المنافسة وريادة الأعمال
-
المنافسة ليست تكرارًا مهدرًا. ففي المنافسة يتزاحم المنتجون على تقديم السلع بأسعار ونوعيات «مختلفة» على أمل اكتشاف أكثر ما يقدره المشترون. وهذا يحفز على الابتكار والتقدم.
-
وبناءً عليه تعمل المنافسة بنجاح لأنها «ليست» مثالية؛ لأن المنتجين والمنتجات والمستهلكين جميعهم مختلفون بعضهم عن بعض، وليسوا متماثلين.
-
يقف خلف عملية الاكتشاف الخاصة بالمنافسة رواد الأعمال، وهم أفراد يقظون خبراء — تحفزهم إمكانية الربح — يخاطرون بابتكار منتجات يأملون أن تروق للمستهلكين.
-
وبهذا يكون للربح دور اجتماعي مهم؛ إذ إنه يحفز رواد الأعمال على السعي لإنتاج ما يريده الجمهور.
إن إمكانية تحقيق الربح من خلال توفير ما يريده المستهلكون هي ما يحفز المنتجين، لكن خطر المنافسة يشحذ العملية التي وفقها توجه الموارد نحو أكثر استخداماتها قيمة.
تشجع المنافسة المنتجين على التحرك بسلاسة من أجل سد الفجوات الموجودة بين قيم المستهلكين وما يوفره السوق. وهي تحفز المنتجين على محاولة التفوق بعضهم على بعض في الحرص على الوفاء بما يريده المستهلك. وكلما عظمت المنافسة، تعين على المنتجين أن يكونوا أسرع وأدق في خدمة الجمهور، بل في توقع طلباتهم المستقبلية، وتعين عليهم أن يكونوا أكثر ابتكارًا وإبداعًا في هذا المسعى.
استفتاء المستهلكين
المنافسة عملية اختيار. وفي السوق المستهلكون هم من يختارون. وهم دائمًا ما يبحثون عن أفضل وأرخص المنتجات التي تشبع احتياجاتهم. من الصعب إرضاء المستهلكين؛ فإذا تمكن أحدهم من إنتاج منتج أفضل أو أرخص، فسيتوقفون عن التعامل مع المورد الحالي وينفقون المال على المنتَج الجديد.
وصف ميزس السوق بأنها استفتاء يومي على ما ينبغي إنتاجه ومن ينبغي أن ينتجه. فكل مليم يُنفقه المستهلكون، خلال التعاملات اليومية التي لا حصر لها، يكون بمنزلة صوت في عملية تصويت متواصلة، تهدف لتحديد المقدار الذي ينبغي إنتاجه من كل شيء، وجذب عملية الإنتاج صوب أعلى المواضع قيمة. وهذا أكفأ بكثير من اتخاذ قرارات من خلال انتخابات سياسية، يكون التصويت فيها مرة واحدة كل بضع سنوات، بل حتى حينئذٍ يصوتون على حزمة من الإجراءات المتنوعة. ففي السوق كل مليم له قيمته، وهذه القيمة تظهر كل يوم.
المنافسة والتنوع
يعتقد الكثيرون أن المنافسة تعني تكرارًا لعمل مشابه، وأنها من ثم عملية «هدر». وهذه النظرة تنبع على نحو طبيعي من نموذج «المنافسة المثالية» التقليدي، الذي وفقه يكون كل المنتجين متماثلين. لكن في واقع الأمر، المنافسة هي بالتحديد ما يحث المنتجين على أن يكونوا مختلفين. فكل واحد منهم يريد التفوق على سواه من المنتجين، وأن يقدم للمستهلك شيئًا أفضل أو أرخص مما يقدمه غيره؛ شيئًا بارزًا يجذب الانتباه ويجعل الجمهور يتحول إلى شراء المنتج الجديد.
في النموذج التقليدي لا يفرق المستهلك بين منتِج وآخر؛ لأن جميع المنتجين متماثلون. لكن دور المنافسة هو تمييز المنتجين بعضهم عن بعض. فمن المستحيل أن تجد طبيبي أسنان أو بقالَين أو وكيلي سفريات متماثلين، ولن يحدث هذا أبدًا، ومع ذلك هناك قدر كبير من المنافسة بينهم. تنتج الشركات المختلفة منتجات مختلفة، بأسعار مختلفة، بنوعيات مختلفة، بسمات مختلفة، بتغليف مختلف، وبتوجهات إعلانية مختلفة. وحتى المنتجات التي تبدو لنا قياسية كالصابون أو عصير البرتقال تكون مختلفة، وتباع بطرق مختلفة في أماكن مختلفة. هل نود حقًّا أن تكون منازلنا أو سياراتنا أو ملابسنا متماثلة لكي نخلق سوقًا «مثالية»؟ أو ما يقاربها ولو من بعيد؟ لا يحاول المنتجون أن يمنحونا منتجات متماثلة بأقل الأسعار، بل يحاولون التعرف على المنتجات التي يفضلها المستهلكون.
المنافسة كعملية اكتشاف
في نموذج «المنافسة المثالية» التقليدي تكون أذواق المستهلكين وتفضيلاتهم متماثلة، ومعروفة وثابتة. فهي أمور «مسلم بها». لكن في السوق الفعلية، لا تكون قيم المستهلكين متماثلة ومعروفة و«مسلمًا بها» مطلقًا. فهي معروفة فقط لأفراد المستهلكين أنفسهم، وحتى وقتها قد لا يدرك المستهلكون على نحو كامل نطاق قيمهم إلا حين يواجهون باختيار من نوع ما. ومهمة المنتجين هي اكتشاف ما يريده المستهلكون بالفعل، وتقديمه إليهم. إنهم لا يملكون «معلومات كاملة» عن تفضيلات المستهلكين. وليس بوسعهم أن يعرفوا بالضبط كيف سيستجيب الزبائن للمنتج الجديد أو للتغير في جودة المنتج أو سعره.
يرى النمساويون إذن أن المنافسة ليست وضعًا ثابتًا، بل هي نشاط. فالمنافسة «عملية اكتشاف». إنها «عملية» يحاول من خلالها المنتجون أن يكتشفوا (من جانب المخرجات) تفضيلات وأذواق المستهلكين المتعددة وأيضًا (من جانب المدخلات) أفضل وأرخص مزيج للموارد يمكنهم من الوفاء بطلبات المستهلكين بأقل تكلفة ممكنة.
تحفز المنافسة المنتِج على الابتكار وتجريب المنتجات الجديدة، ومحاولة الوفاء باحتياجات المستهلك التي لم يفِ بها أي منتِج آخر من الذين يتنافسون معه. وبالمثل، تدفع المنافسة المنتجين إلى تجريب أكثر من مزيج للمدخلات والعمليات من أجل اكتشاف المزيج الذي ينتج أعلى المخرجات قيمة بأقل تكلفة.
ريادة الأعمال والربح
ليس الإنتاج إذن مجرد عملية استثمار لرأس المال بأي طريقة تختارها ثم الاسترخاء والتمتع بالعائد «الطبيعي» الذي سيدره. فالاستثمار لا ينتِج دائمًا الأشياء التي يريد المستهلكون أن يشتروها، كما يقترح بعض منتقدي الرأسمالية كثيرًا. فهو يتضمن اختيارات وحسابات معقدة وتخمينات. فالموارد التكميلية كالأرض والعمالة والمعدات يجب جمعها معًا. ويجب أن تُصمم المنتجات وتُصنَّع وتغلَّف وتباع. ويجب توقع طلب المستهلكين بقدر من الدقة. وكل هذا يتم في عالم من الأحداث المتغيرة والمعلومات غير الوافية، حيث لا يمكن لشخص أن يكون واثقًا تمام الثقة من أفضل مزيج للمدخلات أو ما سيختاره المستهلكون فعلًا أو أي منتجات جديدة قد يخرج بها المنافسون.
يتضمن الإنتاج الناجح إذن تخمين الحالة المستقبلية للسوق. كل عمليات الإنتاج تستغرق وقتًا؛ حتى يتم تجميع المدخلات وتصنيع المنتجات وتسويقها. لتحقيق مكسب مالي، على محرك مشروع الإنتاج — «رائد الأعمال» — أن يتمكن من بيع المنتج النهائي بسعر أعلى من السعر الذي تكلفته المدخلات العديدة التي استخدمت في طرح المنتج في السوق. لكن بما أن عملية الإنتاج تستغرق وقتًا، ويمكن أن تتغير الظروف خلال هذه المدة، فلا تكون هذه النتيجة مؤكدة على أي حال. فقد ترتفع تكلفة المدخلات أثناء عملية الإنتاج، أو قد يطرح منافسون آخرون منتجات أفضل أو أرخص في السوق، أو قد تتغير الموضة، وقد لا يكون المستهلكون مستعدين لدفع السعر الذي تمناه رائد الأعمال.
الربح، إذن، لا يأتي ببساطة من استثمار المال في عملية إنتاج معينة ثم انتظار مجيء العوائد. فكل عمليات الإنتاج تقوم على «التخمين». ومن الممكن أن تقع أخطاء كبيرة، وأن يُبذل الوقت والمال والجهد في تصنيع منتجات لا تجد قبولًا لدى الجمهور. وكلما طالت عمليات الإنتاج وزادت تعقيدًا، كما هو الحال في الاقتصاد الحديث، زاد احتمال وقوع مثل هذه الأخطاء. فنجاح رواد الأعمال يعتمد على مزيج من المعرفة والمهارة والحظ. ويأتي الربح فقط من خلال التخمينات الصائبة بشأن ما يمنح القيمة للآخرين، أما التخمينات الخاطئة فتؤدي إلى الخسارة. إن السعي وراء الربح يتضمن قدرًا من المخاطرة.
الدور الاجتماعي للربح
للربح دور مهم، إذن، في تحفيز الأفراد على اكتشاف الطلبات الجديدة غير المُشبَعة، ومحاولة التنبؤ بالسوق بأكبر قدر من الدقة، وإشباع هذه الاحتياجات بأقل تكلفة ممكنة وبأعلى كفاءة ممكنة. ليس الربح مجرد مكسب غير متوقع يذهب للمنتجين، بل إن له «دورًا اجتماعيًّا» مهمًّا في دفع الموارد نحو المواضع التي ستخلق فيها أعلى قيمة. ففي عالم يخلو من الربح — حيث تحتكر الدولة إدارة كل عمليات الإنتاج مثلًا — لا يوجد حافز يدفع أي شخص للإقدام على المخاطرة، ومن ثم لا يوجد حافز للسعي وراء سبل جديدة يمكن من خلالها إشباع رغبات الجمهور. فالمخططون الحكوميون ليس من المرجح بدرجة كبيرة أن يستثمروا في أفكار جديدة.
الربح ليس مكسبًا شخصيًّا وحسب. بل هو يعكس القيمة التي أدخلها المنتجون إلى حياة الآخرين. وهو يتحقق فقط من خلال التعامل الطوعي مع المستهلكين الراضين؛ فبما أن هناك منافسة، لا يكون المستهلكون مجبرين على التعامل مع أي شخص لا يرغبون في التعامل معه طوعًا. في الواقع، كلما عظم الربح الذي يحققه رائد الأعمال، زادت القيمة التي بوسعنا أن نتأكد من أنه سيضيفها، وزاد الرخاء العام أكثر.
ينادي كيرزنر بأنه حتى الحظ الحسن يجب أن يُكافأ. فلأن السوق عملية اكتشاف يعثر الناس من خلالها على فرص وإمكانيات لا يعثر عليها غيرهم، يذهب الربح الناتج عن هذا إلى المكتشف. وهذا من شأنه أن يشجع الآخرين على التصرف بطريقة رواد الأعمال، والإقدام على المخاطرة، واكتشاف فرص وإمكانيات أكبر من شأنها أن تفيد الآخرين.
يقظة رائد الأعمال
حين يتحدث النمساويون عن «رواد الأعمال» أو «المضاربين» فإنهم لا يضعون في أذهانهم صورة الرأسماليين المتأنقين المتلاعبين. فبسبب الغموض الحتمي بشأن المستقبل، هم يعتبرون كل الأفعال مضاربة. إن كل شخص هو رائد أعمال بشكل ما، يسعى لاستخدام مهارته وموارده في اقتناص مكاسب مستقبلية. وهذا ينطبق على العمال الذين يلتحقون بدورة تدريبية على أمل تحسين فرص عملهم تمامًا مثلما ينطبق على مديري الأعمال الذين يبنون المصانع أو المساهمين الذين يتاجرون بالأوراق المالية.
ومع هذا، في اقتصادنا الحديث المتخصص، يتخصص البعض في مهنة ريادة الأعمال، مثلما يتخصص غيرهم في مهنهم كأطباء أو مهندسين. يرى كيرزنر أن رواد الأعمال يجلبون لعملية السوق ليس فقط مهاراتهم الابتكارية والتنظيمية، بل أيضًا «يقظتهم». فهم متنبهون على الدوام لفرص كسب الربح؛ المواضع التي تظل فيها رغبات المستهلكين غير مُشبَعة، أو المواضع التي يمكن فيها تقديم منتجات أفضل وأرخص لهم. إنهم يحافظون على تيقظهم لاكتشاف التغيرات في ظروف السوق، بل يحاولون في الواقع التنبؤ بها، ويتحركون لتحقيق الربح منها قبل غيرهم الأقل تيقظًا. قد تكون معلوماتهم أفضل من معلومات الآخرين؛ لأن لهم تبصرًا أفضل بأسواق معينة يجعلونها موضع اهتمامهم بالتخصص، وهو ما يمكنهم من إعطاء تخمينات أسرع وأدق عن الحالة المستقبلية للطلب. أو قد يستطيعون التفكير على نحو مبتكر والعثور على طرق لإنتاج منتجات أرخص أو تحسين المنتجات أو العثور على سبل جديدة بالكامل لإرضاء الجماهير. وحين ينجحون ويحققون الأرباح يشجع هذا الآخرين، الذين هم أقل تيقظًا أو أقل امتلاكًا للمعلومات، على اتباع نهجهم. وبهذه الصورة يسهمون في عملية تحسين متواصلة للمستويات العامة للمعيشة.
ومجددًا نقول إن السوق كله يتكيف، ويوجه الموارد نحو فجوات القيم التي اكتشفها أكثر رواد الأعمال تيقظًا. ومع وجود المزيد من المنافسين المتصارعين على الفجوة نفسها في السوق، يصير جني الأرباح أصعب، وفي عملية لانهائية من التيقظ والتخمين والاكتشاف، يستخدم رواد الأعمال معارفهم ومهاراتهم الخاصة للبحث عن مواضع جديدة يمكنهم فيها تحقيق الربح من خلال تقديم القيمة للمستهلكين، وبهذا يزيدون من رخاء الجماهير.
ولأن وظيفة ريادة الأعمال مهمة للغاية في الحفاظ على مستوى معيشتنا، بل تحسينه، ينادي كيرزنر بأنه من المهم ألا نكبحها. فالضوابط الحكومية، مثلًا، قد تمنع بعض الإمكانيات التي قد يخرج بها رواد الأعمال ويمكنها نفع الآخرين. وقد تتسبب الضرائب في جعل بعض الابتكارات لا تستحق العناء المبذول فيها، كما أنها تقلل من حافز الابتكار من خلال تقليص الأرباح المستقبلية، وهي الأرباح التي لا يجب نسيان أنها ليست أكثر من توقعات تكتنفها المخاطرة وعدم اليقين.