصة بندرة السلع غير كاملة ومشتتة وسريعة التغير وذات نوعية متفاوتة ومتنوعة في الشكل ومن الصعب حتى إدخالها إلى حاسبات الأعداد. ودون وجود لوحدة حساب كالأسعار، يستحيل المقارنة بين أنواع وأجزاء المعلومات المختلفة. ودون مثل هذا الأساس للمقارنة، من المحال العمل على المعلومات المتاحة بأي طريقة عقلانية متزامنة. ومجددًا، الأمر يصير رهنًا للاختيارات الشخصية لذوي السلطة.
رد بعض الاشتراكيين بما سموه «اشتراكية السوق»، التي فيها يوجه المخططون استخدام السلع الإنتاجية كما لو كان هناك سوق. لكن ميزس رد بالقول إنه لو لم يوجد السوق، فمن المحال أن يعرف المخططون كيف سيعمل. إذا وجدت أسواق بالجوار يستطيع المخططون محاكاتها، قد يكون لديهم أمل، مع أنهم سيكونون دومًا متخلفين عن التطورات الجديدة، ومن ثم سيضيع جزء على الأقل من القيمة. لكن الهدف الإجمالي للاشتراكية الدولية كان تخليص العالم من الملكية الخاصة ومن ثم من الأسواق، وهو ما سيترك المخططين دون أي إرشاد على الإطلاق. لن توجد أسواق للسلع الإنتاجية توجه بنية الإنتاج، ولا أسواق رأسمالية تقيم إمكانيات الإنتاج المختلفة وتوزع رأس المال بفاعلية بينها. ودون الربح، لن يوجد رواد أعمال متيقظون للتغيرات في أنماط الندرة ويفعلون شيئًا حيال ذلك الأمر. لن تتمخض محاولات «تحسين» السوق عن إنتاج القدر نفسه من القيمة الذي ينتجه السوق نفسه، وسيعجز التخطيط المركزي الشامل عن العمل. قد يمضي متعثرًا، بيد أنه سينتج قيمة أقل من البديل السوقي، وكلما طالت مدة تعثره زاد عجز القيمة.