الوقت والإنتاج ورأس المال والفائدة
-
كل عمليات الإنتاج تستغرق وقتًا. ومقدار الوقت الذي يستحق بذله في إنتاج منتَج معين — أي مدة عملية الإنتاج — لا يعتمد فقط على مقدار القيمة التي يوليها الناس للمنتج النهائي، وإنما على القيمة التي يولونها للوقت أيضًا.
-
هذا التفضيل الزمني — مقدار الفترة التي يكون الناس على استعداد للتخلي عنها على أمل جني مكافأة أعظم في المستقبل — هو أصل الفائدة.
-
لأن عملية الإنتاج تستغرق وقتًا، يمكن أن تؤدي التغيرات في الأحداث أو في تفضيلات الناس إلى إهدار الموارد. المهم في الأصول الرأسمالية ليس مقدار ما نملكه منها، وإنما كيفية هيكلتها.
قد يكون الربح الشخصي هو ما يحفز رواد الأعمال، لكن رواد الأعمال في الحقيقة يخدمون المستهلكين. فطلبات المستهلكين هي التي تحدد في النهاية ما سيتم إنتاجه، بل في الواقع، الطريقة التي سيُنتج بها أيضًا.
للسلع التي يطلق عليها الاقتصاديون اسم «السلع الإنتاجية» أو «السلع الرأسمالية» — أشياء كالمصانع والماكينات والأدوات والمعدات والمركبات التجارية إضافة إلى جميع المكونات المستخدمة في أي عملية تصنيع — غرض واحد فقط، وهو تصنيع السلع النهائية التي نستخدمها أو نستهلكها، والمسماة ﺑ «السلع الاستهلاكية»؛ كالشكولاتة ومجففات الشعر والأقلام والجعة والجرائد ولعب الأطفال والجوارب. لا أحد يرغب في السلع الإنتاجية في حد ذاتها، لكنها مرغوبة فقط بسبب السلع الاستهلاكية التي تنتجها. إن قيمتها في نظرنا تنبع فقط من قيمتها للسلع الاستهلاكية التي تنتجها؛ أو على الأقل القيمة التي نتوقع منها أن تنتجها.
الاستثمار بغرض رفع إنتاجيتنا
لماذا نتكبد مشقة ونفقات بناء السلع الإنتاجية؟ لأننا نأمل أنها ستوفر لنا أشياء نوليها القيمة، وهي الوقت والجهد. إذا استعنا بمثال من أمثلة ميزس فسنقول إن بمقدور شخص ما أن يمسك بعدد كاف من الأسماك كي يقتات عليه فقط من خلال الخوض في النهير وإمساكها بيديه. لكن بمقدور هذا الشخص أن يصطاد السمك على نحو أسهل بكثير باستخدام شبكة الصيد. فهذه الشبكة ستجعل جهوده أكثر «إنتاجية» بكثير.
بطبيعة الحال يحتاج تصنيع الشبكة قدرًا من الوقت والجهد، إضافة إلى أنه يجب العثور على الخامات التي سيصنعها منها وربما معالجتها حتى تصير على الشكل الصحيح الملائم للاستخدام. لكن الفرد قد يرى أنها تستحق هذا الاستثمار للوقت وللجهد؛ لأنها ستقلل الوقت والجهد اللذين سيبذلهما لاحقًا. في الواقع، قد تمكنه الشبكة من اصطياد عدد أكبر من الأسماك في وقت أقل، وبإمكانه بيع السمك لأشخاص آخرين مقابل المال أو أشياء أخرى مثيرة للاهتمام — أسماك بحرية مثلًا — ليس بمقدوره اصطيادها بيديه، وهو ما يضيف أيضًا إلى القيمة التي تولدها أنشطة الصيد التي يمارسها.
ليست عملية حساب هل سيصنع الشبكة أم لا بالعملية السهلة. فلكي يكون هذا الشخص قادرًا على قضاء الوقت المطلوب في صناعة الشبكة، عليه أن يظل جائعًا بعض الوقت، أو عليه أن يخزن من السمك ما يكفيه كي يقتات عليه. ربما يكون بحاجة إلى المزيد من الأسماك لمقايضتها مع أشخاص آخرين بالمواد التي سيحتاجها لصناعة الشبكة. وهو يحتاج أن يتمتع بالثقة في أن الشبكة ستأتي له بالفعل بالنتيجة المرغوبة. بلغة اليوم يمكننا القول إنه يحتاج إلى «رأس مال» ليعيش عليه ويستثمره في إنتاج السلعة الإنتاجية؛ أي الشبكة، وأنه «يخمن» أن هذا الاستثمار سيعود عليه في الواقع بالربح.
الاستثمار المدفوع بقيمة المستهلك
مجددًا نقول إن عملية السوق ستكافئ من يقومون بأكثر التخمينات دقة عن ماهية السلع الاستهلاكية التي يريدها الناس حقًّا وكم هم على استعداد أن يدفعوا لقاءها. إن رائد الأعمال المفرط في تشاؤمه بشأن الأسعار المستقبلية للسلع الاستهلاكية سيخرج من المنافسة على الموارد الإنتاجية كالأرض والماكينات والعمالة بسبب قلة السعر الذي لديه استعداد لدفعه مقابلها. في الوقت ذاته فإن رائد الأعمال المفرط في التفاؤل الذي لديه استعداد لدفع ما هو أكثر بكثير مقابل تلك الأصول، سيعاني خسائر حين يُسَوَّق المنتج النهائي. فقط من يخرجون بتخمينات دقيقة بشأن الأسعار المستقبلية للسلع الاستهلاكية هم من سينجحون.
لا يضمن امتلاك رأس المال إذن تحقيق ثروات مستقبلية. فرأس المال لا «يعيد إنتاج نفسه» و«يتمخض عن أرباح» كما اقترح ماركس؛ أولًا: يجب أن تتم مراكمته عبر الفعل المقصود للأفراد المستعدين لتحمل المخاطرة، والتخلي عن الاستهلاك وخلق السلع الرأسمالية، كالشخص الذي يجوع حتى يصنع شبكة الصيد. ثانيًا: يمكن لرأس المال أن يضيع ويُهدَر. فيمكن أن يضيع بطريق الخطأ، كما يحدث حين يسيء رائد الأعمال الحكم على تفكير المستهلكين. وثالثًا: يمكن لرأس المال أن يُستهلك، كما يحدث حين يبيع أحدهم معداته الإنتاجية لدفع فواتيره أو لتمويل استهلاكه.
هذا يدفع رائد الأعمال للحرص على التخمين على نحو صائب، ومن ثم يحافظ على أسعار السلع الإنتاجية جنبًا إلى جنب مع أسعار السلع الاستهلاكية التي هي موجودة لتنتجها من الأساس. هذا يدفع رواد الأعمال على نحو منهجي إلى الاستثمار في السلع الإنتاجية التي تقدم أعلى قيمة للمستهلك، وإلى العثور على أفضل الطرق وأرخصها لإرضاء هذه الاحتياجات.
الإنتاج يضم الوقت
ومع ذلك أهم ملمح للإنتاج، من منظور النمساويين، هو أنه يستغرق وقتًا. في الاقتصاد الحديث تكون السلع الإنتاجية عادة أكثر تعقيدًا بمراحل عن شبكة الصيد، وقد تكون عمليات الإنتاج أطول بكثير من الوقت المنقضي في صناعة شبكة صيد وإلقائها في النهير. قد يدخل في هذه العملية خطوات عديدة، ومكونات عديدة يجب تجميعها. وحتى بعد ذلك، قد تتطلب السلع الإنتاجية التي نبنيها والسلع الاستهلاكية المعقدة التي ننتجها بها إلى استثمار إضافي من الوقت والعمالة للإبقاء عليها وهي تعمل ولصيانتها. كما أن سلعنا الاستهلاكية لن تدوم إلى الأبد؛ فهي ستفيدنا فقط بقدر المدة التي سنستهلكها فيها، أو حتى نحتاج إلى إصلاحها أو استبدالها.
لذا كلما انخرطنا في عملية الإنتاج واجهتنا بخيارات؛ لا تخص فقط الوسائل والخامات التي سنستخدمها، بل تخص الكيفية التي نقدر بها وقتنا أيضًا. هل نفضل قضاء الوقت في تصنيع منتجات عالية الجودة تكون معمرة؟ أم هل نفضل امتلاك شيء أسرع وأرخص في إنتاجه، حتى لو لم يكن معمرًا بالقدر نفسه؟ لا توجد إجابة «صحيحة» لمثل هذه الأسئلة؛ فالجواب يعتمد بالكامل على قيم من يتخذ هذه القرارات.
من ثم يعد تقديرنا للوقت عنصرًا جوهريًّا في كل فعل نقدم عليه. إننا عادة ما نفضل الحصول على الشيء الذي نوليه قيمة كبيرة الآن، وليس لاحقًا. ومع هذا يولي البعض الإشباع الفوري قيمة كبيرة للغاية، ويستهلكون كل ما يكسبونه، ويفضل آخرون الادخار والتضحية بالإشباع اليوم على أمل الحصول على إشباع أكبر مستقبلًا.
تدبر موقف شخص يواجَه بخيار الحصول على ١٠٠ دولار الآن أو وضعها في بنك بفائدة قدرها ٤٪ والحصول على ١٠٤ دولارات بعد عام من الآن. إذا لم يكن لهذا الوقت قيمة عنده، فلن يخسر شيئًا من الانتظار. وسيختار وضع الأموال في البنك والحصول على ١٠٤ دولارات لاحقًا. بيد أن وقتنا محدود، ومثل أي مورد آخر محدود هو يمثل قيمة «بالفعل» في نظرنا. بعض الناس قد يرغبون في نيل مكافأة أعظم نظير التخلي عن هذا المبلغ لمدة عام، والبعض قد يرغب في مكافأة أقل، لكن الجميع يولون الوقت «قدرًا» من القيمة على الأقل.
خيارات الإنتاج تعتمد على التفضيل الزمني
من ثم، ليس قرار تصنيع سلعة إنتاجية — كشبكة الصيد أو مصنع السيارات — مسألة امتلاك للتكنولوجيا السليمة وحسب. فبما أن عملية الإنتاج تستغرق «وقتًا»، فإن قرار تأجيل الاستهلاك وبناء السلع الإنتاجية من عدمه يعتمد على القيمة التي نوليها لوقتنا؛ أي «تفضيلك الزمني». قد تعرف كيف تصنع الشبكة، لكنك ترى، من وجهة نظرك على الأقل، أن هذا الأمر لا يستحق الوقت المبذول فيه.
أوضح لنا بوهم بافرك أن هذا هو أصل فكرة «الفائدة». فالفائدة، في أبسط صورها، تعكس التفضيلات الزمنية للبشر. هل يفضلون الحصول على ١٠٠ دولار الآن أم ١٠٤ دولارات بعد عام؟ ليس من الممكن إلغاء الفائدة ولو بتشريع؛ لأنها جزء أساسي من الطبيعة البشرية. فهي تعكس تفضيلنا الطبيعي للحصول على الإشباع الآن بدلًا من حصولنا عليه مستقبلًا.
التفضيل الزمني مهم أيضًا في اختيارنا لعمليات الإنتاج، وتحديدًا مقدار الوقت الذي نحن مستعدون لتخصيصه لها. إذا كان الوقت ثمينًا — وهو ما يعكسه سعر الفائدة المرتفع — وقتها فسنفضل عمليات الإنتاج الأقصر. لن نرغب في إضاعة الوقت في عملية الإنتاج؛ لأننا نفضل الحصول على إشباعنا في أقرب وقت. لكن إذا لم نضع قيمة عالية على الوقت — وهو ما يعكسه سعر الفائدة المنخفض — فستكون عمليات الإنتاج الأطول لها مبرر منطقي. إذا لم يكن الوقت مهمًّا، يمكننا الانخراط في عمليات أكثر تعقيدًا بها خطوات أكثر، وتتضمن استخدامًا أكبر للوقت، وهو ما سماه بوهم بافرك بعمليات الإنتاج «غير المباشرة».
هيكل رأس المال
استنادًا إلى أفكار بوهم بافرك عن رأس المال والفائدة، أدرك ميزس وهايك حقيقة أن تعقد عمليات الإنتاج اليوم وتضمنها لخطوات عديدة يجعلها أيضًا هشة إلى حدٍّ ما. فيمكن للأخطاء في أي مكان على امتداد سلسلة الإنتاج أن تؤدي إلى نتائج كارثية.
يتحدث الناس عن «رأس المال» كما لو أنه شيء متجانس، لكن الحقيقة هي أنه مجرد فكرة. فرأس المال، مثل «الحجم» أو «الوزن»، ليس له وجود قائم بذاته. فهو موجود فقط في السلع الرأسمالية، بمعنى آخر في السلع الإنتاجية. والخليط الفعلي لهذه السلع الإنتاجية الموظفة في الاقتصاد — ما يسميه النمساويون «هيكل رأس المال» — هو أمر حاسم. يمكن أن تنفق الدولة نفقات رأسمالية كبيرة، لكن لو ذهبت هذه النفقات في بناء السلع الإنتاجية الخطأ، التي لا تخلق القيمة للمستهلكين، فسيكون كل هذا الإنفاق قد ضاع هدرًا.
كل هذا له أهمية كبيرة في تفسير أحد الملامح المتكررة للاقتصاديات الرأسمالية؛ فترات الانتعاش والكساد المتكررة التي تشهدها، تلك الظاهرة المعروفة بالدورة الاقتصادية، والبطالة والخسائر المالية التي تصاحبها.