أهمية المدرسة النمساوية اليوم
-
يوجه الاقتصاديون النمساويون انتقادًا لاذعًا للنظريات السائدة، ويهدفون لتفسير ظواهر كالركود التضخمي وفضح نقاط ضعف السياسات استنادًا إلى نماذج اقتصادية مصطنعة ومضللة.
-
تفسر المدرسة النمساوية سبب قدرتنا على التحلي بالإيمان في النظام غير المخطط الذي تنتجه الأسواق، وفي الوقت ذاته تفضح العواقب الخبيثة للتدخل الحكومي.
-
يمكن لمناهج المدرسة النمساوية أن تقدم تفسيرات وحلولًا للقضايا الحالية المهمة، كحماية البيئة وفترات الركود الاقتصادي.
قدمت المدرسة النمساوية العديد من الإسهامات المهمة فيما يسمى الآن بالفكر الاقتصادي السائد؛ على غرار تحليل المنفعة الحدية ومفهوم تكلفة الفرصة البديلة. كان لبعض إسهاماتها الأخرى أثر كبير بكل تأكيد — كالنظرية النمساوية للقيمة، مثلًا، وتركيز هذه المدرسة على تباين رأس المال، وأهمية عنصر الوقت في عملية الإنتاج وتفسيرهم لأصل الفائدة — مع أن أتباع الفكر الاقتصادي السائد عادة ما يصرفون النظر عن هذه الأفكار بوصفها محض اختلافات في التأكيد. لكن بعد الانهيار المالي لعام ٢٠٠٧ تحديدًا، زاد الاهتمام بتفسير المدرسة النمساوية لدورة الاقتصاد، القائم بالأساس على التفضيلات الزمنية، وعلى شرحها للخلل المدمر الذي يحدثه التضخم، واستنتاجها بأن النقود الإلزامية والنظام المصرفي الاحتياطي الجزئي يمثلان مزيجًا خطيرًا.
يجد جمهور الاقتصاديين صعوبة أكبر في تقبل الآراء النمساوية عن الأهمية الحاسمة للملكية الخاصة كأساس للتبادل والأسعار، أو تأكيد النمساويين لمحورية فكرة الفردانية — وحقيقة أن قيم الأفراد وتفضيلاتهم ورغباتهم واحتياجاتهم وظروفهم متباينة للغاية وغير متوقعة — في التحليل الاقتصادي. وبطبيعة الحال لا تعد النتيجة التي خلص إليها النمساويون، والقائلة إن حاصلات جمهور الاقتصاديين وصيغهم الرياضية هي محض هراء، غير مقبولة من جانبهم على الإطلاق.
نظرة بديلة لعلم الاقتصاد
ومع ذلك يقدم النهج النمساوي سبلًا لتفسير ما يعجز جمهور الاقتصاديين عن تفسيره تمامًا. فالركود التضخمي — أي ارتفاع التضخم وانخفاض الناتج — الذي ضرب في فترة السبعينيات، كمثال، لم يمكن تفسيره من واقع المعتقدات الكينزية السائدة، التي تنبأت بأن التضخم والإنفاق الحكومي من المفترض أن ينشطا كلًّا من التوظيف والنمو. أما النمساويون، على النقيض، فأمكنهم تفسيره بسهولة: فالتضخم يربك الحسابات الاقتصادية ويؤدي إلى سوء الاستثمار، بينما يقوض التدخل الحكومي المشروعات والنمو.
يقبل جمهور الاقتصاديين بطيب خاطر انتقاد النمساويين القائل إن نماذج الاقتصاد الكلي الخاصة بهم وأفكارهم عن الأسواق «المثالية» هي أفكار نظرية مجردة لا أكثر، لكنهم بعد ذلك، كما يقول النمساويون، يحاولون بناء سياسات «عملية» مبنية على هذه الأساسات الخيالية. إنهم يقترحون أن «فشل السوق» يمكن «تصحيحه» من خلال الضوابط والتدخل. لكن كيف يُفترض بالساسة أن يعرفوا أي الأسواق «فاشلة»؟ وكيف لهم أن يضمنوا أن بمقدورهم فعل ما هو أفضل؟
مثال سديد على ذلك التشريعات المناهضة للاحتكار. عادة ما تتدخل الحكومات حين تشعر أن شركات بعينها بدأت في «الهيمنة» على السوق. لكن كيف يمكن للدولة أن تعرف تركيبة السوق «الصحيحة»؟ ففي بعض القطاعات، كشركات السباكة، تكون الشركات عادة صغيرة الحجم، بينما في قطاعات أخرى، كصناعة السيارات، تكون كبيرة، وحتى هذه القطاعات تتغير مع مرور الوقت وتغير التقنيات. الأسواق وحدها هي ما تحدد ما ينجح. وفي أي حالة، كما يقول النمساويون، لا يمكن للشركات أن تنمو بحيث تجذب أرباح الاحتكار؛ لأن الأرباح المرتفعة ستدعو الشركات الأخرى إلى دخول السوق. إن «عدم المثالية» هذه تحديدًا هي التي تحفز رواد الأعمال. وعندما تحاول الحكومات السيطرة على الأسواق، فهي تصيبها بالركود المؤلم.
من المفيد أيضًا تذكير جمهور الاقتصاديين بأن «الحاصلات» التي يبذلون الكثير من التحليلات الرياضية عليها معيبة بطبعها. ففي عالم الندرة على الناس القيام بخيارات، وتعتمد النتيجة بالكامل على القيم البشرية المحددة لأفراد معينين في وقت ومكان متفردين. مثل هذه الأشياء لا يمكن جمعها أو تمثيلها بيانيًّا أو إدخالها في معادلات بأكثر مما يمكن عمله مع الحزن أو السعادة. ومن الهراء المحض القول، مثلًا، إن الدولة بحاجة إلى المزيد من «الاستثمار» حين لا تكون القضية الجوهرية هي مقدار ما ينفق على السلع الرأسمالية، بل على ماهيتها ومكانها؛ أي «هيكل» رأس المال.
إيمان متجدد بالأسواق
يقدم النمساويون أيضًا أساسًا فكريًّا متينًا لمن يؤمنون بأن الأسواق تخدم احتياجاتنا على نحو أفضل من التخطيط والتوجيه الحكومي. إنهم يرون الحياة الاقتصادية كمشكلة تنسيق بين أفعال الأفراد المتباينين في أرجاء الكوكب، وذلك باستجابة بعضهم لبعض وللظروف المحلية سريعة التغير. فالأسواق، كما ينادون، تستخدم على نحو ثابت المعلومات المتناثرة والجزئية والشخصية، بل حتى المتعارضة، وتعالجها وتعمل وفقها، وهي المهمة التي قد تربك أي مخطِّط مركزي.
على سبيل المثال: كم دجاجة تحتاجها مطاعم نيويورك، وكيف يمكن إيصالها إلى هناك؟ على مجلس توريد الدجاج أن يحصي مطاعم نيويورك وزبائنها، وأن يضع في الاعتبار العطلات والإجازات الموسمية، وأن يتعاقد مع المزارعين والمصنعين وسائقي الشاحنات، وكثيرين غيرهم دون شك. ومع ذلك، يقوم السوق المدفوع بتغيرات الأسعار التي تعكس كلًّا من الفائض والندرة بهذا الأمر على نحو طبيعي، يومًا بعد يوم. لا أحد يتحكم في الأمر بأسره، ومع هذا فهو جهد شاسع غير مخطط ومنسق في الوقت ذاته. هذه هي القوة الرائعة للأسواق.
يقول النمساويون إن المنافسة عملية اكتشاف؛ اكتشاف لما يريده مختلف العملاء حقًّا، والوسيلة الأكثر توفيرًا للتكاليف لتزويدهم بما يحتاجونه في ذلك الوقت والمكان المحدد. وهذا يذكرنا بالحاجة إلى الحفاظ على تنافسية الأسواق، وتقليل موانع الدخول إلى الأسواق، وهما الأمران اللذان تمنعهما الضوابط الحكومية. وهذا يذكرنا أيضًا بالدور النشط الذي يلعبه رواد الأعمال في الحصول على المعلومات السوقية المتناثرة وتقييمها، والإقدام على المخاطرة والعمل وفق توقعاتهم بشأن الرغبات المستقبلية للعملاء، وهو الأمر الذي يمكن أن يحدث فقط داخل إطار من حقوق الملكية المؤمنة وسيادة القانون والضرائب المنخفضة.
انتقاد الأفعال الحكومية
كثيرًا ما يفترض أن الحكومة يمكنها أن تفعل أي شيء — لدرجة أن تسخر السوق وفق أهوائها — وتؤديه على نحو طيب. لكن يذكرنا النمساويون بأن الحال ليس كذلك. فقبل أن تتدخل الحكومات عليها أن تبين سبب محاولتها تحسين الأمور وكيفية القيام بهذا. لكن هذه ليست مهمة يسيرة؛ لأن معظم التدخلات في السوق الحرة يكون لها تداعيات غير مقصودة، عادة ما تكون مضرة. والحكومات نفسها ليست حكيمة أو عاقلة تمامًا؛ فهي عرضة لضغوط جماعات أصحاب المصالح وتعزيز نفوذ ساستهم ومسئوليهم.
على سبيل المثال: قد يبدو أن قوانين الحد الأدنى للأجور ستجعل حياة أفقر العمال أفضل، لكنها في الواقع تجعل أصحاب العمل يتوقفون عن توظيف العمال الأقل مهارة، ومن ثم تسوء حياة الفقراء والشباب غير المدربين تحديدًا. المستفيد الوحيد هم العمال الواقعون أعلى الحد الأدنى للأجور مباشرة؛ لأنهم لم يعودوا يواجهون منافسة أرخص، والأرجح أنهم هم من قادوا الحملات المطالبة بهذا القانون. وبالمثل، تستطيع الشركات الراسخة في السوق أن تقنع الحكومات بسهولة بأن أسواقها يجب أن تُحمى من «المغامرين» بواسطة الضوابط الحكومية، مع أنهم في الواقع يحمون بذلك مواقعهم في الأسواق من تهديد المنافسين الجدد.
يذكرنا النمساويون أيضًا بضرورة التشكك من أي سياسة مبنية على حاصلات مفترضة ونتائج مؤشرات. فالسياسة النقدية الحكومية، مثلًا، تهدف للإبقاء على استقرار «مؤشر أسعار المستهلكين»، لكن النتيجة تعتمد إلى حدٍّ بعيد على الأسعار المدرجة داخل ذلك المؤشر؛ لأن الواقع هو أن الأسعار المنفردة تتقلب صعودًا وهبوطًا طوال الوقت. أيضًا لا يمكننا الافتراض بأن الحكومات يمكنها تحفيز النمو من خلال إدارة عملية «الطلب»؛ لأن هذا الحاصل أيضًا يحتوي على العديد من الأشياء المتنوعة والمتعارضة. وفي أي حالة، يرى النمساويون أن مصطلح «الاستثمار الحكومي» متناقض؛ نظرًا لأن الحكومة كي تمول «استثماراتها» سيكون عليها أن تفرض الضرائب على رواد الأعمال المبدعين الذين كان بمقدورهم استثمار المال نفسه على نحو أكثر ربحًا في مواضع أخرى. وعلى نحو مشابه، حين يحث الناس الحكومات على رفع إنفاقها من أجل تعزيز الطلب، هم ينسون التكاليف الاقتصادية الأوسع التي تفرضها الضرائب والضوابط الحكومية وتآكل حقوق الملكية الخاصة.
رؤية النمساويين للمشكلات المعاصرة
أدت الأزمة المالية التي ضربت العالم في عام ٢٠٠٧ وما وراءه إلى تجدد الاهتمام بأفكار المدرسة النمساوية، بوصفها التفسير الوحيد المقنع لدورات الانتعاش والكساد الاقتصاديين، التي تسبب فيها الائتمان في رأيهم. كان هناك اهتمام متزايد بحلولهم أيضًا: قيود أشد على العملة الإلزامية (أو بديلتها على صورة النقود التي لا تستطيع الحكومات التنصل منها؛ فقد الجنيه والدولار ٩٨٪ من قيمتهما منذ فصلهما عن الذهب)، ومتطلبات احتياطي أعلى (قد تصل إلى ١٠٠٪). أما عن جهود الحكومات لتخفيف الأزمة من خلال المزيد من الاقتراض، فهذا ليس بحل، كما يرى النمساويون. بل بالأحرى هو ما أدى إلى حدوث الأزمة من الأساس.
لا يزعم النمساويون أنهم خبراء في العلوم البيئية، لكنهم ينادون مجددًا بأن الأسواق، وليس الحكومات، هي التي ستحل مشكلاتنا على الأرجح. هل استنفدنا مواردنا الحيوية كالنفط، كما يخشى الناس؟ كلا، هذا ما يقوله النمساويون؛ فلدينا احتياطيات معروفة للنفط أكثر مما امتلكنا على مر التاريخ. لكن مع تزايد الطلب، وزيادة تعقيد التقنيات المطلوبة لاستخراج النفط، يجب أن يرتفع سعره، وهو ما سيؤدي تحديدًا إلى الحد من الطلب ويدفع الناس إلى البحث عن بدائل أرخص. لم ينته العصر الحجري لأن مخزون الحجارة نفد، بل لأننا طورنا بدائل أوفر. يؤمن النمساويون بأن الأسواق يمكنها حماية الموارد القيِّمة والاقتصاد فيها — كموارد الطاقة ومناطق صيد الأسماك والمجاري المائية والحيوانات النادرة والهواء النظيف والمتنزهات والغابات — بينما تؤدي الملكية العامة دائمًا إلى الإفراط في استخدامها وإهدارها وتدميرها. إنهم يريدون «التوسع» في دور الأسواق، لا محاولة السيطرة عليها.
مستقبل المدرسة النمساوية
على الرغم من الانتقادات اللاذعة التي يوجهها اقتصاديو المدرسة النمساوية، والزيادة الحديثة في الاهتمام بأفكارهم، فإنه لا يزال يُنظر إلى هذه الأفكار بوصفها أفكارًا جانبية عارضة بالمقارنة بالفكر الاقتصادي السائد. ربما يكون سبب هذا هو أن الناس لا يزال لديهم إيمان بقدرة الحكومات على تحديد مشكلاتنا وعلاجها. أو ربما يجد الناس صعوبة في تخيل فكرة أن الأسواق يمكنها أن تحل المشكلات الصعبة والكبيرة دون الحاجة إلى توجيه وسيطرة مركزيين.
أيضًا في بعض الحالات قد يكون السبب هو عدم ارتياح الناس إلى اعتماد النمساويين على الأساليب الاستدلالية، بدلًا من التنظير والملاحظة والاختبار، التي تميز المنهج العلمي القياسي. أو ربما تبدو حلول السياسات التي قدمها بعض رواد المدرسة النمساوية فظة وقاسية.
ومع هذا فهناك نطاق عريض من الآراء بين الاقتصاديين الذين يصفون أنفسهم بالنمساويين، أو على الأقل بين من يقبلون جزءًا من نهج المدرسة النمساوية. يصر ميزس وروثبارد وأتباعهما (خاصة الأمريكان منهم) على الطريقة الاستدلالية الصارمة ورفض مبدأ التدخل الحكومي رفضًا قاطعًا. لكن غيرهم (خاصة في بريطانيا وأوروبا)، المتأثرين أكثر بأفكار هايك، مستعدون للإقرار بأن القياس والملاحظة والتجريب هي أمور لها دورها في توسعة معارف الاقتصاديين؛ حتى مع إقرارهم بأن استخدام هذه الطرق على البشر ذوي الأهواء المتقلبة لن يؤدي إلى نفس اليقين الذي ينتج عند دراسة الأجسام الجامدة. هذه المجموعة تحديدًا، الأكثر انفتاحًا والأقل تعصبًا نحو الغرباء، تجعل جمهور الاقتصاديين بالفعل يعيدون النظر في حاصلاتهم ونماذجهم ومعادلاتهم المبسطة، ويبدءون في وضع دور ريادة الأعمال والزمان والمكان والقيم والمعلومات المتناثرة وغيرها من المدركات النمساوية في تحليلهم. وبينما يصير الاقتصاد العالمي — أو ربما علينا أن نقول «المبادلة» — أوسع وأكثر تنوعًا وأخف وأسرع وأكثر تعقيدًا وصعوبة في تصويره، يبدو من المرجح أن يستمر تأثير الأفكار النمساوية في النمو.