عصر بديع الزمان
(١) الحالة السياسية
سُئل أحد الساسة الأتراك: متى ابتدأت انكسارات الدولة العثمانية، فأجاب: منذ أول انتصار. ثم فسَّر جوابه هذا بقوله: لأنها لم تفرض لغتها على المغلوبين.
ولما حُمَّ القضاء عليهم وهزم مروان الجعدي، وآل الملك إلى بني العباس نبتت على الأثر دولة أموية جديدة في الأندلس تركت في العالم القديم مآثر عزَّ نظيرها حضارةً وعلمًا وعمرانًا، حتى قال أحد المؤرخين الغربيين في عبد الرحمن الناصر: إنه ملك يصلح لسياسة أعظم دولة في القرن العشرين.
والرشيد الذي قال للغمامة: أمطري حيث شئت فإن خراجك يأتيني، لم يسلم عهده الذهبي من تفسخ. ففي زمن ولايته أنشأ العلويون دولة جديدة في المغرب الأقصى عرفت بالدولة الإدريسية. وأراد هارون أن يتقي شرها، على بعد المزار، فعمل ما تعمله الدول اليوم، فأنشأ إمارة بني الأغلب في إفريقيا. وعلى خطة الرشيد درج ابنه المأمون فأقطع قائده طاهر بن الحسين خراسان، فكانت إمارة بني طاهر التي دامت زهاء خمسين سنة وأكثر.
ثم أخذ الضعف يدب في جسم الدولة رويدًا رويدًا، فنشأت دول أكبر وأخطر، فكانت الدولة الصفارية في فارس، ثم السامانية التي أزاحتها عن تخومها واستولت على فارس وما وراء النهر، وظهرت الدولة الزيارية في جرجان، ثم كانت الدولة البويهية التي لم تكتف بفارس، بل بسطت سلطانها على العراق أيضًا، وغلبت الخليفة على أمره حتى لم يبق له من الملك إلا الاسم، بل شاركه بعضهم في خطبة الجمعة.
هذا ما آلت إليه الدولة العباسية في القرن الرابع الذي هو قرن المقامات والنثر المنمَّق. كان الخليفة في هذا العصر يؤمر فيطيع، ولم يعد له من رقعة الدولة الواسعة غير بغداد، بل بغداد نفسها كانت معرضة دائمًا لغارات هؤلاء الملوك الذين استقل كل واحد منهم بمقاطعة، بل بالعاصمة نفسها، وحجر على الخليفة وعين له مبلغًا من المال لنفقته.
وحاول القاهر بالله، أحد خلفاء هذا القرن، أن يعيد الخلافة جذعة، فضيقوا عليه وحاصروه في دار الخلافة وفتشوا الداخل عليه والخارج من عنده، حتى أدخل أحمد بن زيرك الذي جُعل على حراسته يده في اللبن المحمول إلى الخليفة لئلا يكون فيه رقعة.
ولكن كل هذا الإرهاب والتمثيل لم يحل دون خلعه، فما دامت خلافته إلا سنة وسبعة أشهر، وهو أول من سملت عيناه من الخلفاء. ويقال: إنه كان يستعطي في آخر أيامه.
وكثيرًا ما صاروا في هذا العصر يُصفُّون مال الخليفة ويتركونه صفر اليدين. وأخيرًا صار الحكم فريسة القوي المستأسد، فكل من رأى في نفسه قوة استبد بمقاطعة وأقام نفسه ملكًا عليها. كان لقب «الحضرة» مختصًّا ببغداد، أما في هذا القرن الذي نلم بفذلكة من تاريخه السياسي فأصبح في كل بلد «حضرات» وكثرت الألقاب، فمن يمين الدولة إلى عضدها، ومن ملك الملوك إلى الشاه والشار، إلى السلطان، فصح فيها ما قيل في الأندلس:
ولا عجب أن سمى المتنبي هذه الحقبة من الزمن دولة الخدم، فأكثر هؤلاء كانوا خدامًا واستحالوا قوادًا، ثم صاروا ملوكًا. فأصدق وصف للمملكة العربية في هذا القرن، هو ما قاله فيها أبو الطيب ابن ذلك القرن:
وقال أيضًا في هؤلاء معللًا نفسه بإحدى الممالك مثلهم:
ولماذا لا يعلل نفسه بالسلطان عبقري كالمتنبي بعد ما رأى الثورات تلي الثورات والغزوات تلي الغزوات، خليفة يقتل ليولَّى غيره ولاية اسمية. أما الفعل والسلطان ففي يد مَنْ وصفهم المتنبي. كان الخلفاء قابعين في قصورهم يتلمسون رءوسهم كل مساء وكل صباح ليروا، ألا تزال في مواضعها أم أطاح بها أحد مواليهم وخدامهم. وكما كانت الدولة مقسمة في العراق وفارس كقطع الشطرنج، كذلك كان الأمر في جميع الأقطار، فهنا ملك الحمدانيين وهناك ملك الإخشيديين إلى آخر ما هنالك من ضروب التوزيع.
وأخيرًا صار أمر الخلافة في أدنى الدركات فسلبوهم كل سلطانهم، ولم يتركوا للخليفة وزيرًا، ما بقي له غير كاتب يدير أملاكه.
ومن يستغرب — بعد هذا — قول المتنبي لسيف الدولة:
وينبئنا التاريخ أن سيف الدولة حاول امتلاك بغداد ولكنه لم يفلح، فعاد إلى مستقره وأنشأ «حضرة» تضاهي حضرة بغداد في أيام عز الخلافة.
حقًّا إننا في عصر صار كله «حضرات» كما قلنا، وصح في حكامه قول الشاعر في الأندلس:
أما أشهر هذه الدويلات وأزهرها فكانت دولة السامانيين والبويهيين. كان كل هؤلاء الملوك أو أشباه الملوك يقلدون الخلفاء القدامى، لا خلفاء عصرهم الذين أمسوا نكرات، ويطمعون بأن يزينوا «حضراتهم» بالشعراء والكتاب والعلماء، وكل منهم ينافس الآخر. أما رووا أن عضد الدولة أرسل إلى المتنبي من يسأله: مَن أجزل عطاءً أسيف الدولة أم عضد الدولة؟
وآخر من يعنينا أمره في الربع الأخير من هذا القرن، هو الناصر لدين الله أبو القاسم محمود بن سبكتكين الذي قضى على الدولة السامانية ثم غزا الهند غزوات كثيرة وامتلك أكثرها. وما سبكتكين هذا إلا واحد من غلمان أبي إسحاق البتكين، قائد جيش غزنة في الدولة السامانية. ولي العسكر لما مات مولاه القائد واستقل بالملك. ولما مات قام بعده ابنه محمود، كان لقبه أولًا، يمين الدولة، فأبدل به لقب السلطان حين استبد بالأمر، فكان أول من لُقِّب بالسلطان في الإسلام، ثم عظم أمره واستولى على خراسان وقطع منها خطبة السامانيين، وقرض دولتهم.
(٢) الحالة الاجتماعية
ما أشبه الليلة بالبارحة!
كان الخلفاء يتركون وزراءهم وعمالهم وولاتهم هملًا كالغنم في المرعى، حتى إذا ما سمنوا ذبحوهم. وأخيرًا جاءت نوبة الخلفاء أنفسهم فصار عمالهم يفعلون بهم كما كانوا يفعلون هم بغيرهم، كما فعل بهاء الدولة البويهي بالطائع حين أخذ ما يملك ثم خلعه. أما وقف القاهر المسمول في جامع المنصور، وعليه مبطنة بيضاء، وقال للناس: تصدقوا عليَّ فأنا من قد عرفتم.
أهمل الخلفاء شئون الدولة الجلى، وصارت الكلمة في القصور للخدم والنسوان، وللجواري والغلمان. أما قال إسماعيل بن أحمد في غلام له: «يصلح للفراش وللهراش.» وقصة ثمل القهرمانة جارية المقتدر، أما كانت تقعد للمظالم، فتعرض عليها شكاوى الخاصة والعامة، ويحضر مجلسها — محكمتها بلغة اليوم — الوزير والكاتب والقضاة وأهل العلم في حين يكون الخليفة غارقًا في مجلس اللهو والطرب.
قال بشار:
فقتل بهذا البيت، أما في هذا القرن فصار المجون والتهتك شيئًا لا يُستحى به. وإذا ما قلَّ مال الخلفاء والأمراء والولاة فتشوا عن الأغنياء من الرعية وأخذوا أموالهم لينفقوها في قصورهم.
وكثر في هذا العصر اقتناء السراري والغلمان، فقلما خلا قصر من المئات منهم ومنهن. وهذا صاحبنا المتنبي ينظم قصيدة في رثاء يماك غلام سيف الدولة أو مملوكه، ولا يتورع أن يقول فيه:
ولا أذكر لمن قرأت هذا القول: «رغَّبني في الوزارة اقتناء الغلمان.»
وملخص القول أن هذا العصر كان عصر ترف في القصور والدور، وهذا الترف جر إلى الفتن والحروب والمصادرات وكبس البيوت حتى صارت الثروة خطرًا على صاحبها. فما قولك بوزير عنده من العبيد والمماليك أربعة آلاف غلام! أيدع هذا كبيرة أو صغيرة لا يرتكبها في سبيل ابتزاز الأموال؟!
إن هذا الترف الذي رافق الخلافة العباسية منذ هارون حتى صار الخلف يسعى جهده ليفوق السلف، لهو الذي جرَّ إلى سقوط الخلافة في هذا العصر. ثم عارض الخلفاء في ميدانهم هذا وزراؤهم وأمراؤهم وعمالهم، أما الرعية فكانت كبش التضحية.
فالوزير ابن الفرات كان يستغل من ضياعه في كل سنة ألفي ألف دينار وينفقها. قيل: إنه كان لا يأكل إلا بملاعق من البلور ولا يأكل بالملعقة إلا لقمة واحدة. فكان يوضع له على المائدة أكثر من ثلاثين ملعقة …
إن الثروة التي كانت في بيوت هؤلاء تكاد أخبارها لا تصدق. أما الشعب المسكين فكان في كل قطر طريد الفقر والبؤس، تأكل رغيفه الجباة المتكلفون بجمع المكوس والضرائب وليس من يسألهم عما يفعلون. لا يهمهم إلا جمع المال ليدفعوا ما تكفلوا به للولاة، ويصبحوا هم أغنياء يعيشون كالطبقة العليا. اقرأ رسالة بديع الزمان التي يشكو فيها البختري.
فالخليفة، أو الإقطاعي الذي استبد بقطرٍ من الأقطار، ورجال هؤلاء وأهلوهم، وأتباعهم، وأتباع أتباعهم، أولئك كلهم الغارقون في النعيم، أما الشعب المسكين فكله في جحيم. وتجبى منه الضرائب مثنى وثلاث ورباع، وتنتابه المجاعات من حين إلى آخر، فيلجأ إلى سلطان ربما سمع صوت الرعية ورثى لها، وربما لا. كل هذا توضحه لنا رسائل بديع الزمان.
(٣) الحالة الأدبية
هذا العصر الذي سميناه عصر «الحضرات» تستطيع أن تسميه بحق زبدة الحقب. لقد نكبت فيه الخلافة بمجدها وعزها وأبهتها، ولكن الأدب كان له في كل مصر مرتع، فلا تكاد تضيق مدينة بشاعر أو كاتب أو عالم حتى ينتقل إلى غيرها ليحل فيها على الرحب والسعة. لا بل كان هؤلاء الملوك الصغار يستقدمون إلى «حضراتهم» كبار الشعراء والكتاب ويستزيرونهم. وحادث الصاحب بن عباد مع المتنبي مشهور. ثم ألم يستقدمه كافور وابن العميد وعضد الدولة … أجل كثر في هذا العصر الملوك والوزراء المتشبهون بالملوك، فكثر الرواد من أهل الأدب ورجال العلم، فنفقت المنتوجات القلمية في أسواق العواصم … واشتد التنافس بينهم فأدى ذلك إلى تنافس الشعراء وكد أفكارها ليأتوا بالبدع. فهذه حضرة سيف الدولة في حلب تتسع لأعظم شعراء العصر وكتابه وعلمائه، وعلى حضرته هذه قس الحضرات الأخر، وإن كانت دونها، كالحضرات السامانية، والبويهية، والزيارية، والغزنوية والسبكتكينية حتى الخلفية. فهذا أحمد بن خلف، على ضيق رقعة ملكه في سجستان كان معطاءً يحب العلم والعلماء حتى قال فيه ابن الأثير المؤرخ: «وكان خلف مشهورًا بطلب العلم وجمع العلماء، وله كتاب صنفه في تفسير القرآن من أكبر الكتب.»
أرأيت ما أحرز هذا الأديب من ثروة؛ خمسمائة نيران، أي خمسمائة زوج بقر، وألف عامل تعمل في أرض «سيدنا» الذي كتب في أول أمره إلى الخوارزمي يعاتبه بما يلي: «الأستاذ أبو بكر، والله يطيل بقاءه، أزرى بضيفه إذ وجده يضرب إليه آباط القلة في أطمار الغربة، فأعمل في رتبته أنواع المصارفة، وفي الاهتزاز له أنواع المضايقة، من إيماء بنصف الطرف، وإشارة بشطر الكف، ودفع في صدر القيام عن التمام، ومضغ الكلام، وتكلف لرد السلام … ولست مع هذه الحال وفي هذه الأسمال أتقزَّز صف النعال.»
تلك كانت حال الأدباء الموهوبين، يخرج أحدهم من بلده طريدًا شريدًا فيرد الحضرات فإذا لم ينفق في بلد يمم بلدًا آخر. ويظل على ذلك حتى يجد لبضاعته سوقًا، فيلبس إذ ذاك الديباج، ويركب البغلة، ويقتني العبيد، ويبتاع الجواري والغلمان … هذا إن لم يصبح وزيرًا خطيرًا له «حضرة» ينتجعها الأدباء والشعراء، كما فعل ابن العميد والصاحب ففتحا للأدب سوقًا كالتي في حلب ومصر، وكل بلد فيه ملك من هؤلاء الملوك الذين ينافس بعضهم بعضًا في تزيين حضراتهم بالأدمغة الكبيرة والعقول الراجحة والعبقريات النادرة. لقد كان هبوط الخلافة في القرن الرابع ارتفاعًا للأدب، فلولا هذه الحضرات التي تدفقت منها الأموال كالأنهار لم يبدع الهمذاني مقاماته التي كان لها أبعد الأثر في الأدب العربي.
إن عصرًا عملت فيه ألف ليلة وليلة، وقصة عنترة، لهو عصر يستحق أن يسمى زبدة الحقب، كما قال أبو تمام في وقعة عمورية … ما رأيت عصرًا حفل بالأدباء والعلماء والشعراء كهذا العصر. أليس هو عصر المتنبي، وابن العميد، وابن عباد، والخوارزمي، وبديع الزمان، والتوحيدي، والصابي، وابن فارس، وابن دريد، والشريف الرضي، وابن حجاج، والثعالبي، وأبي فراس، وكشاجم، والفارابي، والأصفهاني، والجوهري، والزوزني، والأشعري، والعكبري، والتهامي، وابن يوسف، وابن سينا، والمعري، والقالي، والجرجاني، والطبري، والمسعودي، والرازي، وابن النديم، وابن عبد ربه، وابن هاني، والنامي، والببغاء، والوأواء، وابن خالويه، وابن جني، وأبي علي الفارسي؟!
كان في كل قطر ملوك، وكان في كل قطر رجال فأدى هذا إلى إنتاج أدبي عظيم لم يُر مثله في العصور السابقة. إذا كان في العصور الأولى بضعة عشر عظيمًا، ففي هذا العصر من عظماء المملكة الأدبية عشرات ما ذكرت منهم إلا الرءوس.
فابن لنكك المحروم قال الهجاء المر كابن الرومي، وابن حجاج وابن سكرة وغيرهم أعادوا عهد أبي نواس في المجون، ولولا أننا ننظر إلى آدابنا نظرة الأثري إلى «الأنتيكا» لقلت: إن هذا العصر خير عصورنا الأدبية في الكمية والكيفية، ولا أستثني من القدماء إلا الجاحظ الذي لا يُجارى، وكلهم عيال عليه كما قال فيه ابن العميد.
كان الأدب في هذا العصر صورة صادقة للحياة، وما المقامات إلا وليدة مظاهر اجتماعية أشار إليها الجاحظ من قبل. إنه البؤس الذي فتق الحيل لابتزاز الأموال، وإنه فساد الأخلاق الذي دعا البديع إلى تصوير الشذاذ والمتشردين، كما صور حالة العلماء ومجالسهم، والأغنياء الحديثي النعمة الذين يريدون مجاراة كبار رجال الدولة في قصورهم.
أما الترف والنعيم فيصفه هو وغيره، ولعل هذا التأنق في الإنشاء هو من وحي صور الحياة الاجتماعية. فهذه الزركشة فيه تومئ إلى الحياة الاصطناعية التي كان يحياها المترفون. وبالاختصار كان هذا العصر عصر علم وأدب وشعر وتأليف وفلسفة، ولا تنس أيضًا أنه عصر الفاطميين، الذين عمروا العقول بفلسفتهم ونظرياتهم، والأرض بقصورهم ومبانيهم للحكمة والعلم والتعليم.