قراءة لغة الحياة والكتابة بها
يعتمد علم الأحياء التخليقي، أو على الأقل الجزء الذي
يهتمُّ بالتعديل في الخلايا الحية منه، على قراءة وكتابة
تسلسلاتِ قواعد الدي إن إيه المكوِّنة للجينات. يكاد إجراء
التعديل يقتصر على المستوى الجيني؛ لأن الجينات تُتوارَث؛ لذا
لا نحتاج إلى هندستها إلا مرةً واحدة. وهذا يجعل بمقدورنا
التعايُشَ مع التقنيات الهندسية التي لا يعول عليها؛
فبإمكاننا أن نتقبَّل تطبيقَ التعديل المطلوب بدقةٍ ولو على
خلية واحدة فقط وسط الملايين، ما دام بإمكاننا تهيئةُ البيئة
المحيطة بحيث لا ينجو فيها إلا الخليةُ المعدَّلة، فتتكاثر
وتُسيطر على طبق الاستنبات، تاركةً الخلايا التي أخفقنا فيها
ميتة.
قراءة («تعيين تسلسل») دي إن إيه مهمةٌ لسببين رئيسيين:
أولًا لكي نتمكَّن من تحليل الجينات وأجزاء الدي إن إيه التي
تتحكَّم في تفعيل الجينات الموجودة طبيعيًّا، وثانيًا لكي
نستوثقَ من صحة التسلسلات التي نُحاول كتابتها. ابتُكِرَت
أشهرُ طريقة لقراءة تسلسل دي إن إيه في معمل فريد سانجر في
عام ١٩٧٧. تُسمى هذه الآلية «إنهاء السلسلة»، وتقوم على
استخدام إنزيم بَلْمرة الدي إن إيه الموجودِ في الخلايا
طبيعيًّا، وهذا الإنزيم ما إن يجد شريطًا مفردًا من الدي إن
إيه، فإنه يقوم بصُنع الشريط المقابل المكمِّل له. لكن لا
يمكن لإنزيم بلمرة دي إن إيه أن يبدأ عمله على شريط دي إن إيه
مفردٍ تمامًا، لكنه يمكن أن يعمل بدءًا من مقطع فيه شريطٌ
مزدوج بالفعل. لذا لا بد أن نُضيف بادئةً لكي تبدأ عملية
النسخ، وهي تسلسلٌ قصير من قواعد دي إن إيه مُفرد الشريط،
بحيث يتكامل مع الجزء الذي نرغب في قراءته من شريط الدي إن
إيه المفرد الأصلي (ومن ثَم سيقترن به). ترتبط البادئة
بالشريط المفرد فيصبح جزءٌ صغيرٌ من الشريط مزدوجًا، فيأتي
دور إنزيم بلمرة الدي إن إيه ليعمل على إكماله (شكل
٢-١). تبدو الحاجة إلى استخدام بادئةٍ
وكأنها تُشكل معضِلةً ما دام يتعيَّن على الباحث أن يعرف
جزءًا على الأقل من التسلسل الذي يُحاول قراءته قبل أن يبدأ
في القراءة؛ لكن عمليًّا هناك آلياتٌ عديدة تُمكننا من أن نصل
قطعةَ دي إن إيه تسلسلُها معروفٌ بقطعةٍ أخرى لا نعرف
تسلسلها، ومن ثَم يُمكننا أن نُصمم البادئة بحيث تقترن
بالتسلسل المعروف (شكل
٢-٢).
عادت علينا المقدرةُ على صنع شريط مكمل من شريط مفرد موجود
لدينا بفوائدَ شتى. فمثلًا، بفصل الشريط المزدوج الذي تكوَّن
توًّا إلى شريطين، وتَكرار العملية مِرارًا وتَكرارًا يمكن
للباحثين الحصول على ملايين النسخ من قطعة وحيدة من الدي إن
إيه، في عمليةٍ تُسمى بتفاعل البلمرة التسلسلي «بي سي آر»،
وسنأتي على ذكرها مرةً أخرى لاحقًا في الكتاب. لكن يظلُّ
النسخ وحده غيرَ كافٍ على الإطلاق لنعرف أي شيء عن التسلسل
الأصلي. ولكي نتمكن من قراءته فعلينا أن نُلوث التفاعل عمدًا
بالقليل من القواعد المعدَّلة بطريقتين: الأولى أن تحمل صبغة
(بحيث يكون لكلِّ نوع من القواعد
A, T, G,
C لونٌ مختلف)، والثانية أنها لا تملك
الروابط الكيميائية اللازمة لكي ترتبط بها القاعدةُ التالية
في السلسلة، وبذلك تُنهي السلسلة. وعليه ففي كل خطوة من
التفاعل هناك احتماليةٌ صغيرة أن تستخدم إحدى هذه «المُنهيات
المصبوغة» المعدَّلة بدلًا من القواعد الطبيعية. سيمنع هذا
استمرارَ إضافة القواعد وإطالة السلسلة، وسيُعطي السلسلة غير
المكتملة لونًا مميزًا يعتمد على آخرِ قاعدة مكملة أضفناها
(شكل
٢-٣).
سينتج عن هذا خليطٌ من السلاسل بألوانٍ مختلفة وأطوالٍ
متفاوتة. ومن ثَم يدخل هذا الخليط في وحدة الفصل
الكروماتوغرافي، فتخرج منها جزيئات دي إن إيه مرتبةً حسَب
طولها. وفي النهاية تُسجل أداة للفحص اللوني تتابع الألوان
الذي تراه بمرور السلاسل المرتبة حسَب الطول من خلالها سلسلة
تلو أخرى، وتتابع الألوان هذا يُعبر تعبيرًا مباشرًا عن
ترتيب القواعد في الشريط المكمل الجديد الذي صنَعْناه،
ويمكننا بسهولةٍ أن نستنتج منه تسلسُلَ الشريط المفرد
الأصلي.
في وقتنا الحاضر، تجري كلُّ خطوات عملية قراءة الدي إن إيه
أوتوماتيكيًّا، وبإمكان جهاز واحد إجراء مئات العمليات في
الوقت نفسه (بل ملايين العمليات في بعض الأجهزة). وهذا مفيد
لأن ثمة حدًّا لطول قطعةِ دي إن إيه في تسلسلٍ قبل أن تُشكل
أخطاء عشوائية مشكلات. ولهذا السبب فمن المعتاد أن نقسم قِطَع
الدي إن إيه الطويلة إلى أجزاءٍ أقصَر قبل أن نُحاول قراءتها.
ومن ثَم تستخدم خوارزميات حاسوبية لتدقق في الآلاف من هذه
التسلسلات القصيرة، وتحدد مساحات التداخل بينها، وتستنتج
التسلسل الطويل الأصلي الذي اشتُقَّت منه كلُّ هذه التسلسلات
القصيرة.
أما الكتابة بلغة الدي إن إيه فتجري بإحدى طريقتين
رئيسيتين. الأولى هي تصنيع القطعة المطلوبة كاملةً بتقنيات
تخليق الدي إن إيه، والأخرى هي قصُّ القطع المفيدة من تسلسل
دي إن إيه آخر من كائنٍ ما، سواءٌ كان التسلسل طبيعيًّا أو
سبق هندسته وراثيًّا، ومن ثَم وصل هذه القطع معًا. وغالبًا ما
تدخل في عملية اللصق هذه قطعٌ قصيرة من الدي إن إيه المخلَّق
كُليًّا تحمل تسلسلًا لا نجده في الطبيعة؛ لذا فعادةً ما
نحتاج إلى قدرٍ من تخليق الدي إن إيه. وعملية بناء دي إن إيه
من الصفر عمليةٌ كيميائية أكثر منها بيولوجية. فمن الصعب أن
نصل الوحداتِ البنائيةَ (النيوكليوتيدات) معًا دون استخدام
الإنزيمات البيولوجية؛ لذا تعتمد العملية الكيميائية الأكثر
شيوعًا على البدء بنيوكليوتيدات معدَّلة، بحيث تحتوي على
تركيبٍ نشط كيميائيًّا يسمى الفوسفورأميديت في الموضع الذي
تتَّصل فيه النيوكليوتيدات بعضُها ببعض. قد تتسبَّب العملية
الكيميائية المسئولة عن ربط هذه النيوكليوتيدات في أن تُكوِّن
النيوكليوتيدات روابطَ أخرى على جانبَيها، أو أن يرتبط طرَفَا
السلسلة بعضهما ببعض. لهذا السبب تحتوي النيوكليوتيدات
المعدَّلة على «أغطية» كيميائية واقية في المواضع التي قد
تكون نشطةً كيميائيًّا لتمنعها من التفاعلات غير المرغوب فيها.
تُنزع هذه الأجزاء الواقية (بالتعرض لحمض مثلًا) عندما تنتهي
عمليةُ تخليق الدي إن إيه، تاركةً لنا شريطَ دي إن إيه
عاديًّا.
تبدأ العملية الفعلية لتخليق دي إن إيه (شكل
٢-٤) بنيوكليوتيدة واحدة تُثَبَّت إلى سطح
مادي، وتُضاف إليها نيوكليوتيدةٌ تلو الأخرى مكوِّنةً سلسلة،
وتُجري كل عملية إضافةً في دورةٍ من أربع خطوات. لنفترض مثلًا
أننا نريد أن نصنع التسلسل
A-G-A-T … وأن
النيوكليوتيدة
A الأولى مرتبطةٌ بسطح التثبيت بالفعل تاركةً
«طرَفَها» الآخر (مجموعة هيدروكسيل) مكشوفًا ليرتبط
بالنيوكليوتيدة التالية (شكل
٢-٤أ). في
الخطوة الأولى من أول دورة إضافة، يدخل إلى غرفة التفاعل
بعضٌ من جزيئات فوسفورأميديت القاعدة
G «المنشطة» بتعريضها
لعاملٍ حفَّاز. سرعان ما يتفاعل الفوسفورأميديت مع مجموعة
الفوسفات المكشوفة في القاعدة
A، لتتكوَّن لنا السلسلة
القصيرة
A-G، المتصلة بروابطَ
غريبةٍ ومختلفة عن مَثيلتها الطبيعية وملحَق بها سلسلةٌ
جانبية (شكل
٢-٤ب). ليس لفوسفورأميديت
القاعدة
G الواردةِ مجموعةُ
هيدروكسيل حُرة؛ لأنها مغطَّاة ﺑ «مجموعةٍ حائلة» تمنعها عن
التفاعل لتقليلِ احتمالية حدوث «تأتأة» (أي تَكْرار الحرف
أكثرَ من مرة) بإضافة أكثر من
G واحدة. في الخطوة
الثانية تُستخدَم عملية كيميائية لوضع غطاءٍ واقٍ على أيِّ
مجموعة هيدروكسيل قد تكون مكشوفةً لمنع القواعد التالية من
الارتباط بها. الخطوة الثالثة خطوة أكسدة، وبها تصير الرابطة
الجديدة المتكونة بين القاعدتين طبيعيةً أكثر، على الرغم من
أنها لا تزال تحمل مجموعةً جانبية، وهذه الخطوة تجعل السلسلة
أكثرَ استقرارًا. في الخطوة الرابعة، تُنزَع «المجموعة
الحائلة» عن النيوكليوتيدة
G
التي أضيفت توًّا فتكشف عن مجموعة هيدروكسيل، سترتبط بها
النيوكليوتيدة التالية (شكل
٢-٤ج).
وستجري الدورة الثانية بالطريقة نفسها لكن بإضافة
فوسفورأميديت القاعدة
A إلى
السلسلة ليُصبح لدينا التسلسلُ
A-G-A، وفي الدورة
الثالثة سنُضيف فوسفورأميديت القاعدة
T لنحصل على التسلسل
A-G-A-T، وهكذا. في نهاية
العملية تتحرر سلاسلُ دي إن إيه من الرَّكيزة المثبتة عليها،
ثم تُعالج كيميائيًّا لإزالة أيِّ أغطية واقية ومجموعات
حائلة، وللتخلص من السلاسل الجانبية الملحقة بالروابط بين
النيوكليوتيدات لتُصبح روابط فوسفات ثنائي الإستر كالتي نجدها
في الدي إن إيه الطبيعي. وبصنع أكثر من سلسلة ننقِّي العينة
بانتقاء السلاسل ذات الطول الصحيح والتخلُّص من السلاسل التي
ربما فاتتها نيوكليوتيدةٌ ما، ومن ثَم حَجَب غطاءٌ واقٍ
مجموعةَ الهيدروكسيل فيها (في الخطوة الثانية من أي دورة)
فبقيَت على قِصَرِها. أما إذا أردنا الحصول على قطعٍ مزدوجة
الشريط، فيُمكننا إما أن نصنع كلًّا من الشريطَين على حِدةٍ
ونخلطهما معًا، أو نصنع بادئةً قصيرة ونخلطها مع شريطٍ طويل
واحد، ونستخدم إنزيم البلمرة ليُكوِّن بقية الشريط كما في شكل
٢-١.
عملية تصنيع دي إن إيه المُفصلة هذه عملية سريعة، وباتت
الآن تُجرى أوتوماتيكيًّا، فصار من الممكن إتمامُ العديد من
التفاعلات بالتوازي (في بعض التطبيقات تصل إلى مئات الآلاف).
لكنها ليست عمليةً مثالية، فالاحتمالية الصغيرة لحدوث أخطاء
في كلِّ خطوة تعني أننا محدودون بطولِ قطع الدي إن إيه التي
يمكن أن نصنعَها بكفاءة؛ وهذا الحدُّ يبلغ حاليًّا نحو ألف
نيوكليوتيدة، أي طول جين صغير، مع مراعاة أن ٣٠٠ نيوكليوتيدة
هو الطول الأجدى اقتصاديًّا. ولذلك تُصنع الأشرطة الطويلة
عديدة الجينات بوصل قطعٍ أقصر. ولهذا طرقٌ كثيرة، لكن من
أكثرها شيوعًا تقنية جيبسون للتجميع، والمسماة تيمُّنًا باسم
مبتكِرها دان جيبسون.
العامل المشترك بين آليَّة جيبسون للتجميع وبين كل طرق
التعديل في الدي إن إيه تقريبًا، هو أنها تعتمد على قدرة أي
شريطَي دي إن إيه منفصلَين، لكن متكاملين، على الازدواج معًا.
عندما ننوي تخليق قطع صغيرة من دي إن إيه لتجميعها لاحقًا،
مُكوِّنين بِنية عديدة الجينات، لا نجعل التسلسلات تتابع
بدقة، وإنما نجعل فيما بينها قدرًا من التقاطع، بحيث تكون
آخِرُ ثلاثين نيوكليوتيدة في قطعةٍ ما مماثلةً لأول ثلاثين في
القطعة التالية (والثلاثون هنا عددٌ تقريبي وليس بقاعدة
دقيقة) كما في شكل
٢-٥. وفي الظروف
الطبيعية لا يتكرَّر تسلسلٌ طويل من النيوكليوتيدات في أكثر
من جزء؛ لذا سيكون التقاطع بين القطعة الأولى والثانية
مختلفًا تمامًا عن التقاطع بين الثانية والثالثة، وهلمَّ
جرًّا.
يُضاف إلى قطع الدي إن إيه مزدوجة الشريط التي نرغب في
وصلها معًا إنزيمٌ بإمكانه أن ينتزع بِضع قواعدَ من أحد
الشريطين المزدوجين فقط في كلٍّ من طرَفَي القطعة الواحدة،
تاركًا «طرفَين لَصوقين»: أي يمتدُّ من الطرفَين شريطٌ مفرد
جاهز للازدواج مع التسلسل المكمل له (شكل
٢-٦). إن صُمِّمَ كل شيء بدقة، فإن التسلسل
المكمل الوحيد الذي يستطيع أن يقترن مع الطرف اللصوق الأيمن
في القطعة الأولى سيكون لا محالة الطرَفَ اللصوق الأيسر
للقطعة الثانية، وهكذا. عندما يكتمل الاقتران (ويُسمى أيضًا
«الازدواج») بين القطع، سيكون الناتج سلسلة من دي إن إيه
مرتبة ترتيبًا صحيحًا ومتماسكة بفضل الازدواج بين
النيوكليوتيدات المتكاملة، مع وجود بعض الفراغات في هيكل
السلسلة في المواضع التي انتزع فيها الإنزيم قواعدَ أكثرَ مما
ينبغي. يمكن لإنزيم بلمرة الدي إن إيه الآن أن يستخدم
المعلومات التي يحملها الشريط السليم ليملأَ هذه الفراغات في
الشريط المكمل له، ثم يأتي إنزيم ربط الدي إن إيه ليلحم هيكل
الدي إن إيه الخارجي مكوِّنًا شريطًا طبيعيًّا مزدوجًا
متماسكًا من الدي إن إيه. عمليًّا، لا تجري هذه التفاعلات على
نحوٍ مثالي دائمًا، ولا بد من قراءة التسلسل بعدها للتحقُّق
منها. يمكن إصلاح الأخطاء بآلياتٍ عديدة لتعديل الدي إن إيه،
منها على سبيل المثال «تفاعل كريسبر» الذي سنتناوله
لاحقًا.
التصميم والبناء
تُمثل آليات قراءة الدي إن إيه وكتابته الحاجزَ التكنولوجي
الذي بانزياحه فُتِحَت أمامنا أبوابُ علم الأحياء التخليقي،
بالضبط مثلما فتحت القراءة والطباعة البابَ لتخزين المعارف في
الكتب والمكتبات. وفي كِلتا الحالتين، ليست التقنية نفسها ما
يُساعدنا في العملية الإبداعية ويُقرر عنا ما يتعيَّن كتابته.
لكن تقع مختلِفُ آليات صنع الأنظمة الجينية في مساحة بين
نقيضَين. أحدهما يمكن تمثيله بالتطور الطبيعي، ويقوم على
جولات متوالية من التغييرات العشوائية تتبعها عمليةُ انتخاب؛
أما الآخَر فيعتمد على التصميم العقلاني لكل عنصرٍ اعتمادًا
على مبادئ أولية. وبينهما ما لا يُحصى من المسارات العملية
الهجينة. تمر كل جزئية في المنظومة الجينية ﺑ «الدورة
الهندسية» في المعتاد (شكل
٢-٧). ولأنه
يسهل إعادة إنتاج المنظومة الجينية بعد أول مرة بإكثار
الخلايا المضيفة، يقع أغلب التكلفة في مرحلتَي التصميم
والاختبار، وليس في مرحلة الإنتاج النهائي.
مثل أي فرع آخر من فروع الهندسة، تبدأ عملية التصميم
بإرساء أهدافٍ واضحة، ومنها نتوصَّل إلى معايير نجاح المشروع،
والمواصفات التي لا بد أن يُحققها المنتج النهائي. عادةً ما
تركز المرحلة التالية في التصميم على تصور آلية يمكن أن تصل
بنا إلى هذه المواصفات من ناحية التوليف بين عدة وحدات
تركيبية، مع تأجيل تفاصيل كلٍّ منها إلى وقت لاحق. يُشبه
التصميم على هذا المستوى ما يقوم به مُهندسو الإلكترونيات عند
وضع مسوَّدة لدائرة ما بالتوليف بين وحدات تركيبية كالمضخم
والمُرشِّحات، أو كما يُلخص المبرمجون أفكارَهم في خرائطِ
تدفُّق أو أشباهِ أكواد. وتكمن فائدتها في أنها تساعد على
تصميم مسوَّداتٍ عديدة والمقارنة بينها بدون استنزاف الكثير من
الوقت في التفاصيل. قد تشمل عمليةُ المقارنة بين التصاميم
المتنافسة استخدامَ برامج المحاكاة الحاسوبية؛ حيث إنها أسرعُ
بكثير من التنفيذ البيولوجي، وقد تُستخدَم نتائج هذه المحاكاة
مرشدًا لنا في عملية التعديل على التصميم، ومن ثَم نُجري
المحاكاة مرةً أخرى حتى نصل إلى النتائج المرجوَّة من النظام.
من أبرز مميزات النمذجة الحاسوبية أنها تسمح للمصممين بمحاكاة
النظام مع إحداث فروقات طفيفة في القيم العددية لعوامل مثل
كفاءة إنزيم ما، أو المهلة قبل تفعيل جينٍ معيَّن. يمكن لهذا
أن يُدلل على ما إذا كان التصميم يتحمل قدرًا من التغيُّر في
هذه العوامل، وعمومًا كلما كان النظام يسمح بوجود تغيرات
كبيرة كان أكثرَ نفعًا لنا، أما الأنظمة التي لا تعمل إلا في
نطاق حدود ضيقة جدًّا فيجدر بنا تجنبها.
ما إن يستقرَّ الفريق على تصميمٍ واعد، يبدأ العمل على
تصميم التفاصيل الداخلية للوحدات التركيبية. وحسبما تفرض
عليهم درجة التجريد في التصور الأوَّلي، قد يُضطرُّ العلماء
إلى تقسيم الوحدات التركيبية المكوِّنة للنظام إلى وحداتٍ
تركيبية فرعية، بل ربما يحتاجون إلى تَكرار هذه الدورة مراتٍ
عديدة قبل أن يصلوا إلى مستوى تسلسلِ قواعد الدي إن إيه
المنشود (شكل
٢-٨). يمتاز تناولُ النظام
بهذه الطريقة، التي ليست حكرًا على علم الأحياء التخليقي بأي
حال، بأنه ما إن يُتَّفَق على المواصفات والمعايير المطلوبة،
يمكن نظريًّا العمل على المسائل الجزئية كل على حدة، بل
وربما يقوم بذلك أناس مختلفون في أماكن مختلفة. لكن عمليًّا
يختلف الأمر عن هذا بعض الشيء. فعند تصميم دي إن إيه، على
سبيل المثال، من الحكمة عمومًا أن نتجنبَ تَكرار تسلسل طويل
من النيوكليوتيدات يظهر في أكثر من موضع في السلسلة لأن هذا
سيُشجع الخلايا المضيفة على إجراء عملية تعديل جيني تُسمى
التخليط الجيني ستُغير في الجزء المستحدث أو حتى تتخلص منه.
لذا لا بد من التفكير في التفصيلات الداخلية للأجزاء المختلفة
وتأثيرها بعضها على بعضٍ في مرحلة ما.
الوحدات التركيبية الجاهزة للتجميع
بعد تصميم الوحدات التركيبية وتنفيذها واختبارها لتطبيق ما، يمكن نظريًّا أن تُستخدَم
في تطبيقات أخرى كذلك. ومجددًا، تَشيع هذه الفكرة في الهندسة؛ فوحدة التضخيم نفسها تظهر
في أجهزة عديدة، ومكتبة الرسوم البيانية نفسُها تظهر في مشاريع برمجة كثيرة، ونفس محرك
البنزين قد يستخدم في مجموعة متنوعة من جزازات العشب، والمضخات والمناشير الكهربية.
لذلك يسعى علماء علم الأحياء التخليقي المؤمنون بتشارك المجتمع العِلمي للإسهام مجانًا
بوحداتهم التركيبية في مكتبات مثل «سجلِّ القطع البيولوجية القياسية»
(
http://parts.igem.org/Main_Page)،
وبإمكان أي من علماء علم الأحياء التخليقي أن يطلبها ويستخدمها. بإمكانهم أيضًا أن
يُجْروا تعديلاتهم عليها، بل ربما يُسهِمون مرةً أخرى في المكتبة بنسخهم المعدَّلة.
وجود مكتباتٍ للوحدات التركيبية المتاحة مجانًا، له تأثيرٌ
هائل على عملية التصميم؛ لأنه ربما يكون من الأفضل من ناحية
الوقت والمال المستخدَم في التطوير أن تُستخدَم وحداتٌ
تركيبية جاهزة بالفعل، وأن تقتصر عمليةُ التصميم فيما بعدُ
على قطعٍ تُساعد على الربط بينها، أو تؤدي وظيفة جديدة
كليًّا. يعتمد المدى الذي توفر فيه هذه الوحدات الوقتَ فعلًا
على مدى إلمامِنا بخصائص الوحدات القائمة ومدى حساسيتها
لتغيُّر نوع الخلية المُضيفة والعوامل البيئية. بدأَت بعضُ
قطاعات مجتمع علم الأحياء التخليقي في التعامل مع هذه المشكلة
باقتراح مَعايير؛ في البداية بغرض القياس والاختبار، لكن ربما
تستهدف في النهاية تعيين الحدِّ الأدنى من المواصفات الذي
عنده تستحقُّ الوحداتُ التركيبية اسمًا ما. بنى العلماءُ
المهتمُّون بهذا عددًا صغيرًا من الوحدات التركيبية، وحاوَلوا
توصيفها بدقةٍ شديدة، مع أنه ما زال لا يمكن الإلمام بكلِّ
الظروف المحتملة.
من الحُجج المتكرِّرة المؤيدة لضرورة التنبُّؤ الدقيق
بتصرفِ كلٍّ من المكونات كل على حدة في مختلف السياقات
والظروف: أن دقة المنتج النهائي محدودة بدقة أسوأ مكوِّن
فيه. هذا القول يبدو وجيهًا، لكنه في الحقيقة مغلوط.
فالممارسة الهندسية السليمة تستخدم أنظمة تحكُّم مغلقة،
حيث يُعاد استخدام ناتج العملية، ويُعاد توجيهه كمُدخَل هذه
المرة لإدارة العملية وتوجيهها فيما بعد. تُتيح هذه التغذية
الراجعة أن نحصل على نظام عالي الدقة من مكونات منخفضة
الدقة. ومن الدروس الأولى التي يتعلمها طالبُ الهندسة
الكهربية أن ثَمة طريقَين أساسيين لعمل دائرة تضخيم كهربية
بنسبة تضخيم، ولْتكن عشْرَ مرات. الأول لا يستخدم التغذية
الراجعة، ويعتمد على استخدام ترانزستورات مواصفاتها معلومة
بدقة شديدة؛ وهذا مكلِّف. أما الآخر فيُغذي الدائرة بجزء من
الخرج حتى تنتقي الدائرة المقدار الذي تحتاج إليه من إشارة
الدخل بما يكفي ليُصبح خرجُها عشَرة أضعاف الدخل؛ وهذه
الدائرة يمكن أن تستخدم ترانزستورات رخيصةً لها هامشُ خطأ
كبير. المكونات الوحيدة في هذه الدائرة التي يلزم أن تتصرَّف
على نحو متوقَّع بدقة هي القِطَع القليلة المسئولة عن مسار
التغذية الراجعة، وحتى هنا يشيع استخدام مكونات قابلة للضبط
لتعويض الفارق بين السلوك المثالي والحقيقي. وفي علم الأحياء
التخليقي، كما في الهندسة الكهربية، بالتصميم الذكي لدائرة
تحكم مغلقة قد يُصبح النظام كله أكثرَ تقبُّلًا للتغيرات في
أداء مكوناته.
بأخذ كل هذا في الاعتبار، نرى أن الموازنة بين مميزات
وعيوب استخدام المكتبات القياسية للقِطَع المستخدَمة في علم
الأحياء التخليقي تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الغاية النهائية.
فللمشاريع قصيرة الأجل، كالمشاريع الطلابية، قد تكون هذه
المكتباتُ ذاتَ فائدة كبيرة. فهي تُيسر عملية التصميم السريع
وتجميع القطع بحيث تعمل جيدًا. أما في المشاريع الكبيرة التي
تهدف لإنتاج أفضلِ تركيب ممكن من أجل تطبيقات عملية واقعية،
فربما يكون من الأفضل أن تستثمر الوقتَ في تصميم كل شيء
ليُلائم الغرض الدقيق المطلوب، وألا تستخدم الوحدات التركيبية
الموجودة بالفعل إلا إذا كانت حقًّا تؤدي الوظيفة المرغوب فيها
بدقة تامة. في ستة فقط من المشاريع الاثنين والثلاثين التي
سنتعرض لها في الفصول القادمة استُخدِمَت مكتبات علم الأحياء
التخليقي بتوسُّع. ينبغي ألا يغيب هذا عن الأذهان عندما نقرأ
مزاعمَ مفادُها أن مكتبات القطع القياسية هي محورُ ميدان علم
الأحياء التخليقي.
قد نحتاج إلى التضحية بفكرة التصميم المدروس من أجل إنتاج
أنظمة مُثلى. فنحن لا نفهم بعدُ ما يكفي عن مواضيعَ مثل
بِنْية الإنزيمات لنتمكن باستخدام مبادئ أولية من تصميم جين
يحمل شفرةَ أفضلِ إنزيمٍ ممكن؛ لذا من الشائع أن يصنع علماء
علم الأحياء التخليقي عددًا ضخمًا من النسخ المتشابهة من
الجين، ثم ينتقوا الأفضل من بينها. أحيانًا يحتاج هذا منهم
إلى مجهودٍ مُضنٍ في عمل اختباراتٍ كَمِّيَّة للجينات
بالتتابع، لكن غالبًا ما يكون من الممكن وضعُ الجين المخلَّق
داخل حيز وحدة تركيبية أخرى لا تسمح للخلايا بالنمو إلا بما
يتناسب مع كفاءة عمل البروتين الذي يُنتجه الجين الجديد.
وهكذا تزدهر الخلايا التي تحمل أفضلَ نسخٍ من الجين وتسيطر
على طبق الاستنبات. ربما يتبع ذلك عدةُ جولات من التحورات في
الجين الرابح لنرى إن كان من الممكن أن يصبح أفضل بتعديلات
بسيطة. تحاكي هذه الآلية التطور الطبيعي، فهي ليست غيرَ
عقلانية بمعنى كونِها اعتباطية، لكنها تَحيد عن فكرة «التصميم
العقلاني» التي تعمل بالانتقال في اتجاهٍ واحد من المعرفة حتى
المنتج النهائي.
إدراج الأنظمة المُخَلَّقة داخل الخلايا الحية
بعد الانتهاء من تركيب البِنية المُخَلَّقة، يَحين وقت
إدراجها داخل خليةٍ مضيفة. غالبًا ما يتم ذلك ببنائها على
قطعةٍ من دي إن إيه بإمكانها أن تستوطن الخلية، على الأقل
مؤقتًا، لكنها تظلُّ منفصلة عن جينوم الخلية نفسه. ويعتمد
الاختيار على نوع الخلية المضيفة وحجم البنية الجديدة. قد تضم
الخلايا البكتيرية بطريقة طبيعية بلازميدات، وهي قطعٌ دائرية
من الدي إن إيه بطولِ بضعة آلاف من النيوكليوتيدات، وتحتوي
على تسلسلات خاصة للتأكد من أن الخلية المضيفة استنسخَتها.
ومع أن هذه الخاصية تجعل البلازميدات تبدو متطفلةً على
الخلايا، فإنها غالبًا ما تحمل جيناتٍ مفيدةً للبكتيريا مثل
إعطائها مقاومةً للمضادات الحيوية في الاستخدامات الطبِّية.
تستطيع البلازميدات حمل ما يصل إلى بضعة آلاف من
النيوكليوتيدات ذات الدي إن إيه المعدَّل، التي عادةً ما
تحتوي على جين يُكسِبها مناعةً ضد أحد المضادات الحيوية
المستخدَمة مَعمليًّا. غالبا ما تُدرج البلازميدات داخل
الخلايا البكتيرية بعمليةٍ عشوائية بعضَ الشيء بإتلاف جدار
الخلايا وأغشيتها بما يكفي لإحداث فجوات، ثم تُنقع الخلايا في
محلولٍ من البلازميدات التي يدخل بعضُها على الأقل إلى
الخلايا. وهذه الخلايا هي الوحيدة التي ستنجو عند تعريضها
للمضاد الحيوي فيما بعد.
إن كانت البِنيات الجينية المخلَّقة أكبر من أن تحملها
بلازميدات، يمكننا وضعُها داخل باكتيريوفاج (وهو فيروس
بإمكانه أن يجتاحَ الخلايا البكتيرية)، بحيث يحلُّ الدي إن
إيه المخلَّق محلَّ أغلب الدي إن إيه الذي يحمله
الباكتيريوفاج. ينتج عن هذا بكتيريوفاج يمكنه أن يُصيب
البكتيريا ويضع داخلها مادته الوراثية لكن لا يمكنه عندئذٍ أن
يُتابع دورة حياة فيروسية طبيعية. الكروموسومات البكتيرية
الاصطناعية أكبر، ويمكنها حملُ حمولة جينية مُخَلَّقة طولها
بضع مئات الآلاف من النيوكليوتيدات. لذا فهي كبيرة بما يكفي
لتَحمِل بنياتٍ مخلقةً ضخمة إلى داخل الخلايا.
بإمكان خلايا الخميرة أن تحمل بلازميدات صغيرة، وكذلك
كروموسومات بكتيرية اصطناعية للخميرة. هذه الكروموسومات
الاصطناعية ليست دائريةً بل خطية، مثل الكروموسومات الطبيعية،
وتحتوي على تسلسلات تسمح لها بأن تُستنسَخ وتتحرك مثل
الكروموسومات الطبيعية عندما تنقسم الخلايا. تستطيع هذه
الكروموسومات أن تحمل مليون نيوكليوتيدة من الدي إن إيه، وهذا
عمومًا أكثرُ بكثير مما نحتاج إليه في التطبيقات التخليقية
الحاليَّة، لكنه مفيدٌ في المشاريع الضخمة مثل «الخميرة ٢٫٠»
كما سنرى لاحقًا. وتوجد أيضًا كروموسومات اصطناعية للثدييات
وفي ذلك كروموسومات اصطناعية بشرية. من غير المعتاد
نسبيًّا أن تُستخدم الكروموسومات الاصطناعية للثدييات والبشر
لتَحمل التشكيلات الجينية المُخَلَّقة بشكل منفصل عن الجينوم
المضيف، خصوصًا في خلايا الثدييات؛ لأن الكروموسومات
الاصطناعية أكبرُ بكثير مما يمكن التعامل معه. في الغالب تدخل
البنيات الجينية إلى خلايا الثدييات محمولةً على بلازميدات
بكتيرية، أو داخل فيروس من فيروسات الثدييات غير قادر على
التكاثر، بنيَّة أن تصبح البنيات الجينية بذلك جزءًا من جينوم
الخلايا المضيفة نفسه.
ثمة طرقٌ عديدة لنقل المادة الوراثية من حاملٍ مؤقتٍ ما
(ناقل وسيط) إلى جينوم الكائن، لكن من أفضل التقنيات في هذا
الصدد تقنية كريسبر للتعديل الجيني. تعتمد تقنية كريسبر على
منظومة تستخدمها مجموعةٌ معينة من البكتيريا للحماية من
البكتيريوفاج، وهو فيروس يجتاح البكتيريا. فتحمل كروموسوماتُ
الخلية البكتيرية تجمعًا من الجينات، كلٌّ منها يماثل جزءًا
من تسلسل الحمض النووي لبكتيريوفاج معيَّن. عند نسخ هذه
الجينات، تُنتِج قطعًا من الآر إن إيه (تسمى «الآر إن إيه
المرشد»
guide RNA) التي
تندمج مع أحد إنزيمات قص الدي إن إيه المسمَّى «كاس ٩». إذا
ارتبطت قطعة آر إن إيه بتسلسل دي إن إيه الموافق، وليكن مثلًا
تسلسلًا في المادة الوراثية للباكتيريوفاج الدخيل، فسينشط
إنزيم كاس ٩ ويبدأ في قص هذا الدي إن إيه مُحطِّمًا جينوم
الفيروس ومُبطِلًا فعاليته. قد يبدو أن نظامًا يعمل بتحطيم
الدي إن إيه كهذا قد لا يجدر بنا استخدامه في خلايا الثدييات؛
لكنَّ قوته تنبع من وجود منظومات أخرى في الخلايا المضيفة
بإمكانها إصلاح الدي إن إيه المحطَّم. منظومة الإصلاح الأولى
يستحثُّها وجودُ فواصل في شريط دي إن إيه مفرد، وتُسمى
المنظومة «الإصلاح وفقًا لقالب»، حيث يعمل شريط دي إن إيه
مفرد آخر كأنه قالب يحمل المعلومات اللازمة لإصلاح الشريط
المفرد الممزَّق، ولأن الشريط السليم يحمل تسلسل
النيوكليوتيدات نفسَه الذي يحمله الشريط المحطم على جانبَي
موضع الفواصل؛ فإنه يساعده في إعادة بناء تسلسل
النيوكليوتيدات الناقص في هذا الموضع. في الظروف الطبيعية،
يتوفر الدي إن إيه «القالب» من الخلية نفسِها؛ أما في التعديل
الجيني فإن القائم بالتجرِبة يوفر هذا القالَب للخلية. في
إحدى الوسائل المشهورة حاليًّا لإجراء تعديلٍ جيني (شكل
٢-٩)، يختار الباحث موضعًا في الجينوم يريد
أن يُدخِل فيه البِنية الجينية، ثم يُضيف إلى هذه البنية من
الجانبين تسلسلًا من النيوكليوتيدات يطابق ما يحمله جزيءُ
الدي إن إيه الطبيعي في هذا الموضع. ثم يضيف هذه القطعة
المصطنعة من الدي إن إيه إلى الخلية ومعها إنزيم كاس ٩ وقطعٌ
من آر إن إيه المرشد؛ ليوجِّه الإنزيم إلى الموضع المرغوب فيه.
ينتج عن ذلك كسر في دي إن إيه الخلية، وحينها يُستخدم الدي
إن إيه الذي أضفناه للخلية قالَبًا لإصلاحه، وبهذا يدخل
تسلسلُ الدي إن إيه المستجِدُّ في الجينوم. نجد أن هذه
الآليَّة الموضحة في شكل
٢-٩ تعمل
بالفعل، لكنها معرَّضة لبعض الأخطاء، وقد نجد في النهاية أن
العديد من الخلايا لا يحتوي على البنية الجينية الجديدة؛ مما
يعني أننا نحتاج إلى خُطةٍ ما لرصد الخلايا الناجحة واختيارها
والتخلص مما عداها. وقد طُوِّرَت آلياتٌ أكثر تعقيدًا
باستخدام نُسخٍ مهندَسة من إنزيم كاس ٩ لتجنب هذه المشكلة،
لكنها تقوم على الفكرة الأساسية نفسِها. وفي العموم، يحاول
الباحثون أن يُدرِجوا التصاميم الجديدة في واحدٍ من مواضع
قليلة تُعرف بأنها «مواضع آمنة للهبوط»، وهي مواضع في الجينوم
يُرجَّح أن النشاط الطبيعي للخلية لن يُغيِّر فيها، وخصوصًا
في قدرتها على التعبير الجيني. وكما سبق ورأينا، يمكن أيضًا
استخدامُ مقاومة المضادِّ الحيوي لاصطفاء الخلايا الناجحة من
الخلايا التي قد تَلفِظ الجزءَ المضاف أو تُعطل عمله.
يظهر في آلية كريسبر/كاس ٩ للتعديل الجيني بشكلٍ مصغر ثلاثُ
سمات مهمة تُميز علم الأحياء التخليقي. أوَّلها أن هذه
التقنية تستند في الأصل إلى أبحاثٍ بحتة لم تكن في البداية
بغرضٍ تطبيقي. فجرى التعرفُ على كريسبر في فضاء استكشاف
الجينوم البكتيري، واستغرق الأمر عقودًا حتى باتت أساسَ أداةٍ
تطبيقية مهمة، ويَكاد الأمر نفسه يسري على كل شيء يستخدمه
علماء علم الأحياء التخليقي. أما السمة الثانية فهي أنها
تعتمد عقلية «قرصانٍ» يسطو على ما تطوله يده ويستخدمه لصالحه،
وفي هذه الحالة يظهر هذا في استخدام إنزيم كاس ٩ لتسخير
منظومة إصلاح الأعطاب في الخلايا لإدماج الجينات المصطنعة في
داخل الجينوم. والثالثة هي أن الآلية ليست مضمونةً مائة
بالمائة، وتُقابلنا أشياءُ غير متوقَّعة وغير مفيدة، ودائمًا
ما نحتاج إلى وسيلةٍ لانتخاب الخلايا التي طُبِّقت عليها
الآلية بنجاح والتخلص من البقية.
التداخل والاستقلالية
مادة علم الأحياء التخليقي هي مادة الحياة، وهذا يُشكل
مشكلةً محتملة. ربما ستحتفظ الجينات وعناصر التحكم فيها، التي
نستعيرها من الكائنات الحية التي تطورت فيها، ببعضٍ من
نشاطاتها الأصلية. حتى وإن استخدمناها في خلايا من نوع
الخلايا نفسه التي أتت منها نسختها الطبيعية في الأصل، فلا
يزال من المحتمل جدًّا أن يتفاعلوا مع أنظمة التحكُّم
الخلوية. ربما يُجاهد علماء علم الأحياء التخليقي للحدِّ من
هذا التفاعل بين الأنظمة المخلَّقة والطبيعية؛ أي لجعل
الأنظمة «مستقلة»، حيث تعني هنا أنها لا يؤثر بعضها في
بعض.
أحد أسباب فِعل هذا هو الأمان. فعندما تُستخدَم الأنظمة
البيولوجية المخلقة خارج المعمل، يحرص العلماء على وجود طرق
لضمان أن التشكيلات الجينية لن تعمل إلا داخل الكائن المضيف
المُصممة له، ولا يمكن أن تصمد في كائناتٍ أخرى حتى وإن
انتقلت إليها عن طريق الصدفة. إحدى الاستراتيجيات المتبَعة
لضمان الاعتماد الكامل على الكائن المصممة له هي صُنع
البروتينات التي يحمل شفرتها التشكيل الجيني باستخدام أحماض
أمينية غير طبيعية. تحمل الكائنات الطبيعية شفراتٍ وراثيةً
طولها ثلاث قواعد، وبالتبديل بين القواعد الممكنة تعطينا ٦٤
نمطًا ممكنًا. وتحتوي الخلايا على ٦١ نوعًا من الآر إن إيه
الناقل (
tRNA)، وكلٌّ منها
مختصٌّ بالتعرُّف على أحد هذه التباديل، ويحمل معه حمضًا
أمينيًّا معيَّنًا، بحيث إنه عندما يرتبط الآر إن إيه الناقلُ
بهدفه المكوَّن من ثلاث قواعد من خلال مُعَقِّد تخليق
البروتين (الريبوسوم)، سيُضاف الحمض الأميني الذي يحمله إلى
سلسلة الأحماض الأمينية التي تستطيل مكونةً البروتين (شكل
١-٢). ثلاثة من التباديل الممكنة
للقواعد الثلاثة ليس لها آر إن إيه ناقلٌ مقابل، وتؤدي وظيفةَ
رمز الإيقاف الذي ينهي إنتاج سلسلة الأحماض الأمينية. إذا
اخترنا أحد رموز الإيقاف في كائنٍ ما وبدَّلنا به كلما وجدناه
أيًّا من رمزَي الإيقاف الآخَرين، يصبح أحد رموز «الإيقاف»
غيرَ مستخدمٍ إطلاقًا، ويمكننا استخدامه ليعنيَ شيئًا آخر.
يمكن هندسة جينوم الكائن المضيف ليصنع آر إن إيه ناقلًا
جديدًا يتعرف على ما كان رمز «إيقاف» في السابق، وتصبح لديه
إنزيماتٌ تربط الآر إن إيه الناقلَ الجديد بحمضٍ أميني لا
يستخدم في الكائنات الحية على نحوٍ طبيعي، ليُصبح الحمضَ
الأميني الحاديَ والعشرين. لن يصبح تسلسلُ القواعد الثلاثة
الذي غيَّرنا وظيفتَه موجودًا في أيٍّ من جينات الكائن المضيف
التي تعبر عن بروتين، ولذلك ستتم كلُّ عمليات الخلية المضيفة
كما هي بدون تغيير، باستثناء إنتاج نوعٍ جديد من الآر إن إيه
الناقل. لكن إذا صمَّمنا تشكيلًا جينيًّا مخلَّقًا بحيث يضمُّ
تسلسل القواعد الثلاثة المُعاد توظيفه في بعض الجينات التي
تترجم إلى بروتينات، ثم وضعنا هذا التشكيل الجيني في هذه
الخلية المضيفة الخاصة، فستتخلَّق لدينا بروتيناتٌ تحتوي على
الحمض الأميني الحادي والعشرين وتعمل جيدًا. لكن في المقابل،
إن وجد هذا التركيب نفسه في خلية طبيعية من الفصيلة نفسِها أو
من فصيلةٍ أخرى، فلن يوجد فيها الآر إن إيه الناقل الجديد
الذي ينقل الحمض الأميني غير الطبيعي، وستفهم الخلية أن تسلسل
القواعد الثلاث ما هو إلا رمزُ «إيقاف»، ومن ثَم لن يتكون
البروتين المستجِد ولن يؤديَ وظيفته، وبهذا يتعطل دور التشكيل
الجيني.
الاستقلالية في علم الأحياء التخليقي هي مفهومٌ نسبي فحسب.
فالعمليات البيولوجية الأساسية جميعها، سواءٌ كانت عمليات
طبيعية أو تخليقية، تضغط على الموارد الأساسية في الخلية مثل
الطاقة والمواد الخام والإنزيمات المسئولة عن بعض العمليات
مثل عمليات نسخ الجينات ومضاعفتها. حتى عندما يكون النظام
المخلَّق مصمَّمًا بعنايةٍ فائقة لكيلا تتفاعل جيناته
وبروتيناته تفاعلًا مباشرًا مع جينات وبروتينات الخلايا
المضيفة، يمكن أن يتسبَّب التنافس على الموارد في تغيرات في
سلوك الخلية. لذلك يجب على المناصرين لدرجةٍ عالية من
الاستقلالية أن يُصمموا أنظمتهم بحيث تكون محدودة المتطلبات
من الخلية المضيفة، فلا تؤثر على عملياتها الحيوية ولا على
مدى أهليتها. والبديل هو أن ننسى أمر الاستقلالية، عندما تسمح
لنا اعتباراتُ السلامة، ونتقبل أن التفاعلات ستحدث لا محالة،
ونعمل على تصميم مجموعة مؤتلفة من النظام المخلق والخلية
المضيفة والبيئة بحيث تنجح هذه المجموعة المؤتلفة في أداء
المهمة المطلوبة بكفاءة.