منتخبات من آثار بديع الزمان
(١) الرسائل
(١-١) من رسائله المدحية
سيوف الحق
ثم حكمت علماء الأمة، واتفق قول الأئمة أن سيوف الحق أربعة وسائرها للنار، سيف رسول الله في المشركين، وسيف أبي بكر في المرتدين، وسيف علي في الباغين، وسيف القصاص في المشركين، وسيوف الأمير، وفقه الله، في مواقفه لا تخرج عن هذه الأقسام، فسيفه بظاهر هراة فيمن عطل الحد واتهم بأنه ارتد، وسيفه بظاهر غزنة سد في وجه العقوق، نوعًا من الكفر والفسوق، وسيفه بظاهر سجستان في من نبَّه الحرب بعد رقودها، وخلع الطاعة بعد قبولها. وسيفه الآن في ديار الهند سيف قرنت به الفتوح، وأثنت عليه الملائكة والروح، وذلت الأصنام، وعز به الإسلام، والنبي عليه السلام، واختص بفضله الإمام، واشترك في خيره الأنام، وأرخت بذكره الأيام، وأحفيت بشرحه الأقلام.
فتح ذخره الله عن الملوك السالفة الخالية، الكفرة الطاغية، الجبابرة العاتية، حتى وسمه بناره، وجعله بعض آثاره، والحمد لله معز الدين وأهله، ومذل الشرك وحزبه، وصلى الله على محمد وآله.
الأب والابن
وذكر الشيخ أبو فلان أن أبا فلان زاد على خراجه توابع ونوافل وضعف عليه مؤنًا ولواحق، وأمرني أن أكاتبه ليرفع من الزيادة ما أثبت، ويحصد من النكاية ما أنبت، فقلت: اللهم غفرًا كيف يحتشمني، وهل يوقر فضلي، من لا يوقر أصلي! وكيف أكاتب سلطانًا لا يعلم أن الدرهم يؤخذ من مالي خبيث الأحدوثة قليل المغوثة. إن رأى الشيخ أن يعفيني من مكاتبته.
استعطاف
أنا لقرب الأستاذ — أطال الله بقاءه — كما طرب النشوان مالت به الخمرُ، ومن الارتياح للقائه، كما انتفض العصفور بلله القَطرُ، ومن الامتزاج بولائه، كما التقت الصهباء والبارد العذْبُ، ومن الابتهاج بمرآه، كما اهتزَّ تحت البارح الغُصُنُ الرطْبُ. فكيف نشاط الأستاذ لصديق طوى إليه ما بين قصبتي العراق وخراسان، بل ما بين عتبتي نيسابور وجرجان؟ وكيف اهتزازه لضيف في بردة جمال. وجلدة حمال:
وهو أيده الله ولي أنعامه بإنفاذ غلامه إلى مستقري، لأفضي إليه بسري، إن شاء الله تعالى.
(١-٢) من رسائل العتاب والاعتذار
زهد واعتذار
كتابي — أطال الله بقاءك — وقد كنت نذرت ألا أخاطب حضرته، ثم روى لي القاضي حديثًا طرق إلى نقض ما نذرت طريقًا، وسمعت منشدًا ينشد:
ذكرت هذه الكلمات ليعلم الأمير أني لم أنسها، ومع تصور هذه الجملة أغار على لحظاته، وأؤاخذ الأمير بحركاته وسكناته، وأرى أنه سعد مني بأكثر مما سعدت منه، وآنف أن يقال سماه الهمذاني حيث سما سواه، ويقاس على هذا ما عداه، اللهم إلا أن أكون ضيفًا كالأضياف يقيم اليوم ويرحل غدًا، فلا أنافس أحدًا. والأمير — أيده الله — يأخذ هذا المعنى فيكسره لفظًا ليِّن المأخذ، سهل المقطع، ويرقيه إلى سمعه ويجيب عبده في الحال بما عنده، والسلام.
الأدب والذهب
ملامة
الوحشة — أطال الله بقاء الشيخ — تقتدح في الصدر اقتداح النار في الزَّند، فإن أطفئت بارت وتلاشت، وإن عاشت طارت وطاشت، والقطرُ إذا تدارك على الإناء امتلأ وفاض، والعث إذا ترك فرخ وباض، ونحن أولو هذه الصنعة لا يطردنا سوط كالجفاء، ولا يعقلنا شرك كالنداء، ثم على كل حال، ننظر من عال، على الكريم نظر إدلال، وعلى اللئيم نظر إذلال، فمن لقينا بأنفٍ طويل، لقيناه بخرطوم فيل، ومن لحظنا بنظرٍ شَزْر، بعناه بثمن نَزْر، وعندي أن الشيخ الرئيس لم يغرسني ليقطعني فتاه، ولا اشتراني ليبيعني سواه.
ويحك! سلمت عليه الغداة فرد جوابًا يرد مثله على الوكلاء، بشطر الإيماء، واقتصر من البشاشة، على تحريك الشاشة، ومن الإقبال، على تعويج السبال، وعهدي بذلك الرئيس يخرق إليَّ بساطه عَدْوًا، وسماطة حَبْوًا، فهذا الفاضل أجل من والده الفقيه، أيده الله، يوصيه بحسن العشرة معي من بعد، فللتيه يوم، وللجبروت قوم، وما أريد بعد هذا الإعتاب إعتابًا، ولا عن هذه الواقعة جوابًا، فإني لا أمكنه بعدها من أن يستهين، ولا أسلم عليه حتى يهين. والحمد لله رب العالمين.
تثقيف وتقويم
كتابي — أطال الله بقاءَ الشيخ — وللشيخ لذةٌ في السبِّ والعتب، وطبيعةٌ في العنف والعسف، فإذا أعوزه من يغضب عليه، فأنا بين يديه، وإذا لم يجد من يصونه فأنا زبونه، والولدُ عبدٌ ليست له قيمة، والظفر به غنيمة، والوالد مولى أحسن أم أساء، فليفعل ما شاء، لا يعدمه الله مني جسدًا لا يتألم بالضرب، وقلبًا لا يتظلَّم من العتب، هنيئًا (له) ما استحل من عِرضي وأكل من لحمي، فما يأكل إلا لحمه، ولا يضيم إلا بعضه.
وكأني به وقد استجد إخوانًا ولا بأس، فإن كانت للجديدة لذة فللقديم حرمة، والأخوة بُرْدة لا تضيق عن اثنين، ولو شاء لعاشرنا في البَيْن. وكان سألني أن أرود له منزلًا ماؤه روي، ومرعاه غذي، وأكاتبه لينهض إليه راحلته، فهاك نيسابور ضالته التي نشدتها، وقد وجدتها، وخراسان منيته التي طلبتها، وقد أصبتها، وهذه الدولة بغيته التي أردتها، فقد وردتها، فإن صدقني رائدًا، فليأتني قاصدًا، وإن رضيني مشيرًا فليجئني سريعًا، وهيهات أن يترك أروند وهضابها، وترمذ وشعابها، وماوسًا ورياضها، فيعتاض عنها كرم العهد، ولو علم أن رياض الأخوة أنضر، وشعاب المروءة أطيب، وأنه لا يعدم من نيسابور مثل تلك المتنزهات، وخيرًا من تلك المتوجهات، لحث إليها ركابه.
وأما أنا وأخباري بهذه الناحية، فمتقلب في ثوب العافية، موفر بهذه الحضرة، مرموق بعين القبول، هذه جملة حالي ووراءها تفصيل، منها عليه دليل.
وأما الأخ أبو سعيد — جعلني الله فداءه، ورزقني لقاءه — فقد شكرت بره، ولولا إشفاقي من ضعف تركيبه، ولطف ترتيبه، وعلمي أنه لا يحتمل وعثاء السفر لسألت الشيخ إهداءه إليَّ لأتولى تعليمه وتقويمه، لكنه رطب العظام، لطيف الأركان، لا أخاطر بإنهاضه من ذلك المكان، حتى يعقد مخه في عظامه، وأثق بقوة ألواحه. وبلغني أنه ابتدأ مجمل اللغة فأين بلغ منه؟ والشيخ لا يحمل عليه بعويص اللغة حتى يعلم سهلها، ولا يأخذه بما أخذني به، فالعمر لا يتسع للعلوم أجمع فلينفق على أحسنها، ويكفيه من اللغة علم مستحسنها، دون مستهجنها، ومن الإعراب معرفة أصوله، وما لا غناء به عنه من فروعه، ثم يأخذ به علوم كتاب الله تعالى حتى يرد على قرة عين لي ولك، وصلى الله على محمد وآله.
فاقة وخصاصة
كتابي وقد توسطت الشباب وتطرفت الشيب، وقبضت من إثر الزمان، ونظرت في عقب الأمور، وطرت مع الملوك، ووقعت مع الخطوب:
وقد علم الله أنني فارقت تلك الحضرة مفارقة أبينا الجنة، ولكن الحر لا يجنح إلى القيامة، على الدعامة بالهامة، إذا وجد وجهًا خصيبًا، ومرعى رطيبًا. والله لقد رأيت يدي محيت أفواه الأمراء والوزراء، وقد نظرت يمنة، فلم أر إلا محنة، وعطفت يسرة، فلم أر إلا حسرة:
لا شماتة
(١-٣) من رسائل القدح والذم
قاضي السوء
وبعدُ، فإن القضاء من القضية، والحية لا تلد غير الحية، فمن اعتزى إلى أب كأبيه، واقترن بأخٍ كأخيه، لم يُلَمْ على جهله، فهو الشيء من أهله، والفرع في أصله. والعلم — أطال الله بقاء القاضي — شيء كما تعرفه بعيد المرام، لا يصاد بالسهام، ولا يقسم بالأزلام، ولا يُرى في المنام، ولا يضبط باللجام، ولا يُورث عن الأعمام، ولا يكتب للئام. وزرع لا يزكو في كل أرض حتى يصادف من الحرص ثرى طيبًا، ومن التوفيق مطرًا صيبًا، ومن الطبع جوًّا صافيًا، ومن الجهد روحًا دائمًا ومن الصبر سقيًا نافعًا، والعلم علق لا يُباع ممن زاد، وصيد لا يألف الأوغاد، وشيء لا يدرك إلا بنزع الروح، وغرض لا يصاب إلا بافتراش المدر، واستناد الحجر، ورد الضجر، وركوب الخطر، وإدمان السهر، واصطحاب السفر، وكثرة النظر، وإعمال الفكر، ثم هو معتاص على من زكا زرعه، وخلا ذرعه، وكرم أصله وفرعه، ووعى بصره وسمعه، وصفا ذهنه وطبعه، فكيف يناله من أنفق صباه على الفحشاء، وشغل سلوته بالغنى وخلوته بالغناء، وأفرغ جِدَّه على الكيس، وهزله على الكأس. والعلم ثمر لا يصلح إلا للغرس، ولا يغرس إلا في النفس، وصيد لا يقع إلا في البذر، ثم لا ينشب إلا في الصدر، وطائر لا يخدعه إلا قفص اللفظ، ثم لا يعقله إلا شَرَك الحفظ، وبحر لا يخوضه الملاح، ولا تطيقه الألواح، ولا تهيجه الرياح، وجبل لا يتسنم إلا بخطا الفكر، وسماء لا يصعد إليها إلا بمعراج الفهم، ونجم لا يلمس إلا بيد المجد.
أيكفي أن يصبح المرء بين الزق والعود، ويمسي موجبات الحدود، حتى يتم شبابه، وتشيب أترابه، ثم يلبس دَنيَّته، ليخلع دينيته، ويسوي طيلسانه ليحرف يده ولسانه، ويقصر سباله ليطيل حباله، ويبدي شقاشقه ليغطي مخارقه، ويبيض لحيته ليسود صحيفته، ويظهر روعه، ليخفي طمعه، ويغشي محرابه، ليملأ حرابه، ويكثر دعاءه، ليحشو وعاءه، ويرجو أن يخرج من بين هذه الأحوال عالمًا، ويقعد حاكمًا، هذا إذا المجد كالوه يقفزان. كلا حتى ينسى الشهوات، ويجوب الفلوات، ويعتضد المخابر، ويحتضن الدفاتر، وينتج الخواطر، ويحالف الأسفار، ويعتاد القفار، ويصل الليلة باليوم، ويعتاض السهر من النوم، ويحمل على الروح، ويجني على العين، وينفق من العيش، ويخزن في القلب، ولا يستريح من النظر إلا إلى التحديق، ولا من التحقيق إلا إلى التعليق. وحامل هذه الكلف إن أخطأه رائد التوفيق، فقد ضل سواء الطريق، وهذا الحيري رجلٌ سفلة طلب الرئاسة بغير تحصل آلاتها، وأعجله حصول الأمنية عن تمحل أدواتها:
فولي المظالم وهو لا يعرف أسرارها، وحمل الأمانة وهو لا يعرف مقدارها، والأمانة عند الفاسق، خفيفة المحمل على العاتق، تشفق منها الجبال، ويحملها الجهال، وقعد مقعد رسول الله ﷺ، بين كتاب الله يتلى، وحديث رسوله يروى، وبين البينة والدعوى، فقبحه الله من حاكم لا شاهد أعدل عنده من السلة والجام، يدلي بهما إلى الحكام. ولا مزكي أصدق لديه من الصُّفْر، ترقص على الظفر، ولا وثيقة أحب إليه من غمزات الخصوم، على الكيس المختوم، ولا وكيل أوقع بوفاقه من خبيئة الذيل، وحمَّال الليل، ولا كفيل أعزُّ عليه من المنديل والطبق، في وقتي الغسق والفلق، ولا حكومة أبغض إليه من حكومة المجلس، ولا خصومة أوحش لديه من خصومة المفلس، ثم الويل للفقير إذا ظُلم فما يغنيه موقف الحكم، إلا بالقتل من الظلم، ولا يجيره مجلس القضاء، إلا بالنار من الرمضاء.
وأنا أيضًا ما زال يرددني في هذا الباغي بأمل يرخيه ويشده، وطمع يرسله ويمده، حتى صار الباغ بأرضه ومائه، وزرعه وبنائه، في يد الهمذاني. أليس — أطال الله بقاء القاضي — يعامل مثلي بمثلها إلا سخي أو سخيف، أما السخي فالذي لا يبالي بما يئول إليه عقباه، ولا يوجعه الصفع على قفاه، والله المستعان والقاضي الفاضل المستجار، ولعن الله الحيري ووقتًا قطعته بذكره، وقرطاسًا دنسته باسمه، والحمد لله.
جفوة ونفار
وتناسيت أيامك إذ تكلمنا نزرًا، وتلحظنا شَزْرًا، وتجالس من حضر، ونسترق إليك النظر، ونهتز لكلامك، ونهش لسلامك:
أيام كنت تتمايل، والأعضاء تتزايل، وتتغانج، والأجساد تتفالج، وتتلفت، والأكباد تتفتت، وتخطر وترفل، والوجد يعلو بنا ويسفل، وتُدبر، وتُقبل، فتَمْنى وتخبُل، وتصد وتُعرض، فتُضني وتُمرض:
فاقصر الآن فإنه سوق كسد، ومتاع فسد، ودولة عرضت، وأيام انقضت:
فأما ما استأذنتَ رأيي فيه من الاختلاف إلى مجلسي فما أقل نشاطي لك وأضيق بساطي عنك، وأشبع قلبي منك، وأشد استغنائي عن حضورك، فإن حضرت فأنت كغاش نروض عليه الحلم، ونتعلم به الصبر، ونتكلف فيه الاحتمال ونغضي منه الجفن على قذى، ونطوي منه الصدر على أذى، ونجعله للعيون تأديبًا وللقلوب تأنيبًا.
(١-٤) من رسائل السب والشتم
شكوى وسعاية
ولقد نظرت في المرآة فوجدت الشيب يتلهث وينهب، والشباب يتأهب ويذهب، وما أسرج هذا الأشهب إلا لسير، وأسأل الله خاتمة خير، وأنا أرجو أن يكون ما نسبني إليه ولي النعمة — أدام الله علوه — من الظلم والعدوان مطايبة ومزاحًا، فإن كان اعتقادًا فلأمي الويل، وسال بي السيل. فأما الخراج وتوابعه فوالله ما أحوج عاملًا إلى اقتضائه، إنما الحديث في جزاف يطلب، ومحال يكتب. فأما حقوق الديوان أصلًا وفرعًا فلا يدعي العمال عليَّ باقيًا إلا غرمت للدرهم دينارًا، أمجنون أنا! وأما الشركاء فهم يفدونني بالأمهات والآباء. وقد سمع الشيخ الجليل كلامهم والذكرى تنفع المؤمنين.
ومما أطرف به المجلس العالي، زاده الله شرفًا، أنه كان في جيرتنا رجل يُكنى أبا الهول، كنا نسميه أسطوانة المسجد لكثرة صلاته، وكان له عم موسر لا عقب له، فرزق ولدًا على كبر السن. فحمل أبا الهول فرط غمه، أن زوى الله عنه ميراث عمه. على ترك الصلاة أصلًا، فكان لا يؤدي فرضًا ولا نفلًا، ولا يرد سلامًا، ولا يعمل في الخير عملًا …
وللشيخ الجليل في تأهيل العبد للجواب وزجر هذا الطويل عما يتعطاه رأيُهُ العالي إن شاء الله.
الوجه اللحيم
مجمع الرذائل
تعريض
سألت، أمتع الله بك عن الخوارزمي وشعره، وقلت إني لأجد فيه بيتًا لو رُئي في المنام لأوجب الغسل حسًّا، وبعده بيتًا إذا سرد ينقض الطهارة مسًّا، ولعمري إن هذين البيتين لو كانا تينتين ما نبتا في أرض، أو تمرتين ما جنيتا من غصن. فكذلك إذا كانا شعرين يبعد أن يصدرا عن صدر، أو يطبعا من طبع، أو يصبا على قالب قلب، أو يكونا نفسَي نَفْس، فقد يسمن الشاعر ثم يغث، ويجيد القائل ثم يرث، ولكن لا كما تراه في شعر أبي بكر. وما كنت لأكشف تلك الأسرار، وأهتك هذه الأستار، وأظهر منه العار والعوار، لولا ما بلغنا عنه من اعتراض علينا في ما أملينا، وتجهيز قدح علينا في ما روينا، من مقامات الإسكندري، من قوله إنا لا نحسن سواها، وإنا نقف عند منتهاها. ولو أنصف هذا الفاضل لراض طبعه على خمس مقامات، أو عشر مفتريات. ثم عرضها على الأسماع والضمائر، وأهداها إلى الأبصار والبصائر، فإن كانت تقبلها ولا تزجُّها، أو تأخذها ولا تمجُّها، كان يعترض علينا بالقدح، وعلى إملائنا بالجرح، أو يقصر سعيه ويتداركه وهنه، فيعلم أن من أملى من مقامات الكدية أربعمائة مقامة لا مناسبة بين المقامتين لا لفظًا ولا معنى، وهو لا يقدر منها على عشر، حقيق بكشف عيوبه. والسلام.
ساكن الإصطبل
قد بعث إليَّ الشيخ — أطال الله بقاءه — بأصل مال مجونه، وأصان إن شاء الله عن فروعه، فأما القسمة الواقعة لفلان فلو كان حماري لنفشت على بطنه التبن، ونقلت على ظهره اللبن. أفأؤدي عنه الغرامة، لا ولا كرامة، أنا والله لا أربط في الإصطبل، مثل ذلك الطبل، إني لأنفس بالعذار، على ذلك الحمار. مَنْ ذلك الثور حتى يحتمل منه الجور! الموت ولا هذا الصوت، والمنية، ولا هذه الدنية، والسلام.
(١-٥) من الرسائل الأهلية
إغراء
غَيْرِي خالُك
أنت ولدي ما دمتَ والعلمُ شأنُك، والمدرسةُ مكانُك، المحبرة حليفُك، والدفتر أليفُك، فإن قصَّرت ولا إخالك، فغَيْرِي خالك، والسلام.
فضيلة القصد
(٢) المقامات
(٢-١) من المقامات الأدبية
المقامات القريضية
فقلت: يا فاضل ادْنُ فقد مَنَّيت، وهاتِ فقد أثنيت. فدنا وقال: سلوني أجبكم، واسمعوا أعجبكم، فقلنا: ما تقول في امرئ القيس؟ قال: هو أول من وقف بالديار وعَرَصَاتها، واغتدى والطير في وُكُنَاتها، ووصف الخيل بصفاتها، ولم يَقُلِ الشعر كاسبًا، ولم يجد القول راغبًا، ففَضَلَ مَن تفتق للحيلة لسانه، وانتجع للرغبة بنانه.
قلنا: فما تقول في النابغة؟ قال: يثلِبُ إذا حَنِق، ويمدح إذا رغب، ويعتذر إذا رهب، ولا يرمي إلا صائبًا.
قلنا فما نقول في زهير؟ قال: يذيبُ الشعر والشعر يذيبُه، ويدعو القول والسحر يجيبه.
قلنا: فما تقول في طرفة؟ قال: هو ماء الأشعار وطينتها، وكنز القوافي ومدينتها، مات ولم تظهر أسرار دفائنه، ولم تفتح أغلاق خزائنه.
قلنا: فما تقول في جرير والفرزدق، وأيهما أسبق؟ فقال: جرير أرق شعرًا، وأغزرُ غزْرًا، والفرزدق أمتن صخرًا، وأكثر فخرًا، وجرير أوجع هجوًا، وأشرف يومًا. والفرزدق أكثر رَوْمًا، وأكرم قومًا، وجرير إذا نسب أشجى، وإذا ثلب أردى، وإذا مدح أسنى، والفرزدق إذا افتخر أجزى. وإذا احتقر أزرى، وإذا وصف أوفى.
قلنا: فما تقول في المحدَثين من الشعراء والمتقدمين منهم؟ قال: المتقدمون أشرف لفظًا، وأكثر من المعاني حظًّا، والمتأخرون ألطف صنعًا وأرق نسجًا.
قلنا: فلو أريت من أشعارك، ورويت لنا من أخبارك، قال: خذهما في معرض واحد، وقال:
المقامة الجاحظية
قال عيسى بن هشام: فارتاحت الجماعة إليه، وانثالت الصلات عليه، وقلت لما تآنسنا: من أين مطلع هذا البدر، فقال:
(٢-٢) من المقامات الفكاهية
المقامة المضيرية
وهذه الحلقة تراها؟ اشتريتها في سوق الطرائف من عمران الطرائقي بثلاثة دنانير معزية، وكم فيها يا سيدي من الشبه؟ فيها ستة أرطال، وهي تدور بلولب في الباب. بالله دورها، ثم انقرها وأبصرها، وبحياتي عليك لا اشتريت الحَلَق إلا منه فليس يبيع إلا الأعلاق.
أرسل الماء يا غلام، فقد حان وقت الطعام، بالله ترى هذا الماء ما أصفاه! أزرق كعين السنور، وصاف كقضيب البلور، استُقي من الفرات واستعمل بعد البيات، فجاء كلسان الشمعة، في صفاء الدمعة، وليس الشأن في السقاء، الشأن في الإناء، لا يدلك على نظافة أسبابه، أصدق من نظافة شرابه. وهذا المنديل! سلني عن قصته، فهو نسج جرجان، وعمل أرجان، وقع إليَّ فاشتريته، فاتخذت امرأتي بعضه سراويل، واتخذت بعضه منديلًا، ودخل في سراويلها عشرون ذراعًا، وانتزعت من يدها هذا القدر انتزاعًا، وأسلمته إلى المطرز حتى صنعه كما تراه وطرزه. ثم رددته من السوق، وخزنته في الصندوق، وادخرته للظراف، من الأضياف، لم تذله عرب العامة بأيديها، ولا النساء لمآقيها، فلكل علق يوم، ولكل آلة قوم.
تأمل بالله هذا الخوان، وانظر إلى عرض متنه، وخفة وزنه، وصلابة عوده وحسن شكله، فقلت: هذا الشكل، فمتى الأكل؟! فقال: الآن. عجل يا غلام، الطعام. لكن الخوان قوائمه منه.
وخرجت نحو الباب، وأسرعت في الذهاب، وجعلت أعدو وهو يتبعني ويصيح يا أبا الفتح! المضيرة. وظن الصبيان أن المضيرة لقب لي فصاحوا صياحه فرميت أحدهم بحجر، من فرط الضجر، فلقي رجلٌ الحجر بعمامته فغاص في هامته. فأخذت من النعال بما قدُم وحدُث، ومن الصفع بما طاب وخبث، وحشرت إلى الحبس، فأقمت عامين في ذلك النحس، فنذرت أن لا آكل مضيرة ما عشت. فهل أنا في ذا يا آل همدان ظالم؟!
قال عيسى بن هشام: فقبلنا عذره ونذرنا نذره، وقلنا: قديمًا جنت المضيرة على الأحرار، وقدمت الأراذل على الأخيار.
(٢-٣) من المقامات القصصية
المقامة البشرية
حدثنا عيسى بن هشام قال: كان بشر بن عوانة العبدي صعلوكًا فأغار على ركب فيهم امرأة جميلة فتزوج بها وقال: ما رأيت كاليوم! فقالت:
قال بشر: ويحك! مَن عنيت؟ فقالت: بنت عمتك فاطمة، فقال: أهي من الحسن بحيث وصفتِ. قالت: وأزيد وأكثر، فأنشأ يقول:
فقالت:
المقامة الأسدية
فقلنا: ما لك لا أبا لك! فقال: أنا عبد بعض الملوك همَّ من قتلي بهَمٍّ، فهمت على وجهي إلى حيث تراني. وشهدت شواهد حاله، على صدق مقاله، ثم قال: أنا اليوم عبدك، ومالي مالك، فقلت: بشرى لك وبك. أَدَّاك سيرك إلى فناءٍ رحب، وعيش رطب.
قال عيسى بن هشام: فقلت إن هذا الرجل هو الإسكندري الذي سمعت به، وسألت عنه فإذا هو فدلفت إليه، وقلت: احتكم حكمك، فقال: درهم، فقلت:
وقلت له: درهم في اثنين في ثلاثة في أربعة في خمسة حتى انتهيت إلى العشرين ثم قلت: كم معك؟ قال: عشرون رغيفًا، فأمرت له بها، وقلت: لا نصر مع الخذلان، ولا حيلة مع الحرمان.
(٢-٤) من مقامات الكدية
المقامات المكفوفية
قال عيسى بن هشام: فرق له والله قلبي، واغرورقت له عيني، فنلته دينارًا كان معي، فما لبث أن قال:
المقامة الفزارية
فقال: سِلْمًا أصبت، فقلت: خيرًا أجبت، فمن أنت؟ قال: نصيح إن شاورت، فصيح إن حاورت، ودون اسمي لثام، لا تميطه الأعلام.
فقلت: شحاذ ورب الكعبة أخَّاذ، له في الصنعة نفاذ، بل هو فيها أستاذ، ولا بد من أن ترشح له وتسح عليه.
فقلت: يا فتى، قد جليت عبارتك فأين شعرك من كلامك؟ فقال: وأين كلامي من شعري! ثم استمد غريزته، ورفع عقيرته بصوت ملأ الوادي وأنشأ يقول:
المقامة الوصية
يا بني، إني وإن وثقت بمتانة عقلك، وطهارة أصلك، فإني شفيق والشفيق سيئ الظن، ولست آمنًا عليك النفس وسلطانها، والشهوة وشيطانها فاستعن عليهما نهارك بالصوم، وليلك بالنوم، إنه لبوس ظهارته الجوع، وبطانته الجوع، وما لبسهما أسد إلا لانت سورته، أفهمتهما يا بن الخبيثة!
إنما التجارة تُنبط الماء من الحجارة، وبين الأكلة والأكلة ريح البحر، بيد أن لا خطر، والصين غير أن لا سفر. أفتتركه وهو معرض ثم تطلبه وهو معوز، أفهمتهما لا أم لك!
إنه المال عافاك الله فلا تنفقن إلا من الربح، وعليك بالخبز والملح، ولك في الخل والبصل رخصة ما لم تذمهما، ولم تجمع بينهما، واللحم لحمك وما أراك تأكله، والحلو طعام من لا يبالي على أي جنبيه يقع، والوجبات عيش الصالحين، والأكل على الجوع واقية الفوت، وعلى الشبع داعية الموت، ثم كن مع الناس كلاعب الشطرنج: خذ كل ما معهم واحفظ كل ما معك.
(٢-٥) من المقامات المدحية
المقامة الملوكية
المقامة النيسابورية
المقامة الخلفية
حدثنا عيسى بن هشام قال: لما وليت أحكام البصرة، وانحدرت إليها على الحضرة، صحبني في المركب شاب كأنه العافية في البدن، فقال: إني في أعطاف الأرض وأطرافها ضائع لكني أعَد مُعَدَّ ألفٍ، وأقوم مقام صف، وهل لك أن تتخذني صنيعة، ولا تطلب مني ذريعة، فقلت: وأي ذريعة آكد من فضلك، وأي وسيلة أعظم من عقلك، لا بل أخدمك خدمة الرقيق، وأشاركك في السعة والضيق. وسرنا، فلما وصلنا البصرة غاب عني أيامًا فضقت لغيبته ذرعًا، ولم أملك صبرًا، فأخذت أفتش جيوب البلد حتى وجدته، فقلت: ما الذي أنكرته ولم هجرت، فقال: إن الوحشة تقدح في الصدر اقتداح النار في الزند، فإن أطفئت نارت وتلاشت وإن عاشت طارت طاشت، والقطر إذا تتابع على الإناء امتلأ وفاض، والعتب إذا ترك فرخ وباض، والحُرُّ لا يعلقه شَرَك كالعطاء، ولا يطرده سوط كالجفاء، وعلى كل حال، ننظر من عال، على الكريم نظر إدلال، وعلى اللئيم نظر إذلال، فمن لقينا بأنف طويل، لقيناه بخرطوم فيل، ومن لحظنا بنظر شزر، بعناه بثمن نزر، وأنت لم تغرسني ليقلعني غلامك، ولا اشتريتني لتبيعني خدامك، والمرء من غلمانه، كالكتاب من عنوانه، فإن كان جفاؤهم شيئًا أمرت به فما الذي أوجب، وإن لم تكن علمت به كان أعجب، ثم قال:
قال عيسى بن هشام: ثم أعرض وتبعته أستعطفه وما زلت ألاطفه حتى انصرف، بعد أن حلف: لا أوردتُ من ساء عشرته، فوهبتُ له حرمته.
(٣) الديوان
(٣-١) من المديح
الملك السباق
قال يمدح أبا الحارث الفريغوني أمير جوزجان:
سيد الأمراء
وقال يمدح صاحب الجيش أبا علي:
ابن السماء
وقال يمدح الأمير العنبري:
أنا العبد
ومن قصيدة قالها في مدح الأمير أبي علي ابن ناصر الدولة:
بحر جواهر
وقال من قصيدة يمدح الأمير خلف بن أحمد:
يد الندى والنار
وله من قصيدة في خلف بن أحمد:
ابن خاقان
وقال يمدح يمين الدولة السلطان محمود بن سبكتكين:
(٣-٢) من الرثاء
حزن وندم
وقال يرثي الأستاذ أبا بكر الخوارزمي:
(٣-٣) من الاعتذار
مخلص الود
وقال قصيدة طويلة في الصاحب ابن عباد منها هذا الاستعتاب والاعتذار إليه:
(٣-٤) من الفخر
صولة النحيف
وقال يفتخر موطئًا لمدح الشيخ أبي نصر زيد: