الدورة الاقتصادية
-
يؤمن النمساويون بأن نمط الانتعاش والكساد المميز لدورات الاقتصاد يرجع إلى هيكل الإنتاج غير المتوافق مع التفضيلات الفعلية للناس.
-
تبدأ الدورة بتحديد السلطات النقدية لأسعار فائدة منخفضة أكثر مما ينبغي. هذا يشجع الشركات على الاقتراض والاستثمار في المصانع والمعدات الجديدة، وهو ما يحقق الانتعاش في قطاع الأعمال.
-
ومع ذلك تثني أسعار الفائدة المنخفضة الناس عن الادخار، وفي النهاية يتعين على البنوك الحد من إقراضها. وهكذا تصير الاستثمارات التي كانت مربحة في ظل أسعار الفائدة المنخفضة غير مربحة الآن. يتحتم إلغاء عمليات الإنتاج، وتُهدر الموارد الرأسمالية.
حيرت التقلبات الدورية في الاقتصاد، والمتراوحة من الانتعاش الاقتصادي إلى الكساد، الاقتصاديين وقتًا طويلًا. قدم بوهم بافرك أفكارًا مفيدة في هذا الصدد، لكن كان أول من أوضح تفسير المدرسة النمساوية بالتفصيل هو ميزس في مؤلفه «نظرية النقد والائتمان»، ثم لاحقًا بالتعاون مع هايك في المعهد النمساوي لبحوث دورات الاقتصاد في ثلاثينيات القرن العشرين؛ العمل الذي نال عليه هايك جائزة نوبل في الاقتصاد بعدها بأعوام كثيرة.
يرى النمساويون أن الدورة الاقتصادية هي في الحقيقة «دورة ائتمان»؛ لأنها تبدأ عادة بخلق فائض ائتماني كبير من جانب البنوك، وتحديدًا، كما يقول روثبارد (الذي واصل تطوير عمل كل من ميزس وهايك)، «البنوك المركزية».
إن المحفزات المقدمة لمصرفيي البنوك المركزية تدفعهم إلى التوسع في منح الائتمان. ونجاحهم يقاس بنجاح قطاعات المال والأعمال في بلدانهم، ويُشاد بهم حين ينتعش التقدم الاقتصادي. لكن على النقيض، لا تعود عليهم فترات التباطؤ والركود إلا بالنقد والإساءة. لذا هم يميلون إلى تشجيع فترات الانتعاش ويحاولون تجنب فترات التباطؤ الاقتصادي بأي ثمن.
سبيل تحقيق ذلك هو إبقاء أسعار الفائدة في أدنى معدل ممكن لها. البنوك المركزية لها ثقل كبير في الأسواق المالية حتى إنها بتغيير أسعار الفائدة، التي بها تقرض البنوك التجارية، تستطيع التأثير على أسعار الفائدة عبر قطاع المال والأعمال بأسره. فأسعار الفائدة المنخفضة المقدمة من جانب البنوك تشجع الناس على الاقتراض؛ لأنها تجعل الإقراض أقل تكلفة؛ نظرًا لانخفاض الفائدة التي ستُدْفع. وبهذا يأخذ أصحاب المنازل المزيد من الرهون العقارية لشراء منازل جديدة، وهو ما يزيد الطلب على قطاع الإسكان، ويرفع أسعار المنازل، في الوقت الذي يجد فيه رواد الأعمال أنه من الأرخص تمويل مصانعهم ومعداتهم الجديدة التي يؤمنون أنها ستمكنهم من تسريع عملية الإنتاج وزيادة أرباحهم.
من الظاهر يبدو كل شيء في أحسن حال. لكن لسوء الحظ، تُخل أسعار الفائدة المنخفضة المصطنعة باستقرار التوازن الدقيق بين الاستثمار في الأصول الإنتاجية وتفضيلات الناس الزمنية، وتخلق انتعاشًا مدفوعًا بأسعار الفائدة يجعل رواد الأعمال يستثمرون في المواضع الخاطئة. وحين تنتهي فترة الانتعاش لا محالة، يتضح أن الاستثمارات تعود بخسائر وتُفقد الوظائف ويضيع رأس المال.
كيف تخلق البنوك النقود؟
هناك مراحل عدة لهذه الدورة. تبدأ حين يزيد البنك من إقراضه للعملاء. والأرجح أن هذا يحدث عندما يقلل البنك المركزي من أسعار الفائدة، وهو ما يجعل الاقتراض أرخص ويحفز العملاء على أخذ قروض ورهون عقارية ضخمة. هذا أمر سيئ في حد ذاته؛ لأنه يشجع الناس على الاقتراض حتى رغم عدم تغير تفضيلاتهم الزمنية. لكن هذا الأذى يتضاعف من خلال النظام المصرفي الاحتياطي الجزئي.
أغلب الناس ينظرون إلى «النقود» على أنها عملات ورقية ومعدنية يحتفظون بها في جيوبهم ومحافظهم. لكن هناك نوعًا آخر من النقود يبلغ حجمه ثلاثين أو أربعين ضعف هذا الحجم، وهو تحديدًا المبالغ التي يحتفظ بها الناس كمدخرات في البنوك.
تقرض البنوك العملاء من خلال زيادة سحبهم على المكشوف أو إضافة المال إلى ودائعهم. فإذا أقرض البنك ألف دولار لفرد أو شركة ما، فهو يمنح نفسه أصلًا جديدًا؛ مطالبة الألف دولار (مضافًا إليها الفوائد) ضد هذا العميل. لكن يوازَن هذا بخصم جديد؛ مبلغ الألف دولار الإضافي الذي يملكه العميل الآن كوديعة، ويستطيع سحبه في أي وقت. وهكذا تظل سجلات البنك متوازنة. ومع هذا، فقد خلق البنك، بجرة قلم، نقودًا جديدة؛ لأنه أوجد وديعة جديدة، والودائع البنكية، على أي حال، ما هي إلا نقود. وحتى لو سحب العميل مبلغ الألف دولار وأنفقها كي يسدد المال للموردين، فسينتهي الحال بهذا المال كوديعة في حسابات هؤلاء الموردين.
لكن من أين يحصل البنك على مبلغ الألف دولار نقدًا كي يسحبه العميل؟ كل ما يتطلبه الأمر هو إضافة بند في الميزانية. فالبنك ليس في حاجة لأن يملك هذا المبلغ النقدي في خزانته كي يمنحه للعميل المقترض. بطبيعة الحال، حين يأتي العميل ويسحب مبلغ الألف دولار المتفق على اقتراضه أو جزءًا منه نقدًا، فسيحتاج البنك إلى نقود سائلة كي يدفعها له، لكن المدخرين موجودون طوال الوقت ويودعون النقود. من الواضح أن على البنك الاحتفاظ بنقود سائلة كافية للوفاء بالتدفقات النقدية الداخلة والخارجة. لكن خلافًا لذلك، يستطيع البنك أن يخلق النقود، كما حدث في هذه الحالة.
ما مقدار النقود التي يستطيع البنك أن يخلقها؟ المذهل في الأمر أنه لا حدود لهذا الأمر. تحدد دول عديدة مقدار النقود الذي يجب على بنوكها الاحتفاظ به تحت تصرفها، وذلك حتى لا ينفد منها المال المطلوب للمعاملات اليومية بما يسبب الهلع بين الناس. لكن في أغلب الأماكن لا يتعدى هذا المبلغ واحدًا أو اثنين بالمائة من ودائعها. إذن، شريطة أن يفي البنك بالاحتياجات اليومية للعملاء من النقد، يمكنه أن يقرض مقابل كل ألف دولار من العملات الورقية والمعدنية التي يأخذها من المدخرين ما يصل إلى خمسين أو مائة ألف دولار، وهو ما يعني أنه يخلق هذا المبلغ من العدم.
بالطبع لو جاء كل العملاء في يوم واحد وطالبوا بسحب كل حساباتهم الادخارية وتسهيلات القروض نقدًا، فلن يملك البنك النقد الكافي للدفع لهم. بعض النمساويين، أمثال روثبارد، يعتبرون النظام المصرفي الاحتياطي الجزئي بمنزلة احتيال؛ فالمودعون يضعون نقودهم في البنك في أيد أمينة، لكن البنك يخاطر بها من خلال إقراضها واستخدامها في تخليق المزيد من النقود. لكن التهافت على سحب الودائع أمر نادر الحدوث في الأحوال العادية، ويتقبل المودعون هذه المخاطرة في مقابل مزايا الحصول على فوائد.
إلا أن ما يقلق النمساويين هو الحد الذي يضخم به النظام التغيرات في المعروض النقدي. فزيادة قدرها دولار واحد في المعروض النقدي تسمح للبنك بتخليق خمسين أو مائة دولار من القروض الجديدة. وإذا أقرض البنك بنوكًا أخرى، تستطيع هذه البنوك عمل الأمر نفسه بدورها. هذا «التضخيم المالي» يعني أنه يمكن لتغير بسيط في المعروض النقدي أن يكون له آثار عظيمة — ومن ثم أخطار محتملة — على النظام المالي، ومن ثم على الاقتصاد الحقيقي.
كيف تعزز الأموال الجديدة العمل؟
لكن دعونا نفترض أن النظام المصرفي استمر على هذا النحو، دون حوادث، لعدد من السنوات. إذا خفضت البنوك المركزية أسعار الفائدة، فستصير القروض والرهون العقارية أرخص، وسيأتي المزيد من الأشخاص إلى البنوك طلبًا لهذه القروض والرهون. لنفترض أن البنوك زادت من إقراضها، باستخدام جزء أكبر من ودائعها لتوفير القروض الجديدة. قد تكون الزيادة صغيرة للغاية على نحو لا يقلق المدخرين، لكن كما رأينا، من جانب آخر، تُخلَّق كميات ضخمة للغاية من النقود الجديدة، وتجد سبيلها إلى داخل النظام الاقتصادي.
للمشتغلين في عالم الأعمال يبدو هذا رائعًا على نحو يستحيل تصديقه. فقد انخفضت تكلفة الاقتراض، وفي الوقت عينه توجد أموال أكثر في جيوب المستهلكين. يتصور رواد الأعمال أنهم قادرون على تحمل تكلفة الاستثمار في ماكينات جديدة متطورة، وأخذ وقت أطول في عملية الإنتاج، ومع هذا يظلون قادرين على تحقيق ربح كبير في نهاية الأمر. لذا يشرعون في شراء الأراضي وبناء المصانع وطلب الماكينات وتعيين عمال جدد.
يصل رواد أعمال آخرون إلى النتيجة عينها، ويندفعون في عملية الاستثمار. بيد أن هذا الطلب المتزايد يرفع أسعار الأراضي والمباني والماكينات. ومع ارتفاع أسعارها ينجذب المزيد من الموارد نحوها. وبدلًا من إنفاق المال على السلع الاستهلاكية يتجه الإنفاق إلى الاستثمار في السلع الإنتاجية. في الوقت ذاته، قد يزيد بعض رواد الأعمال من اقتراضهم للوفاء بالأسعار الجديدة الأعلى، وينجذب المزيد من الموارد نحو قطاع السلع الإنتاجية.
سيجد ملاك الأراضي ومن يبيعون السلع الرأسمالية أنفسهم في حال أفضل. والأمر عينه يسري على عمالهم والعمال الذين يوظفهم رواد الأعمال الذين يزودونهم بما يحتاجون. تمد الأجور المرتفعة رواد الأعمال بمزيد من الشجاعة، وتقنعهم أن هناك سوقًا قوية لما ينتجونه في النهاية. لهذا يواصلون العمل ويستمر الانتعاش.
كيف يتحول الانتعاش إلى كساد؟
الآن رواد الأعمال عالقون في التزاماتهم الجديدة التي لا يمكنهم التنصل منها. لقد استثمروا في مصانع جديدة، وعمليات إنتاج أطول وأعقد. تستمر نفقاتهم في الارتفاع، لكنهم إذا انسحبوا الآن فسيواجهون بخسائر معينة. فمثل البنَّاء الذي بالغ في تقدير حجم أساس المبنى ونفد منه الطوب، يواصل هؤلاء الاقتراض على أمل إنقاذ المشروع وإتمامه.
لكن لسوء الحظ، كل النقود التي خُلقت تبدأ الآن في النفاد. لقد أقرضت البنوك كل ما بوسعها إقراضه. في الوقت ذاته لا يدخر الناس بأكثر مما فعلوا من قبل؛ نظرًا لأن تفضيلاتهم الزمنية لم تتغير، ولأن معدلات الفائدة المنخفضة لا تشجعهم على الاحتفاظ بودائع كبيرة في البنوك. وفي ظل نقص النقود السائلة، تبدأ البنوك في القلق بشأن ضمان القروض التي منحتها، وتبدأ في كبح عملية الإقراض، والتشديد في شروط القروض، بل ربما مطالبة العملاء الذين تستشعر منهم الخطر بالسداد. وهكذا تتضح حقيقة المشروعات التي بدت مربحة حين كانت القروض رخيصة، ويتأكد أنها مفرطة في التفاؤل. تفشل بعض خطط العمل، ويُسرح بعض العمال. ينخفض الاستثمار والإنفاق، وتأخذ التجارة منحنى هابطًا.
إن عودة البنوك إلى الإقراض بتعقل ليس هو ما «يسبب» الأزمة. فهو يكشف فقط عن أن التوسع الأصلي كان مفرطًا في التفاؤل، وكيف أن الاستثمارات الأصلية كانت خاطئة. إنه يفضح حجم «الاستثمار السيئ» الذي وقع. وتنتهي أخطاء الاستثمار السيئ هذه بخسائر حقيقية لكل الأطراف ذات الصلة. فالشركات، العاجزة الآن عن مواصلة الاقتراض، ينفد ما لديها من نقد. ويتعين عليها بيع أصولها بأي ثمن، وذلك في سوق راكدة. تُغلَق المصانع وتتوقف مشروعات البناء ويُسرح العمال. تتعثر بعض الشركات في سداد قروضها، وتشدد البنوك من شروط الإقراض أكثر، وهو ما يدفع شركات أخرى إلى الإفلاس أيضًا. وحتى الشركات التي تصرفت بحذر خلال هذه الحقبة ستطالها موجات الأنباء السيئة الآتية من إخفاقات الآخرين.
كيف تهدر الدورة الاقتصادية الموارد الحقيقية؟
إذا كان رأس المال متماثلًا بحق، أمكن إنقاذ أغلب الاستثمارات الفاشلة وإعادة استخدامها في أغراض أخرى. لكن لسوء الحظ، أغلب المصانع وماكينات الإنتاج لا يمكن استخدامها في أي أغراض أخرى سوى تلك التي صُممت من أجلها. فمصنع إنتاج السيارات لا يمكن استخدامه في تصنيع المعدات الكهربية، على الأقل دون تفريغه من معداته وتزويده بمعدات جديدة، ويستحيل تحويل مطبعة الصحف، وهي ماكينة ضخمة، إلى أي استخدام آخر إذا انهار عمل الصحف. مثل هذه المعدات والمصانع المتخصصة لا بد من خفض قيمتها أو ربما تخريدها. من الممكن إعادة تدريب العمال على وظائف أخرى، مع أن هذا سيتكلف قدرًا من الوقت والمال. لكن تظل الحقيقة هي أن فترة الانتعاش أدت إلى فترة كساد أنتجت بدورها خسارة حقيقية في رأس المال وبطالة حقيقية.
يرى النمساويون أنه ما من سبيل للخروج من هذه الأزمة إلا بتحمل فترة الانكماش الاقتصادي الموحشة التي تتسم بانهيار الأسعار والأجور، وإغلاق المصانع وإفلاس الشركات. إن محاولات تأخير التكيف — من خلال مقاومة اتحادات العمال لتسريح العاملين أو محاولة الحكومات تنشيط الاقتصاد أكثر من خلال خفض أسعار الفائدة أكثر — تطيل أمد الاستثمار السيئ وحسب وتجعل الحساب الختامي أسوأ. لم يكن الانتعاش الأصلي الناجم عن خفض أسعار الفائدة بداية لحقبة جديدة من الرخاء، بل خدع الشركات والأفراد المقترضين وجعلهم ينفقون الموارد الثمينة على استثمارات مضللة. ولا يمكن لأي سياسة لاحقة أن تغير هذه الحقيقة.
يقول النمساويون إن سبيل منع فترات الانتعاش والكساد هذه، بما تحمل من فقدان حقيقي للوظائف وإهدار للموارد الرأسمالية التي تتسبب بها حتميًّا، هو عدم الدخول فيها في المقام الأول. هذا يعني أن على البنوك المركزية عدم محاولة تجنب كل مرحلة إبطاء وتجديد نشاط العمل من خلال خفض أسعار الفائدة لدرجة لا تعكس التفضيلات الزمنية الحقيقية للناس؛ لأن هذه هي الكيفية التي تبدأ بها الدورة. إننا بحاجة لدراسة الكيفية التي نجعل بها المال أكثر ثباتًا؛ لأن الزيادة المفاجئة في المال هي التي تمنح رواد الأعمال السبل والتشجيع للاستثمار المفرط في الأشياء الخطأ. هذا يعني النظر في قدرة الحكومة على صك نقود جديدة، وقدرة البنوك على تضخيم هذا المقدار ودعم انتعاش مضلَّل.