علم الأحياء: من التحليل إلى التخليق
العيش في العصور المثيرة
علم الأحياء التخليقي هو العلم المَعْنِيُّ بتخليق أنظمةٍ حية جديدة على نحوٍ مخطَّط له، وهو مجالٌ علمي وتكنولوجي مطَّردُ النمو، يجذب الاهتمام أبعدَ من حدود المعامل بكثير، ويستثير نقاشًا محمومًا بين الجماهير. يرى بعض الاقتصاديِّين والوزراء وقادات الصناعة فيه إمكانيةً لإحداث نقلةٍ في الكفاءة الإنتاجية؛ فديفيد ويليتس، الوزير البريطاني لشئون الجامعات والعلوم، يقول: «علم الأحياء التخليقيُّ من أهم مجالات العلم الحديث الواعدة؛ ولهذا نَعدُّه أحدَ الأعمدة التكنولوجية الثمانية لبريطانيا في المستقبل. فعلم الأحياء التخليقي لديه القدرة على دفع الاقتصاد نحو النمو.» في حينِ ينظر إليه آخَرون نظرةً أكثر تشكُّكًا؛ حيث يصفه جوناثان كان، المتخصصُ في الجوانب القانونية للتكنولوجيا الحيوية، قائلًا: «هو أحدثُ المصطفِّين في طابور الأشياء التي تُعلَّق عليها آمالٌ عريضة … ويرتبط بمشاريعَ كبيرةٍ متعاقبة في مجال التكنولوجيا الحيوية … تلك المشاريع التي، حتى الآن، لم تكد تقتربُ من تحقيق المزاعم المُبالَغ فيها التي وعَد بها المروِّجون لها في البداية.» ويرى بعض المعلقين أنه حلٌّ ممكنٌ لنطاقٍ واسعٍ من المشكلات المتعلقة بالبيئة والطاقة؛ إذ تُعرب ريني تشو من معهد الأرض بجامعة كولومبيا عن آمالها، قائلةً: «قد تتمكن الابتكارات المبنيَّة على علم الأحياء التخليقي من حل أزمة الطاقة العالمية … [بالإضافة إلى] إعادة تأهيل البيئة بتنقية المياه والتربة والهواء.» لكن هناك آخَرين أبعدُ ما يكونون عن الاقتناع بذلك؛ فجيم توماس من مجموعة إي تي سي للعمل على ملفات التعرية والتكنولوجيا وتكتُّل الشركات يُحذر قائلًا: «علم الأحياء التخليقي مجالٌ خطورته عالية، وتُحرِّكه دوافعُ تحقيق الأرباح، حيث نُشكِّل كائنات حية من أجزاءٍ فَهْمُنا لها محدود. ما نعرفه أن أشكال الحياة التي نُخلِّقها معمليًّا قد تتسرَّب … وأنَّ استخدامها يُهدد التنوُّع البيولوجي الطبيعي القائم.» ويراه الهواةُ فرصةً للنبش والاستكشاف في ورش العمل المحلية أو في سَقيفة منزلهم؛ إما بغرَض اللهو، أو سعيًا وراء ربحٍ محتمل. يرى بعض المراقبين هذه الأنشطةَ أمرًا حميدًا جدًّا: فكتَب تود كيوكن في إحدى افتتاحيات مجلة «ذا ساينتيست» مُعلقًا: «المواطنون العلماء يُكرسون أنفسهم للتعليم والابتكار وحلِّ المشكلات، مستعينين بنموذجٍ جديد من البحث العلمي لإشباع الروح الإنسانية المفعَمة بالفضول والتوق إلى الاستكشاف.» في حينِ يرى آخَرون أن ثمة حاجةً ماسة لوضع ضوابطَ لمثلِ هذه الأنشطة؛ فجورج تشيرش، وهو عالمٌ بارز في علم الوراثة، يقول: «لا بد أن يحصل أيُّ شخص يُمارس علم الأحياء التخليقي على ترخيصٍ لذلك، وفي ذلك الهواة. تمامًا كالسيارات، ألا تتَّفق مع ذلك؟ إذا كنتَ سائقَ سيارةٍ هاويًا فلا بد أن تحصل على رخصة قيادة.»
يُذْكي المُغالون من كِلا الطرفَين الجدالَ بمزيد من الحُجج. فالتقنيات الجديدة غالبًا ما تستثير ردودَ أفعال متطرِّفة، خصوصًا عندما نُفكر فيها على نحوٍ منفصل، أو عندما تُقدَّم للجمهور، خطأً، على أنها شيء مستحدَث تمامًا غير متصل بشبكة العلوم التقليدية الكبيرة التي انبثقَت من داخلها. الهدف من هذه المقدمة القصيرة جدًّا هو تقديم تصوُّر عام عن علم الأحياء التخليقي في سياقه الحقيقي، بأكبر قدر ممكن من الاتِّزان. ولا نية للترويج له على أنه تكنولوجيا، ولا لإقامة الدليل على ضرورة كَبحِه. وإنما الهدف هو وصف علم الأحياء التخليقي وتوضيحُ نطاقه، بالإضافة إلى الإشارة إلى نقاط تماسِّه الحاليَّة والمحتمَلة مع المجتمع ككلٍّ.
يُعرَّف علم الأحياء التخليقي بطرقٍ شتى في سياقاتٍ شتى، لكن التعريف الأعم نصل إليه بتقسيم علم الأحياء ككلٍّ إلى فرعَين؛ الأول تحليلي والآخَر تخليقي. يهتمُّ علم الأحياء التحليلي، الذي يكاد يكون الشكلَ الأوحد لعلم الأحياء في معظم التاريخ العلمي، بفهم الكيفيَّة التي تعمل بها الكائناتُ الحية التي تطورت طبيعيًّا. في المقابل، يهتمُّ علم الأحياء التخليقي بتخليق أنظمة حية جديدة على نحوٍ مقصود ومُخطَّط له. ولا يعتمد هذا التعريفُ على الآليات المستخدَمة. فهو لا يستلزم مثلًا التلاعب بالمادة الوراثية؛ بل إن أبحاث تخليق الأنظمة الحية، التي سنراها لاحقًا في الكتاب، لا تُعنى بالجينات إلا قليلًا. وبتعريف علم الأحياء التخليقي بهذه الطريقة، نرى أنه يمتدُّ بدايةً من التعديل في الكائنات الموجودة فعلًا، بهدف القيام بأشياء جديدةٍ كُليَّةً، وهو أمرٌ صار بالفعل روتينيًّا على الأقل على نطاقٍ ضيق، وحتى تخليق كائنٍ حي من مكوناتٍ غير حية، وهو ما لم يتحقَّق لنا حتى الآن. المجال شاسع، ويرجع ذلك في جزءٍ منه إلى طريقتنا في تعريفه، وفي جزءٍ آخرَ إلى أنه تطوَّر من أصلَين تاريخيَّين مختلفَين ومنفصلَين: أحدُهما موجَّه فكريًّا ويتوغل في عمق الفلسفة الطبيعية للقرن التاسع عشر، والآخر موجَّه عَمليًّا بدرجةٍ أكبر وينبثق من التكنولوجيا الحيوية التي ظهرَت في أواخر القرن العشرين.
الأصل الأول لعلم الأحياء التخليقي
أحدُ أعمق التساؤلات البيولوجية التي طرَحها الفلاسفة والعلماء هو إذا ما كان يمكن تفسير الحياة بالكامل من خلال القوانين الطبيعية للفيزياء والكيمياء. وشهد القرنان التاسع عشر والعشرون نقاشًا محمومًا بين القائلين بالمذهب المادي، الذين لا يرَون الحياة إلا كيمياء وفيزياء مُرتَّبتَين في اتساقٍ فاتنٍ، والقائلين بالمذهب الحيوي، الذين يرون أن الأنظمة الحية تحتاج إلى شيءٍ إضافي، أو ما يمكن تسميته «الدَّفعة الحيوية». ورغم أن هذا الاتجاه صار الآن كثيرًا ما يُستبعد تحت دعوى الدوجمائية واللاعقلانية، فإن أنصار المذهب الحيوي حينها كانوا يُقدِّمون أدلةً عِلميةً قويةً، تمامًا كما يفعل أنصار المادية. إحدى أشهر تجارِب علم الأحياء في القرن التاسع عشر كانت تجارِب باستير، التي أظهرَت أنك لو أحكمتَ الغلق على حساءٍ مغذٍ معقَّم فإنه يظل مُعقمًا، أما لو ناله قدرٌ بسيطٌ جدًّا من الكائنات الدقيقة، فإنها ستتضاعف منتجةً قدرًا أكبر كثيرًا. يُثبت تكاثرُ الكائنات الدقيقة التي دخلَت الحساء أن الحساء يحتوي على الموادِّ الخام اللازمة لإنتاج خلايا حية، لكن ضرورة «تطعيمها» ببعض الكائنات الحية تُظهِر أن مجرد وجود المواد الخام ليس كافيًا لتنبثقَ منه الحياة: ما زال شيءٌ آخر ناقصًا، شيء لا نجده إلا في كائنٍ حي بالفعل. بالنسبة إلى القائلين بالمذهب الحيوي، فهذا الشيء هو «الدَّفعة الحيوية». أما بالنسبة إلى القائلين بالمادية، فهو آليةُ تنظيم تُمكِّن الخلية من إنتاج نُسخ من نفسها؛ آلية تنظيم كانت غيرَ موجودة في حساء المكونات الكيميائية البسيطة هذا. كِلا التفسيرَين يتوافق مع البيانات التي لدينا، والتحيُّز إلى أحد الموقفَين هو مسألةُ قناعة أكثرَ منها مسألةَ دليلٍ علمي.
يوجد نهجان مختلفان تمامًا في حَسم مسألة المذهب الحيوي؛ هما النهج التحليلي والنهج التخليقي. يستهدف النهجُ التحليلي الوصولَ إلى فهمٍ فيزيوكيميائي ميكانيكي بالكامل لكيفية عمل الكائنات الحية. كانت هذه المنهجية دومًا محطَّ تركيز التيار الغالب في علم الأحياء؛ وذلك إشباعًا للفضول العلمي، ولأن تحليل العمليات الحية كان ضروريًّا في حلِّ كثير من المشكلات العملية في الطب والزراعة. من أبرز إنجازات النهج التحليلي في القرنَين الماضيين نَشْر مِندل لنظريته في الوراثة في خمسينيَّات القرن التاسع عشر، واكتشاف فريدريش ميشر للدي إن إيه في ستينيَّات القرن التاسع عشر، وشرح تيودور بوفيري لعمليتَي نسخ وتشارك الكروموسومات خلال الانقسام الخلوي في سبعينيَّات القرن نفسه، وإثبات كلٍّ من تيودور بوفيري ووالتر ساتون عام ١٩٠٢ أن الجينات يرتبط كلٌّ منها بكروموسومٍ معين، وإثبات أوزوالد إفري عام ١٩٤٤ أن الجينات يمكن تحديدها باستخدام الدي إن إيه الموجودِ في الكروموسومات، وطرح جيمس واتسون وفرانسيس كريك عام ١٩٥٣ أن هيكل الدي إن إيه يأخذ شكل لولب مزدوج؛ مما يسمح له بأن يعمل قالبًا لاستنساخ نفسه. في العقود القليلة الماضية، أسهم عددٌ ضخم من الباحثين في معرفةِ كيف تُوجِّه الجيناتُ عملية تخليق البروتينات، وكيف أن بعض البروتينات تتحكَّم بدورها في أنشطة الجينات والتفاعلات الأيضيَّة، وكيف تعمل الآلات الجزيئية في الخلايا لفصل الكروموسومات بعضها عن بعض؛ ومن ثَم تتسبَّب في انقسام الخلايا لتُنتج خليتَين وليدتَين.
أعطى هذا النهجُ التحليلي القائلين بالماديَّة مَقدرةً أكبر بكثيرٍ على شرح الأساس الفيزيوكيميائي للكثير من جوانب السلوك الخلوي. ومع ذلك، لم يُقدم لهم وسيلة في حد ذاته لدحض دعوى المذهب الحيوي، إلا بالاستقراء. الدليل الاستقرائي، الذي ليس «دليلًا» بالمعنى الحرفيِّ أصلًا، هو حجرُ أساسٍ للعلوم. وهو يقوم على افتراض أنه طالما أن نمطًا ما يتكرر في حالاتٍ معينة كثيرة جدًّا، فينبغي أن يكون صحيحًا في العموم. فبما أننا نعلم أن البشر والكلاب والقطط والخفافيش والأفيال ومئات الثدييَّات الأخرى قلوبُها تنقسم إلى أربع حجرات، يمكننا أن نقول بثقةٍ إن القلب ذا الحجرات الأربع سمةٌ تُميِّز الثدييات، برغم أننا لم نُشرِّح — أو ربما لم نكتشف حتى — جميع أنواع الثدييات. والاستقراء متغلغلٌ في الممارسة العِلمية، لكنه خطر. فالبشر والكلاب والقطط والخفافيش والأفيال والذباب والديدان الشَّريطية والكثير من الحيوانات الأخرى تعتمد على جزيئات الهيموجلوبين الحاملة للحديد في نقل الأكسجين إلى جميع أنحاء أجسامها بالفعل، مما يجعلنا نستقرئ «قاعدةً» مؤدَّاها أن هذه هي طريقة نقل الأكسجين على وجه العموم. لكن لسوء حظِّ الاستقراء، اكتشفنا أن الحيوان البحري الذي يُدعَى سرطان حدوة الحصان يستخدم جزيئات الهيموسيانين الحاملة للنُّحاس بدلًا من ذلك. تُذكِّرنا أمثلةٌ كهذه بأن قدرة المفاهيم الفيزيوكيميائية على تفسير جوانبَ شتى من الحياة الخلوية، لا تجعلنا نأخذها مأخذَ البرهان المنطقي على أنه لا يوجد استثناءات لهذه القاعدة تستلزم التفسيرَ الحيوي. ولذا فالنهج التحليلي لا يمكنه دحضُ المذهب الحيوي إلا عندما يمكن تفسيرِ كلِّ جوانب الحياة بلا استثناء، وفيها الوعي مثلًا. ولذا يبدو أنه سيَطول بنا الانتظار.
أما النهج التخليقي البديل للفصل في الجدل المحتدِم حول المذهب الحيوي، فيهدف إلى حسم التحدِّي الذي بدَأه لوي باستير مباشرةً: إذا كان بإمكاننا تخليقُ حياةٍ اصطناعيًّا من مكوناتٍ غير حية، فلن تكون لنا حاجةٌ إلى «دفعةٍ حيوية»، وسيكون التفسير الماديُّ قد أُثبِت. وقد أسهَمت النُّهج الكيميائية التخليقية بالفعل إسهامًا قيِّمًا في هذا الصدد. ففي عام ١٨٢٨، نجح فريدريش فولر في تصنيع جُزيء اليوريا، من مركَّباتٍ أولية غير عضوية، ولم يكن اليوريا معهودًا حينها إلا في سياق الكائنات الحية. ورغم أن عمله لم يكن تأثُّرًا بالجدال حول المذهب الحيوي على ما يبدو، فعملية التصنيع هذه وحَّدَت كيمياء الكائنات الحية مع تلك الخاصة بالعالم غير العضوي، ودعمت أصحاب النزعة المادية. ولذا نرى أن توسيع أفق الأبحاث الجديدة من التخليق الكيميائي إلى التخليق البيولوجي كان الخطوةَ المنطقية التالية.
بلغ تأثير علماء علم الأحياء التخليقي الأوائل على الفكر العقلاني في وقتهم مدًى بعيدًا، أبعدَ مما قد نتوقَّعه من أعمالهم ذاتِ الطبيعة المتخصصة. فالمُفكر الماركسي الجدلي فريدريش إنجلز، على سبيل المثال، تحدَّث عن حويصلات تراوبي في الفصل الثامن من أُطروحته «ثورة السيد أوجين دورنج في العلوم». وكرَّس الرِّوائي توماس مان الحائزُ على جائزة نوبل عدةَ صفحات في أحد الفصول الأولى في روايته الرمزية «دكتور فاوستوس» لوصف بعض أشكال المحاكاة الحيوية التي درَسها العلماء قُرب نهايات القرن العشرين على لسانِ والد بطل الرواية. بعض هذه الأنظمة تُشبه كثيرًا تلك التي أنشأها ليدوك، وتشتمل على مكوناتٍ غير عضوية تنمو مثل النباتات في أوعيةٍ زجاجية، حتى إن بعضها أبدى ميلًا نحو الضوء. أحدها هو «القطرة المُلتهِمة»، للزيت في الماء والتي إذا قدَّمنا لها خيطًا زجاجيًّا رفيعًا مطليًّا بصمغ الشيلَّاك فإنها تُغير شكلها لتلتهم هذا الخيط، ثم تقشر عنه الطلاءَ وتبتلعه، وتلفظ البقايا. وقد أجاد توماس مان وصف هذا النظام تفصيلًا في روايته حتى إنه من السهل إعادةُ إنشائه، وكثيرًا ما أعدُّه وأعرضه أمام الطلاب الجامعيِّين لأشاكسهم. يستخدم توماس مان الشدَّ والجذب بين المذهبَين الحيوي والمادي ليُرسيَ أساسًا للإشكالات اللاحقة بين التفسيرَين الديني والعقلاني للأخلاق، والعبقرية، والجنون، والسبب والنتيجة.
كان علماء علم الأحياء التخليقي الأوائل يأمُلون في أن يستخدموا المحاكاة الحيوية في إقناع المتخصِّصين في علم الأحياء التحليلي — وخصوصًا علماء الأجنَّة؛ لأن علم الأجنة كان دومًا القلعةَ العُظمى لأنصار المذهب الحيوي — بأن يبحثوا عن الآليات المادية التي يرتكز عليها علمُهم. وكثيرًا ما كان هذا يُقابَل بسوء الفَهم أو حتى بالسخرية، فالمحاكاة الحيوية كانت تُرى بعيدةً عن سياق عملهم. في الوقت نفسِه، ظهر تطوُّران متنافسان يُبشران ﺑ «آلية»، لكنها آليةٌ من نوعٍ مختلف. الأول هو علم الوراثة، الذي رسَّخ عندنا منذ العقد الأول في القرن العشرين الارتباطَ بين الطفرات في الجينات الوراثية وتغيرات خلقيَّة معيَّنة في الكائنات مثل ذبابة الفاكهة. والثاني اكتشاف الحثِّ الجنيني في عشرينيَّات القرن العشرين، ويُقصَد به أن يُرسِلَ جزءٌ من الجنين إشاراتٍ إلى جزء آخَر ليستحثَّ فيه عمليةً نمائية معيَّنة. هذان التطوران سمَحا لعلماء الأجنَّة بأن يتَّخذوا منهجًا آليًّا مختلفًا نوعًا ما، ليس آليًّا بالكامل كما في الفيزياء مثلًا، لكنه آليٌّ كما في «الصندوق الأسود» حيث «أ يتسبَّب في ب، الذي بدوره يتسبَّب في ج»، آمِلين أنه يومًا ما ربما يُمكن اختزال الحروف والمسارات السببية إلى الفيزياء والكيمياء. وفي النصف الثاني من القرن العشرين، بدأ عصرُ علم الأحياء الجزيئي يقترب من تحقيق هذا الأمل. فالجينات الوراثية اختُزِلَت إلى عواملَ كيميائية، وبدأَت مسارات السببية الواضحة، التي نفهمها بقدرٍ لا بأس به على المستوى الجزيئي، تربط الجينات بالبروتينات. وبدأ التعبير عن منطق علم الأحياء، لا في صورة معادلات فيزيائية، بل في صورة سلاسلَ من الأسماء تُعبر عن كيانات مثل الجزيئات أو الخلايا، وأسهم تُمثل العمليات التي بينها.
كانت بدايات ازدهار علم الأحياء التخليقي قبل الحرب العالمية الأولى تعتمد على أنظمة المحاكاة الحيوية التي تكاد تكون لم توضع إلا لأغراضٍ بحثية أكاديمية، لكنها لم تنجح في إحداثِ تحويل في المسار العام لعلم الأحياء؛ لكن أجندتها لم تُنسَ مطلقًا. فاستمرَّت أعدادٌ ضئيلة من الباحثين ممن لديهم خلفيةٌ في الكيمياء وعلم الأحياء في العمل لوضع أنظمة محاكاة حيوية مطوَّرة وبإمكانياتٍ أكبر، مستهدفين أن يصلوا يومًا ما إلى وضع أنظمةٍ حية تمامًا لكن من مكوناتٍ غير حية. عمل بعض العلماء، ممن كان لديهم شغفٌ شديد بسؤالِ أصل الحياة، على حلِّ معضلة كيفية نشأة الجزيئات العضوية المعقَّدة القادرة على تكوين كائنٍ حي ابتداءً. كانت إحدى التَّجارِب المحورية في هذا الصدد هي تجرِبة هارولد يوري وستانلي ميلر في خمسينيَّات القرن العشرين، التي أظهرَت أنه عند محاكاة بيئة الأرض البدائية تكونَت بعض الجزيئات المعقَّدة — وفيها الأحماض الأمينية — تلقائيًّا من سلائفَ بسيطة. عمل علماءُ آخَرون على معضلات التنظيم؛ ففي الخمسينيَّات، كتب بوريس بافلوفيتش بيلوسوف عن نظامٍ كيميائي يُنتج تلقائيًّا أنماطًا معقدةً في المكان والزمان، وفي التسعينيَّات، تمكَّن جونتر فيشتسهويزر وزملاؤه من وصف الكيفية التي تنتظم بها دوراتٌ أيضيَّة معقَّدة على سطح معدِن البيريت. في حين اعتبَر آخرون وجودَ الجزيئات العضوية الضخمة أمرًا مُسَلَّمًا به وعملوا على مسألة التكاثر؛ فمنذ الثمانينيَّات ومعمل بيير لويسي ينجح في إنتاج منظوماتٍ متنوعة من أشكال كروية بسيطة محاطة بأغشية تلتهم سلائفها الجزيئية، فتكبر وتتكاثر. معظم هذا الجهد أُنجِز بدافعٍ من اثنين، وكلاهما قريبٌ ممَّا سعى إليه ليدوك. الدافع الأول هو فهم أصل الحياة. بَيد أن الثانيَ هو الرغبة في حسم تحدِّي باستير لصالحهم، ودحضُ المذهب الحيوي، لا بالاستقراء وإنما ببرهانٍ حقيقي.
أسس التكنولوجيا الحيوية
ربما يكون ازدهار علم الوراثة وعلم الأحياء الجزيئي في القرن العشرين قد اجتذب المتخصصين في علم الأحياء بعيدًا عن أولويات الاهتمام بالمحاكاة الحيوية وتخليق الحياة معمليًّا، لكنه في المقابل أسهَم إسهامًا جوهريًّا في تطوير النوع الآخر من علم الأحياء التخليقي: ألا وهو إضفاء سمات وخصائص جديدة على الكائنات الحية الموجودة بالفعل. وقد أثَّرَت الثورة الجزيئية في تطوير علم الأحياء التخليقي تأثيرًا بالغًا من طريقَين: الفكري والعملي. فقد منحَ علم الأحياء الجزيئي علماء الأحياء فهمًا ميكانيكيًّا للتفاصيل الداخلية لطريقة عمل الخلايا، وهذا ضروريٌّ للغاية لخوض تحدِّي تصميم أنظمة خلوية جديدة تعمل جنبًا إلى جنب مع أنظمة الخلايا الحية. لهذه الأنظمة الخلوية الجديدة نطاقٌ واسع من التطبيقات العمَلية في البيئة والطب والهندسة والكيمياء، كما سنتناول لاحقًا في الكتاب.
من أعظم مكتشَفات القرن العشرين في علم الأحياء، والذي توصلنا إليه بتراكُم جهودِ آلاف الباحثين عبر عدة عقود، أن أغلب مناحي الخلايا الحية، سواءٌ فيما يخصُّ البِنْية أو الكيمياء أو السلوك، تعتمد اعتمادًا مباشرًا على نشاط البروتينات. والبروتينات تتكوَّن من مجموعةِ أحماض أمينية متصلة معًا ﺑ (البلمرة) في سلسلةٍ غير متفرِّعة؛ بحيث تحمل أغلبُ الكائنات الحية عشرين نوعًا من الأحماض الأمينية، وكلُّ بروتين يتكوَّن من مجموعةٍ متنوعة من الأحماض الأمينية المتصلة معًا بترتيبٍ معين خاص بهذا البروتين. وتطوي سلسلة الأحماض الأمينية هذه نفسَها مكونةً بِنيةً ثلاثية الأبعاد يتحكَّم فيها تسلسلُ الأحماض الأمينية، كما قد تتحكم فيها أحيانًا تفاعلاتٌ مع الأنواع الأخرى من البروتينات الموجودة. ويتحدَّد النشاط الكيميائي للبروتين حسب شكل بِنيته ثلاثية الأبعاد والطبيعة الكيميائية للأحماض الأمينية المكوِّنة له. وتُصنِّع أجسامُ الكائنات الحية شتى أنواع البروتينات؛ فجسم الإنسان مثلًا يُصَنِّع نحو ١٠٠ ألف نوع من البروتينات (في الحقيقة يتوقَّف العدد على الكيفية التي تختار بها أن تعدَّها). بعض البروتينات خاملة لكنها تُسهِم في تشييدِ تراكيبَ ضخمة؛ منها مثلًا بروتينات الكيراتين ودورها في بناء الشعر والأظفار. لكن البعض الآخر نشطٌ كيميائيًّا، ويؤدي دور الإنزيمات التي تُحفِّز التفاعلات البيوكيميائية. بعض هذه التفاعلات تفاعلاتٌ أيضية، مثل التفاعلات المسئولة عن تكسير جزيئات الطعام للحصول على الطاقة منها، أو التفاعلات التي تُصنِّع الأحماض الأمينية لتكوين بروتينات جديدة. وبعض التفاعلات الأخرى تُجري تعديلاتٍ كيميائيةً على البروتينات، فتُغيِّر من نشاطها. بهذه الطريقة، يمكن لإنزيمٍ ما أن يُغير نشاط إنزيمات أو بروتينات بنائية أخرى، وهذا الإنزيم نفسُه قد يخضع لتحكُّمٍ مُشابه من إنزيمٍ آخر. ولذا فعشرات آلاف البروتينات الموجودة في خليةٍ ما تُكوِّن شبكةً تنظيمية وتنسيقية هائلة من التنظيم والتحكم المتبادَل بين البروتينات. وقد يتغير نشاطُ بعض البروتينات عند ارتباطها بجزيئات صغيرة معينة أيضًا، مثل السكريات أو أيونات المعادن أو المخلفات الخلوية؛ لذا تكتسب هذه الشبكةُ التنسيقية داخل الخلايا قدرةً على الاستشعار والاستجابة لمؤثِّرات بيئتها. هذه «البيئة» قد تشمل الخلايا الأخرى، وهذه الخلايا بإمكانها التواصلُ فيما بينها مستخدمةً جزيئاتٍ صغيرةً أو بروتينات تخرج منها. قد يكون هذا التواصل لصالح كِلتا الخليتَين، كما يحدث عند التعاون بينهما لبناء الجسم، وقد يكون «غير مُتعمَّد» من جانب إحدى الخليتَين لكنه مفيدٌ للخلية الأخرى، كما يحدث عندما ترصد الأميبا مُخرجات الخلايا البكتيرية، فتتحرك نحوها لتلتهمَها.
كان اكتشاف أن الخلايا تستخدم الدي إن إيه لتخزين المعلومات اللازمة للتحكُّم في عملية تصنيع البروتينات علامةً فارقةً في تطوير مجال التكنولوجيا الحيوية الحديث. تهتم الخلايا بالدي إن إيه الخاص بها لكونه أرشيفَها الدائم وتتفانى في استنساخه بمنتهى الدقة عندما تنقسم، ليصبح لكلٍّ من الخليتين الوليدتين نسخةٌ كاملة من هذا الأرشيف. تُشكِّل فكرة أن نصنع دي إن إيه لتستخدمَه الخلايا لتخليقِ البروتينات، بدلًا من تصنيع البروتينات مباشرةً، فارقًا هائلًا في مشاريع التكنولوجيا الحيوية؛ حيث تؤثِّر على مدى قابليةِ هذه المشاريع للتطبيق وجَدْواها الاقتصادية. يمكن توضيح هذا من خلال مصطلحَين أطلقهما نسيم نيقولا طالب، حيث يُقسِّم العالَم الاقتصادي في كتابه «البجعة السوداء» إلى قسمين: وهدائستان وغلوائستان. في اقتصاد وهدائستان، نرى صلةً وثيقة بين الجهد الذي تبذله في مشروعٍ ما وعائدِه المادي، فمثلًا يكسب الحدَّادُ أجرًا أعلى عندما يصنع حدوات أحصنة أكثر، ويكسب الجرَّاح مالًا أكثرَ عندما يُعالج مَرْضى أكثر، وهكذا. أما في غلوائستان، فتنكسر الصلة بين مقدارِ عملك ورِبحك المحتمل منه؛ لأن بعض المشاريع الشاقَّة إذا أُنجِزَت مرةً يسهل استنساخها مراتٍ أخرى؛ لذا لا علاقةَ مباشرة بين الجهد المبذول لصُنعها أولَ مرة وبين الجهد اللازم للحصول على نسخٍ كثيرة منها. فمثلًا تتبُّع الروايات، والتسجيلات الموسيقية، والبرمجيَّات اقتصاد غلوائستان. صنع البروتينات مباشرةً يتبع اقتصاد وهدائستان، حيث يحتاج تركيب ١٠٠ جرام من البروتين إلى ١٠٠ ضِعفِ الجهد اللازم لتركيبِ جرام واحد. أما صُنع البروتينات من طريقٍ غير مباشر، بواسطة دي إن إيه، فيفتح لنا أبوابَ غلوائستان؛ فنظريًّا على الأقل، ما دُمنا نجحنا في صُنع جُزيء دي إن إيه واحدٍ حتى فيُمكننا أن نضَعه داخل خليةٍ حية فيتضاعف عددُ نُسخِه إلى ما لا نهاية مع تضاعُف الخلايا، ما دُمنا نُغذي هذا المستنبت الخلوي باستمرار، وكلٌّ من هذه الخلايا بإمكانها أن تُصنِّع لنا البروتين المنشود.
بَدءًا من السبعينيَّات، تطوَّرَت ببطءٍ قدرةُ التقنيين على بناء دي إن إيه حسَب الطلب وتسخير الخلايا لتستخدمه لتصنيع بروتينات معيَّنة، قبل حتى أن يُصبح بإمكاننا قراءة تسلسلات الدي إن إيه. في البداية، كانت هندسة الدي إن إيه تتم باتباع إحدى طريقتين: إما تخليق الجين مباشرةً، أو قصُّ ولصق أجزاءٍ من دي إن إيه بكتيريا طبيعية لتخليق تركيباتٍ جديدة من الجينات. كان معمل يامادا أولَ من نجح في تخليقِ جين عام ١٩٧٠، حيث صنَعوا نسخةً اصطناعية من أحد جينات الخميرة. ونشَر معمل بول بيرج في العام نفسِه آليةً لقصِّ أجزاء دي إن إيه طبيعي وتغيير ترتيبها، وفي عام ١٩٧٣ نجح معمل ستانلي كوهين في إدماج هذا الدي إن إيه الهجين في خلايا بكتيريا حية، والتي بدأَت بدورها استخدامَه في تصنيع بروتينٍ فعَّال من الجين المُدخَل. وشهد عام ١٩٧٧ تقدمًا حاسمًا في تقنيات هندسة الدي إن إيه بابتكارِ طريقتين مختلفتين لقراءةِ تسلسل القواعد على امتدادِ جزيء دي إن إيه؛ إحداهما من اكتشاف والتر جيلبرت، والأخرى من اكتشاف فريد سانجر (وهو نفسُه أول من تمكَّن من قراءة تسلسل بروتين عام ١٩٥١). ولعبت القدرةُ على قراءة تسلسل قواعد دي إن إيه دورًا أساسيًّا في تحليل العلاقة بين التسلسل الجيني ووظيفته؛ بل هي أسهلُ بكثيرٍ من قراءة البروتين نفسه، لدرجة أننا حاليًّا لتعيين تسلسل البروتين غالبًا ما نتَّجه لقراءة الجين المقابل له، لا البروتين نفسه. فقراءة تسلسل دي إن إيه يمكن الآن أن تُكلف أقلَّ من بنس للقاعدة، ويمكن تصنيعه حسَب الطلب مقابل نحو ٢٠ بنسًا للقاعدة؛ أي إن جينًا كاملًا قد يُكلف ١٠٠ جنيه إسترليني في المتوسط في عملية تستغرق بضع ساعات فقط. وبذلك صارت هذه التكنولوجيا رخيصةً بما يكفي لتُتيح لنا عملَ مشاريع ضخمة شديدة التعقيد.
عصر هندسة الجين الواحد
حتى قبل ظهور تقنيات تعيين تسلسُلات الدي إن إيه، صار واضحًا للباحثين أن تقنيات تصنيع وتهجين دي إن إيه ستُتيح أمامهم فرصًا عظيمةً في عالم التكنولوجيا الحيوية. فمنذ عام ١٩٦١ أتى عالما علم الأحياء الجزيئي الفرَنسيَّان الرائدان فرانسوا جايكوب وجاك مونو بفرَضيَّةٍ مفادها أن عوامل التنظيم الجيني قد يُمكن نظريًّا أن تؤلَّف منها أنظمة معقَّدة للتحكم في تفعيل الجينات حسَب الرغبة. وكتب فاتسواف شيبالسكي عام ١٩٧٤ في مقال ينم عن بُعد نظرٍ حول هذه الفكرة في سياق الحديث عن التطورات التقنية الحديثة لتهجين وتخليق الدي إن إيه، فتطلع إلى أبعد مما كان يهدف له علم الأحياء التحليلي حينه؛ إلى عصرٍ جديد ندخل فيه ما سماه «المرحلة التخليقية». فكتب عن هندسةِ أنظمةٍ جديدة للتحكم في الجينات، وعن استخدامها على أحد الجينومات الموجودة بالفعل أو حتى في بناء جينوم جديد اصطناعي بالكامل، وسمَّى هذا المجال صراحةً «علم الأحياء التخليقي»، وقد استخدم المصطلح مجددًا في مقالٍ شهير له في دورية «جين» عام ١٩٧٨. وبينما كنتُ أكتب هذا الفصلَ سألت شيبالسكي عمَّا إذا كان قد صكَّ مصطلح «علم الأحياء التخليقي» بنفسه أم كان يُشير عن عمدٍ إلى كتاب ليدوك «علم الأحياء التخليقي»، فقال إنه لم يكن قد سمع بأعمال ليدوك وقتَها. لذا فمن المنطقي أن نقول إن المجال بصورته الحالية المركبة قام على أساسَين منفصلَين.
كان شيبالسكي بعيد النظر، لكن ظل هنالك عمل كثير ضروري قبل أن يصير من الممكن أن تصبح رؤيته لعلم الأحياء التخليقي حقيقة واقعة. فالتطبيقات العملية الأولى للتطورات في علم الأحياء الجزيئي كانت أبسط بكثير من ذلك، وتمحورَت في العموم حول إدخال جين واحد جديد إلى كائن حي مضيف؛ ليُنتج لنا منتجًا نريده. من الأمثلة المبكِّرة لتطبيقات الهندسة الوراثية المهمة في الطب إنتاج البكتيريا للهرمونين البشريَّين السوماتوستاتين والإنسولين، عامَي ١٩٧٦ و١٩٧٩ على الترتيب. كِلا الهرمونين عبارة عن سلسلة قصيرة من الأحماض الأمينية، شفرتها محمولة في جين معيَّن، وهو نفسه تقريبًا ما يحدث مع البروتينات الأكبر. نقَل الباحثون نُسَخًا من هذا الجين البشري إلى البكتيريا في موضعٍ يخضع لتسلسل دي إن إيه مُنظِّم ليضمَنوا تفعيل الجين في هذه الخلايا البكتيرية؛ ومن ثَم تخليق الإنسولين المصنَّع؛ وهذا ما زال متَّبَعًا حتى الآن بالآليَّة نفسِها تقريبًا، لكن مع بعض التحديثات (سنأتي لاحقًا في الكتاب على شرح كيفية إجراء معالَجاتٍ كهذه لإتمام هذه العملية).
شهدَت ثمانينيَّات القرن الماضي أيضًا التعديلَ الوراثي في الثدييات لأول مرة، والذي كان لأغراضٍ بحثية فقط في البداية. لكن بنهاية العقد تطوَّرَت الهندسة الوراثية إلى أبعد من مجرد إضافة جيناتٍ بسيطة، وسمحَت لعلماء الجينات باقتلاع الجين الذي يريدون من جينات الفئران، أو بتعديل التسلسل المكوِّن للجين بدقةٍ شديدة. تمكَّن العلماء بهذه التقنيات من إنتاج فئران عندها اختلالاتٌ جينية شديدة الشبَه بالاختلالات الجينية التي تتسبَّب في مُتلازمات الأمراض الخلقية في البشر. ومن ثَم صار بإمكان علماء الباثولوجيا استكشافُ آليات عمل المرض، بل في بعض الحالات اختبار فرضياتهم حول العلاجات الممكِنة. وقد حقَّق تحويلُ نتائج هذه الأبحاث إلى علاجٍ بشري نجاحاتٍ متفاوتةً حتى الآن؛ لأن الفئران ليسوا بشرًا، وفي بعض الأحيان تتسبب اختلافاتٌ طفيفة في آليةِ عمل وظيفةٍ معيَّنة بين البشر والفئران في اختلافاتٍ واسعة بينهما في فاعليَّة العلاج أو حتى في كونه آمنًا للاستخدام.
الأصل الثاني لعلم الأحياء التخليقي
تزامَن تطويرُ الأرز الذهبي مع أبحاثٍ عن بناء أولِ تراكيبَ جينية تُعد أعقد ممَّا قد نُطلق عليه الهندسة الوراثية التقليدية، وقد وصفها العلماء الذي عملوا عليها — وآخَرون كذلك — بأنها عملُ «علم أحياء تخليقي» حقيقي. وهذا التحولُ نفسه يظهر في مشروع الأرز الذهبي. فإضافة جين واحد كما في النسخة الأولى من المشروع تبدو مشروعًا مترسخًا في عصر الهندسة الوراثية. أما «الأرز الذهبي ٢»، الذي يحتوي على جينَين من كائنين مختلفين يعملان معًا لإحداثِ تغييرٍ ملحوظ في العمليات الأيضية للخلايا، فيعمل على نطاقٍ أوسع، وبتشكيلِ منظومةٍ جديدة مركبة من عدة مكونات، يملك شيئًا مما يُميز علم الأحياء التخليقي. ورغم أن «الأرز الذهبي ٢» ليس معقدًا بقدر المسار البيولوجي التخليقي المستخدَم لتعديل العمليات الأيضية للخميرة لتصنيع أدويةٍ مضادة للملاريا (وهو ما سنأتي على شرحه تفصيلًا لاحقًا)، فمن الواضح أن عملية تركيب «الأرز الذهبي ٢» تستخدم الفكرةَ الأساسية نفسَها: إذا لم يكن الكائن الحي يُصنِّع ما تريده منه، فحدِّد الإنزيمات التي تحتاج إليها من كائناتٍ أخرى لتكوين مسارٍ أيضي جديد من مادةٍ موجودة بوفرة في هذا الكائن إلى المادة التي تريد الحصولَ عليها؛ ومِن ثَم ابدأ في هندسة هذا الكائن ليحمل جيناتِ تلك الإنزيمات.
سرعان ما تبع الأنظمة الجينية التخليقية التي من أمثال دائرة القلاب ومتذبذب التثبيط دوائرُ منطقيةٌ ومتذبذبة أخرى، وصارت تُربط بأنظمة استشعار، لتكتسبَ هذه الدوائرُ المنطقية الجينية قدرةً على الاستجابة حسَب بيئة الخلية. توسَّعَت مثل هذه المنظومات حتى وصلَت إلى كائنات عديدة الخلايا، وفيها الثدييات والنباتات. صُمِّم الكثير من هذه الأنظمة ليُؤدِّيَ غرضًا معينًا في مجالٍ ما؛ مثل الطاقة والبيئة والطب. لكن مَكْمن الخطر في أن أعطيَك جرعاتٍ معرفيةً موجزة عن هذه التطبيقات في مثلِ هذه المقدمة هو أن المجال هنا يَضيق عن النقد والتمحيص، وهذا ما قد يؤدي بنا إلى عرضٍ مُضلل إيجابي أكثرَ مما يجب؛ لذلك سنذكر بعض هذه التطبيقات في مواضع أخرى من هذا الكتاب.
يكاد يكون لا خلاف على أن دائرة القلاب ومتذبذب التثبيط هما ضربٌ من علم الأحياء التخليقي. ما الفرق إذن بين الهندسة الوراثية وعلم الأحياء التخليقي؟ تختلف الآراء باختلاف العلماء، لكن لنُحاول أن نرسمَ آراء العلماء معًا، لعلَّ حدودًا تقريبية بينهما ترتسم أمامنا. حجم التدخُّل مؤثرٌ بلا شك، لكن يُهمنا أكثرَ ما يمكن أن نُسميه بالاستحداث الوظيفي. فالتعبير الجيني عن هرمونٍ بشري داخل خلايا بكتيرية، أو التعبير الجيني عن أجسام مضادة بشرية داخل خلايا النباتات ليسا من «علم الأحياء التخليقي»؛ لأن منتجات هذه الجينات تؤدي وظيفتَها نفسَها التي كانت تؤديها في الإنسان. نرى هنا أن الجينات الطبيعية نُقِلَت إلى كائنٍ حي مختلف؛ لأن هذا ملائمٌ للعملية الإنتاجية، وليس لأننا نسعى إلى أن نستحدثَ مُنتَجًا جديدًا من العملية. ومن جهةٍ ما، يمكننا القول إن هذا العمل ليس تحليليًّا ولا تخليقيًّا، بل عملٌ تقني تمامًا (وهذا التعريف ليس استخفافًا بالطبع؛ فهذه المشاريع قد تكون شديدةَ الأهمية وشديدة الصعوبة). لكن على الضفة الأخرى، تجتمع جينات، لم تكن لتعملَ معا أبدًا، لترسُمَ مسارًا أيضيًّا جديدًا في الخلايا، وناتج العملية يذهب خطوةً أبعدَ ممَّا وصل له النظام الطبيعي بالتطوُّر، بما يكفي لأن يصفَه أغلبُ المعلقين بأنه ناتجٌ «مُخلق». وبالمثل، عندما نُعيد ترتيب عدد ولو كان صغيرًا من الجينات الموجودة طبيعيًّا في كائنٍ ما لتؤدِّي لنا وظيفةً جديدة، مثل معالجة العمليات المنطقية الحاسوبية، أو الاحتفاظ بذكرى ما، أو التذبذب، أو التحذير من وجود خطرٍ كيميائي أو بيولوجي، نكون قد خطَوْنا خطوةً أبعدَ من العمليات البيولوجية الطبيعية، مما يكفي لنعتبرها عمليات تخليقية.
تطبيق المفاهيم الهندسية على علم الأحياء
إحدى المدارس الفكرية البارزة (وإن كانت لا تلقى إجماعًا) في علم الأحياء التخليقي المعاصر من شأنها أن تُضيف بضعةَ شروط أُخرى: التراكبية، والتوحيد القياسي، والانفكاك، والتجريد. هناك ما يربطها جميعًا؛ فجميعُها مُستقَاةٌ من الهندسة التقليدية ومن الأسهل شرحُها بأمثلة من هذا الحقل المعرفي. التراكبية تعني أن البِنْيات الكبيرة لا بد أن تُبنى باختيارِ وحداتٍ تركيبية أولية والربطِ بينها. من أمثلة ذلك الربط بين مُكونات تركيبية بسيطة (كالمقاومات والمكثِّفات والترانزستورات وما إلى ذلك)؛ لتكوين دائرةٍ تؤدي مهام أعقد مثل استقبال البث الإذاعي. قد تكون التراكبية هرَمية: فمثلًا دائرة التضخيم الكهربية تتركَّب من مُكوناتٍ بسيطة قد تعدُّ كلٌّ منها وحدةً تركيبية يمكن تضمينها في تصميم الراديو، أو مُشغِّل الأقراص، أو جهاز الردِّ الآلي. التراكبية تعتمد على التوحيد القياسي، بحيث يستطيع المُصمِّمون أن يكونوا متأكدين من أنه يمكن التنبُّؤ بتصرُّف الوحدات الأولية التي يستخدمونها وَفقًا لسِماتٍ متفَق عليها. يمكن للتوحيد القياسي أن يمتدَّ إلى قابلية تَكْرار العملية نفسها، وليس هذا فحسب، بل يمتدُّ أيضًا إلى استخدام تقنياتٍ قياسية، وتوحيد معاني الكلمات، والاتفاق على مواصفات قياسية للمُكونات (على سبيل المثال الأبعاد الداخلية للصواميل والبراغي). أما الانفكاك فهو الفكرة التي تسمح لنا بتقسيم مشروع كبير إلى عدة مشاريع جُزئية منفصلة يمكن العمل على كلٍّ منها بمَعزِلٍ عن البقية. على سبيل المثال، يمكننا تقسيم عملية صنع راديو جديد إلى التصميم، وصنع المكونات، وتجميع المكونات لتكوين دائرة الراديو، وبناء العلبة الخارجية … إلخ، ومَن يقوم بأيٍّ منها لا يحتاج إلى أن يكون خبيرًا إلا في المهمَّة المُضطلِع بها. التجريد هو فكرة مُقاربة، وهي أن هذا النظام يمكن وصفُه بمستوياتٍ متفاوتة من التفصيل، فإذا كنتَ شخصًا يتعامل مع النظام في مستوًى عالٍ من التجريد، يمكنك تجاهلُ تفاصيلِ المستوى الأدنى والتعامل مع النظام على أنه «صندوق أسود». بإسقاط هذا على مِثال الراديو، نرى أن مُصنِّع مكوِّنات الدوائر الكهربية يحتاج إلى أن يهتمَّ بالتركيب الدقيق لمكوِّنٍ ما، وليكن مثلًا المكثف، أما مَن يُصمم وحدة التوليف مستخدمًا المكثِّفَ فيمكنه ألا يأخذ آليةَ عمل المكثِّف بعين الاعتبار، لكن ينبغي عليه أن ينتبه للعلاقة بينه وبين المكونات الأخرى في الدائرة، وأمَّا مُشغل اللاسلكي فيأخذ عملَ كلِّ هذه الأشياء أمرًا مُسلَّمًا به، ولا يحتاج إلا إلى معرفةِ كيف يستخدم أزرارَ اللوحة التي أمامه ومقابضَها. يعتبر التجريد، مثله مثل الانفكاك، مُحَرِّرًا ومُيَسِّرًا لأنه لا يحتاج إلى أن يكون جميعُ المشاركين خبراءَ في كل جانب من جوانب مشروعٍ معقَّدٍ ما. كما أنه يسمح للمُصممين بالتركيز على تصميمٍ ذي مستوًى عالٍ دون أن يُغرِقوا في التفاصيل. والأهمُّ أنه بوجود الهرم التجريدي يمكن أن تحدث تغييراتٌ في مستوًى معينٍ (فمثلًا قد تُستخدَم موادُّ جديدةٌ في تصنيع المكثِّف) بدون أن تتأثر المستويات الأعلى. يعتمد مدى تحقُّقِ هذا عمَليًّا على الإجراءات المتبَعة لاعتماد القطعة ومدى دقتِها في أخذِ جميع خصائصها المؤثرة بعين الاعتبار.
تطبيق المفاهيم البيولوجية في الهندسة
من الجدير بالاهتمام أن مشروع علم الأحياء التخليقي ككلٍّ، وشبكة العلوم المتداخلة التي أثمرَته، جمع علماء الأحياء مع المهندسين للعمل معًا، مما أتاح لكلٍّ منهم قدرًا كبيرًا من الاحتكاك بمجال الآخَر. حاول المهندسون، بدرجاتٍ متفاوتة من الغرور أو التواضع، أن يحملوا علماءَ الأحياء على الاقتناع بالميزات التي زعَموها لمنهجية العمل الهندسي. وحاول علماء الأحياء، أيضًا بدرجاتٍ متفاوتة من الغرور أو التواضع، أن يحملوا المهندسين على الإعجاب بالطريقة «البيولوجية» في البناء والصيانة والتطور. وعندما تلاقَت معرفتا الفريقَين ومجهوداتهم كما يجب، خرَجَت لنا مشاريعُ مثيرة للاهتمام تسعى لاستخدام الأنظمة الحية في حلِّ مشاكل اعتدنا أن نراها متأصِّلةً في العالم غير العضوي، عالم السيليكون والصخر والفولاذ. ينتمي بعضُ هذه الأنظمة للعالم الجزيئي حيث تُستخدَم جزيئات دي إن إيه لحمل معلوماتٍ مشفَّرة، أو يستخدم دي إن إيه لإجراء عملياتِ حوسبة متوازية شديدة التشابك في حقولٍ معقَّدة كفكِّ التشفير. تعمل أنظمة أخرى على نطاقٍ أكبر بكثير، حيث تهتمُّ بتشييد أبنيةٍ تستطيع التكيُّف مع بيئتها أو تتعافى تلقائيًّا من الأضرار التي تنالها.
الوقت الحاليُّ أبكرُ من أن نحكم إذا ما كان علم الأحياء التخليقي سيترك تأثيرًا ذا بالٍ على المجالات الهندسية، أم أنه سيظلُّ مقتصرًا على بضعِ دراسات لإثبات الفكرة لا أكثر. بل إنه أبكرُ من أن نستطيع التنبُّؤ بثقةٍ بالتأثير الشامل لعلم الأحياء التخليقي على أي مجال على الإطلاق. سنتعرض في الفصول من الثالث إلى السابع إلى دراساتٍ عن التطبيقات المبكرة لأفكارِ علم الأحياء التخليقي في العديد من المشكلات العالمية، وسنُناقش فيها كلًّا من الجانب العلمي والمشكلات العَملية بين التصميم والاستخدام؛ سواءٌ كان لأغراض تِجارية أو إنسانية، بينما سنُناقش في الفصل الثامن والأخير ردودَ الأفعال السياسية والفنية والثقافية الحاليَّة على هذه التكنولوجيا. أرجو أن تساعد المعلوماتُ المطروحة في هذه المقدمة القصيرة جدًّا القارئ المهتم على تكوين رأي مستنير خاص به، حتى وإن كان رأيًا مبدئيًّا.