المبادئ الرئيسية للاقتصاد النمساوي
-
القرارات الاقتصادية التي تنبع منها الظواهر الاقتصادية كافة هي قرارات شخصية في جوهرها وغير متوقعة.
-
القيمة لا توجد في الأشياء، بل في عقول الأفراد الذين يقدرونها. تحدث التجارة وتظهر الأسعار تحديدًا لأن الناس يقيِّمون الأشياء على نحو مختلف. توجه الأسواق السلع نحو أكثر استخداماتها قيمة. الملكية الخاصة أمر ضروري لتحقيق أفضل النتائج.
-
التدخل الحكومي، وأخطاء السياسة الاقتصادية، كالتضخم، تعيق عملية السوق بالغة التعقيد هذه ودائمًا تأتي بنتائج فاسدة.
يميز عدد من المبادئ الجوهرية، أو نقاط التركيز، آراء النمساويين عن غيرهم من جمهور الاقتصاديين. لنبدأ بعشر مبادئ. هذه المبادئ تغطي كل أجزاء الموضوع، بداية من طبيعة ما على الاقتصاديين أن يدرسوه، مرورًا بالكيفية التي تظهر بها الأسعار الفردية (وأهميتها في توجيه عمليتي الإنتاج والاستهلاك)، ومرورًا بآليات عمل الاقتصاد الكلي، وصولًا إلى تشريعات السياسات الاقتصادية.
قد تكون النقاط المنهجية الأولى عسيرة الفهم على كثير من الناس. لكن من الضروري إلقاء نظرة واضحة على ما يمكن للعلم أن يخبرنا به، وما يعجز عن أن يخبرنا به، بشأن حياتنا الاقتصادية إذا أردنا تفسير أي شيء آخر على نحو صحيح، ولهذا من الصواب أن نبدأ من هذه النقطة.
أسس علم الاقتصاد
أولًا: «علم الاقتصاد معني بالأفراد». وسبب هذا هو أن علم الاقتصاد معني بالخيارات. ليس بوسعنا امتلاك كل شيء، لذا علينا أن نختار الأشياء الأهم لنا: هل سنفضل سيارة جديدة، مثلًا، أم قضاء عطلة صيفية؟ الخروج برفقة أصدقاء أم الاسترخاء بالمنزل؟ دائمًا ما نتخلى عن أحد الأشياء (مبلغ من المال أو بعض الوقت أو الجهد مثلًا) للحصول على شيء آخر (حذاء جديد أو حديقة منمقة). هذه «خيارات اقتصادية»، حتى إذا لم تتضمن أي أموال. إنها أسئلة تتعلق بكيفية استخدامنا للموارد الشحيحة (السيارات، العطلات، الصحبة، وقت الفراغ، المال، الوقت، الجهد) من أجل إشباع رغباتنا العديدة. وهذا هو مجال علم الاقتصاد.
هذه القرارات لا يمكن أن يتخذها سوى «الأفراد» المعنيين بعملية الاختيار. المجتمع لا يختار؛ فالكيان الجمعي ليس به حياة ولا يملك عقلًا يفكر به، وقد تقرر الدولة بعض الأمور من خلال الانتخابات، لكن الأفراد هم من يختارون إلى أين يذهب صوتهم. ودور علم الاقتصاد هو تفهم عملية الاختيار وتأثيراتها، ولا يسعنا فهم هذه العملية إلا إذا ركزنا على كيفية اتخاذ الأفراد لقراراتهم.
ثانيًا: «علم الاقتصاد مختلف إلى حدٍّ بعيد عن العلوم الطبيعية»، ذلك لأن الأشياء التي يدرسها مختلفة اختلافًا تامًّا. فالعلوم المادية تتعامل مع الأجسام الطبيعية، التي يمكن رصدها وقياسها. يمكن أن تكون الحقائق المتعلقة بطبيعتها وسلوكها معروفة، ويستطيع العلماء إصدار التنبؤات على هذا الأساس. بينما علم الاقتصاد معني بالكيفية التي يختار بها الناس، وهو ما يعني أنه معني بما يفضلونه وما يقدرونه وما يريدونه وما يعتقدونه بشأن العالم. وهذه مشاعر فردية شخصية، لا يمكننا رصدها أو قياسها، ومن ثم يستحيل «التنبؤ» بها.
لكن ما نستطيع أن نفعله هو «تفسير» الخيارات البشرية. ويمكننا عمل ذلك لأننا نحن أيضًا أفراد من البشر ونعرف كيف نفكر. يمكننا تفهم التفضيلات والقيم والرغبات والمعتقدات بشأن العالم لأننا نعايشها كلها. وبإمكاننا تحسين هذا الفهم من خلال تفهم منطق ما تؤدي إليه هذه الأشياء؛ كيف تعمل الأسواق والتبادل في الواقع، على سبيل المثال. لكن العالِم الطبيعي الذي ينظر للبشر كأشياء وحسب، تدفعها قوى خارجية، يُغفل كل ما هو موجود «داخلنا» ويمدنا بالحافز ويفسر كيف نحيا.
القيم والأسعار والأسواق
ثالثًا: «كل شيء في علم الاقتصاد يستند على القيم الإنسانية». فالقيمة ليست سمة كامنة داخل الأشياء ويمكن قياسها كالحجم أو الوزن. فالسلعة نفسها تتباين قيمتها في نظر مختلف الأشخاص، اعتمادًا على مقدار النفع الذي سيعود عليهم من ورائها. فمن يعيش في بلد مطير قد لا ينتفع كثيرًا بكوب من الماء، بينما الشخص الموجود في الصحراء قد يرى له قيمة عظيمة. أيضًا تتغير رغبات الناس وقيمهم: فالشخص العطشان قد يرى قيمة عظيمة لشربة الماء، لكنه لن يحتاج لشربة أخرى عند ارتوائه. السلع، إذن، لا تحتوي على كمية ثابتة من النفع، أو «المنفعة». فالنفع يقبع في عقل المستخدم؛ فالمنفعة، والقيمة، أمور «ذاتية» تمامًا.
لكن السلع محدودة، كما هو الحال مع وقتنا ومواردنا. وعلينا أن نختار ونزن تداعيات اختياراتنا. فلكي نقدم على أمر ما، علينا أن نتخلى عن آخر. ونحن نسمي ما نتخلى عنه بالتكلفة. ليس من الضروري أن تكون التكلفة مادية؛ إذ قد تقتصر على الوقت والجهد المبذولين لتحقيق هدف ما، أو الاحتمالات البديلة المتعددة التي نتخلى عنها (ما يسميه الاقتصاديون «تكلفة الفرص البديلة»). لكن هذه التكاليف ذاتية هي الأخرى. إن ما نزنه هو قيمة ما نحققه في نظرنا في مقابل قيمة ما نتخلى عنه. وهذا قرار ذاتي؛ إذ قد يقدم الآخرون على خيار مناقض تمامًا. لذا على الاقتصاديين أن يتذكروا (كما يقول النمساويون) أن كل قرار اقتصادي — من الاستثمار إلى الإنتاج إلى التجارة إلى الاستهلاك النهائي — هو في جوهره «قرار ذاتي»، ويعتمد على قيم الأشخاص المعنيين.
رابعًا: «تساعدنا الأسعار على تعظيم القيمة وتقليل التكلفة إلى أقصى الحدود». وهذا راجع إلى أن الناس تقيم السلع عينها على نحو مختلف، ومن ثم هم مستعدون لمبادلتها في التعاملات السوقية. وكل فرد يولي لما لدى الآخر قيمة أكبر من تلك التي يوليها لما سيتخلى عنه للحصول عليه. لا ينبغي علينا الوقوع في شرك الافتراض بأنه بما أن الحذاء (مثلًا) يباع مقابل مبلغ معين من المال، فإن هذا «السعر» يعادل قيمة الحذاء. فالقيمة أمر ذاتي. والشخص الذي يبيع الحذاء يولي المال قيمة أكبر من الحذاء، بينما المشتري يولي الحذاء قيمة أكبر من المال.
إلا أن ما تلخصه لنا الأسعار هو كمية أحد الأشياء (الحذاء) التي يكون الناس في السوق مستعدين للتضحية بها مقابل شيء آخر (المال). فالأسعار هنا هي أسعار تبادل جارية بين السلع المختلفة. وهي ترسل إشارات مهمة للمشاركين في السوق. فإذا ارتفع سعر شيء ما — لأي سبب كان — فهذا يحفز المشترين على الانتفاع بقدر أقل منه، وتحويل إنفاقهم إلى الأشياء التي يولونها قيمة أكبر، وهو يحفز البائع على إنتاج المزيد، والاستمتاع بالمال الإضافي. وبفضل المعلومات الحيوية التي يرسلها نظام الأسعار، يعدل البائعون والمشترون على نحو تلقائي من خياراتهم لتناسب الواقع الجديد، ويحدث التنسيق بين أنشطة ملايين الأشخاص.
خامسًا: «المنافسة عملية اكتشاف». الأسواق ليست مثالية. في الواقع، عدم المثالية هذه هو ما يحركها. وهي تنجح لأن الناس في السوق يحددون الفرص الجديدة للمتاجرة من أجل المكسب المشترك. ربما يرون طريقة أرخص لتصنيع سلعة ما، أو قطاع من الخدمات لا يقدمه أحد. يمكنهم ملء هذه الفجوات من تحقيق الربح من خلال وضع الموارد في أكثر المواضع احتياجًا لها، وسحبها من أقل المواضع قيمة. أيضًا يشجع إغراء الربح الناس على الانتباه لمثل هذه الفرص، وعلى الابتكار حتى يقتنصوها؛ بمعنى آخر، العمل «رواد أعمال».
كلما عظمت الحاجة التي يلبيها رواد الأعمال عظم الربح الذي يأملون فيه، إلى أن يلحق بهم منافسوهم. وبهذا يكون الضغط متواصلًا لتطوير منتجات وعمليات جديدة أفضل. إن المنافسة عملية متواصلة من الاستكشاف الريادي، التي نكسب منها جميعًا؛ مع اكتشافنا لطرق أفضل وأرخص لإشباع رغباتنا.
سادسًا: «الملكية الخاصة ضرورية». يؤمن الاشتراكيون بأننا قادرون على العيش دون إغراء الربح، وذلك من خلال الملكية العامة. من الواضح أن هذا لن يصلح مع السلع الاستهلاكية، كالأحذية أو النظارات، التي يستحيل تقاسمها على نحو عملي، لذا يركز الاشتراكيون على الملكية العامة لوسائل الإنتاج. لكن لو لم تُبَع المصانع أو الماكينات أبدًا، فلن يكون لها سعر. وحين لا يكون هناك سعر، لا يكون هناك سوق يساعدنا على اكتشاف الأشياء الشحيحة وتوجيه الموارد نحو الفجوات. والنتيجة هي أن المخططين الاشتراكيين لن يعرفوا أبدًا هل وسائل الإنتاج تنتج القيمة فعلًا، أم أنها تُهدر.
الاقتصاد الأوسع
سابعًا: «الإنتاج عملية موازنة صعبة». قد تكون قرارات الإنتاج مستحيلة للاشتراكيين في ظل عدم وجود أسعار يسترشد بها، لكنها ليست سهلة على أصحاب الملكيات الخاصة أيضًا. إن الغرض الوحيد للإنتاج هو تصنيع السلع التي نستهلكها. لكن كل عمليات الإنتاج تستغرق وقتًا، وقد تتطلب خطوات وسيطة معقدة تُجَمَّع بطريقة صحيحة معينة. وفي أي وقت أو مرحلة من هذه العملية المعقدة يمكن لتغيرات الأسعار (مثلًا، ارتفاع نفقات الطاقة أو العمالة) أو التغيرات في الطلب (مثلًا، وجود منافس يقدم منتَجًا أفضل) أن تخرج الأمور عن مسارها.
إذا أمكن إعادة استخدام السلع الرأسمالية المستخدمة في عملية الإنتاج لأي غرض، وقتها قد يستطيع رائد الأعمال التعافي من مثل هذه الإخفاقات. لكن العديد من السلع الرأسمالية (كمصانع الصلب أو مطابع الصحف) ليس لها سوى غرض وحيد. عملية الإنتاج، إذن، عملية تشوبها المخاطرة، وتحمل إمكانية حقيقية للخسارة.
ثامنًا: «التضخم مضر للغاية». فخطر الخسارة يستفحل حين ترتكب الحكومات الأخطاء بشأن المال. من منظور النمساويين، المال سلعة شأن غيره من السلع: فله «معروض» (عادة يتحدد بواسطة السلطات الحكومية) وعليه «طلب» (الناس تقدره كوسيط ملائم لعقد التبادلات). وإذا زادت الحكومة من المعروض، تقل القيمة. يطالب البائعون بالمزيد منه مقابل السلع التي يبيعونها؛ لهذا ترتفع أسعار المال. وهذه هي عملية «التضخم».
التضخم أمر طيب للمدينين، الذين يجدون أنفسهم يردون القروض بأموال لم تعد بالقيمة ذاتها، وهو أمر سيئ للمدخرين، مما يخل بتوازن أسواق الإقراض وعمليات الإنتاج التي تعتمد عليها. لكن الأسوأ من ذلك هو أن الأسعار في فترات التضخم لا ترتفع على نحو فوري وموحد. فهي ترتفع أولًا في المواضع التي تذهب إليها الأموال الإضافية (المشروعات الحكومية مثلًا)، ثم تنتشر إلى القطاعات الأخرى، كالعسل الأسود المنسكب على المائدة. وهكذا تُسحب الموارد في البداية إلى قطاع بعينه، ثم لآخر، محققة ازدهارًا وقتيًّا. لكن مع توزيع المال يخمد الانتعاش الاقتصادي، وتجد الشركات أن استثماراتها تضيع، وتكون النتيجة كسادًا اقتصاديًّا حتميًّا واسع النطاق.
المجتمع والحكومة
تاسعًا: «للأفعال عواقب غير مقصودة؛ طيبة وسيئة». وفي الجانب الطيب، ليست هناك حاجة لتخطيط أو تصميم واعٍ من جانب البشر كي يبتكروا شيئًا يسير على نحو طيب. فيقومون عادة بهذا على نحو غير مقصود، كنتاج جانبي لأفعالهم. فمن ينتقلون مشيًا من قرية لأخرى يفكرون فقط في العثور على أسهل الطرق، لكن خُطاهم تحفر تدريجيًّا طريقًا يساعد الجميع. ويفكر الباعة والمشترون فقط في الحصول على القيمة لأنفسهم، لكن ملايين من هذه التبادلات تخلق نظامًا للأسعار يجتذب الجهود والموارد نحو أكثر الاستخدامات قيمة. لقد ظهر المال ببساطة لأن الناس رغبوا في وسيط مقبول بشكل عام للتبادل. كما نشأت اللغة من الحاجة إلى التواصل. كما نشأ القانون العام حين حل الناس قضاياهم واحدة تلو الأخرى.
المغزى هو أننا لا ينبغي أن نفترض أن المؤسسات مهلهلة وغير كفء فقط لأنها لم تُصمم أو تُخطط على نحو مقصود. وفي الجانب السيئ، تتسبب عادة محاولاتنا في «تحسين» المؤسسات الاجتماعية — على غرار اقتصاد السوق الحرة — في الإخلال بتوازن الآليات المعقدة التي تجعلها تعمل، وهو ما يؤدي إلى تبعات كارثية لم نكن نقصدها.
عاشرًا: «التدخل الحكومي مضر في جميع الأحوال تقريبًا.» للأفراد قدرة محدودة على الإخلال بنظام مؤسساتنا الاجتماعية المعقد، لكن السلطة الكبيرة المركزة في يد الحكومة تجعل هذا الأمر سهلًا. فالبنوك المركزية — على سبيل المثال — تفضل الحفاظ على معدلات فائدة منخفضة، حتى تشجع رواد الأعمال على الاقتراض ودفع عجلة الإنتاج. لكن مع انتقال الازدهار من قطاع لآخر إلى أن يخبو تمامًا، تضيع الموارد الإنتاجية ويصير الناس أفقر.
قد تؤيد الحكومات قوانين الحد الأدنى للأجور لمساعدة العمال الفقراء، لكن هناك بعض العمال الذين لا يساوون هذا المبلغ في نظر أصحاب العمل، ولهذا ترتفع البطالة. وعلى نحو مشابه، قد يتم تبني الضوابط الإيجارية لمساعدة المستأجرين الفقراء، لكن هذا سيدفع الملاك إلى التوقف عن تأجير العقارات وعمل شيء آخر أكثر جلبًا للربح. قد يفرض المشرعون قواعد جديدة صارمة لحماية الجمهور، لكن التكاليف الإضافية ستصعب على المشغلين الجدد الدخول في السوق، ومن ثم تقل المنافسة، وينتهي الحال بالجمهور بالقبول بعروض أسوأ.
أيضًا، تكون الأفعال الحكومية عادة غير ملائمة لسبب آخر مهم. فما من سبيل يمكن المسئولين الحكوميين من معرفة ما يقدره الأفراد فعلًا. فلا يمكنهم قراءة أفكارنا ومعرفة هل نحن مستعدون لدفع المزيد للحصول على مدارس ومستشفيات أفضل مثلًا. يمكن لأسعار السوق أن تخبرهم بما يتقبل الجمهور التخلي عنه مقابل هذه الأشياء، لكن من خلال تجاهل الأسعار ومحاولة «تحسين» السوق، يفشلون لا محالة في زيادة القيمة للحد الأقصى. ففي السوق النابض بالحياة، حيث يعدل الناس على نحو مستمر من خططهم في ظل الظروف المتغيرة، يعجز المسئولون الحكوميون حتى عن جمع المعلومات الضرورية قبل أن تصير غير ذات نفع، ولن يسعهم بالتأكيد أن يعرفوا ما سيختاره الناس. ربما يكون للحكومات دور في ضمان عمل الأسواق بسلاسة، لكن من منظور الاقتصاديين النمساويين ليس من حقها التدخل في الأسواق.