علم الأحياء التخليقي والبيئة
التحديات البيئية في القرن الحادي والعشرين
يواجه العالم العديدَ من التحديات البيئية الملحَّة؛ موارد محدودة، وأراضٍ محدودة، وفقدان التنوُّع البيولوجي، وتلوث الأرض والماء والهواء، بالإضافة إلى تأثير التغيُّر المناخي الذي يُعتقَد أنه ناتجٌ جزئيًّا عن تلوث الهواء وتغيير استخدام الأراضي. يرى الكثيرون أن علم الأحياء التخليقي قد يكون وسيلةً فعالة لحلِّ بعض هذه المشكلات جنبًا إلى جنب مع مظاهر التقدم التقنية والاجتماعية والتشريعية الأخرى. من أمثلة المقاربات لحماية البيئة تقليل انبعاث غازات الدفيئة، واستخدام الرقعة الزراعية بكفاءة أكبر، بالإضافة إلى الكشف عن المُلوِّثات، والمداواة البيولوجية للبيئات الملوثة.
الوَقود الحيوي لتقليل انبعاث غازات الدفيئة
تحتفظ البكتيريا الخضراء المزرقة الطبيعية بأغلب الموادِّ التي تُنتجها بالبناء الضوئي بداخلها لتستخدمها بنفسها؛ مما يعني أنه لا بد من حصاد خلايا البكتيريا وتحطيمها لاستخلاص الوَقود منها. جمع العلماء بين تقنيات علم الأحياء التخليقي وجولات من التحوُّر والانتخاب للتعديل الوراثي على نوع من البكتيريا الخضراء المزرقة يُسمى «سينيكوسيستيس» ليُفرز كمياتٍ وافرةً من الأحماض الدهنية الحرة إلى السائل المحيط بها، وهذه الأحماض يمكن استغلالُها لصنع الديزل الحيوي. وكما هو واضح، فإنَّ هذه المُفرزات تُكلف الخلايا كثيرًا، وهي خلايا ضعيفة وتنمو ببطءٍ شديد.
في اللحظة الراهنة، يكمن أكبرُ عائق للتقدم في إنتاج الوقود الحيوي في الجانب الاقتصادي لا التقني. فالوقود الأحفوري الهيدروكربوني الرخيص نِسبيًّا أرخصُ من معظم الجيل الحالي من الوقود الحيوي، وإذا ما استثنينا الحكومات التي تفرض ضرائبَ أكثر عند استخدام الوقود الأحفوري أو التشريعات التي تفرض استخدام الوقود الحيوي، فلا يوجد حافزٌ حقيقي يدفع الصناعةَ نحو الاستثمار في الاتجاه الذي لن يراه المستهلكُ إلا سلعةً مُبالَغًا في قيمتها.
رفع كفاءة عملية إنتاج الغذاء
توجد فرصةٌ أخرى لجعل الزراعة أقلَّ إضرارًا للبيئة بتقليلِ اعتمادها على الأسمدة النيتروجينية كيميائية الصُّنع. فإنتاج هذه الأسمدة شرُّه في استهلاكه للطاقة (تستهلك العملية نحو ٣ بالمائة من الإنتاج العالميِّ للطاقة)، وكثيرٌ مما تُسمَّد به الأرض ينتهي به المطاف متسربًا من الحقول فيُلوث المياه الجوفية بدلًا من أن تستفيد به النباتات. كما أن نقل الأسمدة نفسه عمليةٌ مكلِّفة، وهذا يُشكل عائقًا آخَر أمام كثيرٍ من الدول النامية. لكن بعض النباتات (البقوليات كالفول والبازلاء) تستطيع امتصاصَ النيتروجين من الهواء بالتعاون مع البكتيريا التكافلية؛ حيث تُنتج البكتيريا أمونيا تحتوي على النيتروجين في داخل العُقَد الجذرية للنبات. وتُستخدَم البقوليات بالفعل في دوراتٍ زراعية لتعويض مستويات النيتروجين في التربة بين مواسم زراعة المحاصيل الأخرى، لكن علم الأحياء التخليقي زادَ من احتمالِ نقل نظام تثبيت النيتروجين هذا إلى الحبوب والمحاصيل الغذائية الهامة الأخرى. توجد استراتيجيتان أساسيتان لعمل هذا: هندسة النباتات وراثيًّا لتحمل العمليات البيوكيميائية اللازمة لتثبيت النيتروجين مباشرةً إلى النبات، أو هندسة النباتات التي لا تحمل عقدًا جذرية لتُكوِّن عقدًا جذرية تستضيف البكتيريا. على الأرجح لن تكون أيٌّ من الاستراتيجيتين سهلة.
يستخدم المسار البيوكيميائي لتثبيت النيتروجين إنزيمات تحمل شفرتُها جيناتٍ تُسمى جينات «نيف»، وهذه الإنزيمات تحتاج إلى عواملَ مساعدة تحمل عناصرَ معدنية، كما أن إنتاجها عمليةٌ معقَّدة تتطلب نواتجَ عمل العديد من الجينات. علاوة على أن هذا المسار البيوكيميائي لا ينشط إلا في البيئات قليلة الأكسجين، وهو ما قد يتحقَّق إذا وضَعْنا هذا المسارَ داخل ميتوكوندريا الخلايا التي تستهلك الأكسجين بكثافة. حتى لحظة كتابة هذه السطور، أُجرِيَت تجارِبُ عديدة لإثبات الفكرة واكتُشِفَت بعض مكونات هذا المسار في النباتات، بل إنه مؤخرًا اكتُشِفَت المصفوفة الكاملة لتثبيت النيتروجين في نبات التبغ والتي تتكون من ١٦ بروتينًا، وبعضٌ منها في الميتوكوندريا؛ لكن ما زلنا ننتظر تحقيق مسارات تثبيت النيتروجين هذه فعليًّا.
تتشكَّل العقدُ الجذرية من خلال حوار من تبادل الإشارات بين النبات والبكتيريا للتنسيق بينهما. تُطلق جذور النباتات في التربة مُركباتٍ تسمى الفلافونويدات، فتتنشط بكتيريا العقد الجذرية (التي تُسمى أيضًا «ريزوبيوم») وتُفرز جزيئات سكرية صغيرة معدَّلة تُسمى عوامل التعقُّد؛ تؤثر عوامل التعقد بدورها على أنسجة النباتات المجاورة لتحثَّها على النموِّ وتكوين العقد التي تغزوها البكتيريا. ويُكوِّن النبات غِشاءً يفصل بين البكتيريا وخلاياه ثم يتعايشان معًا؛ يُغذي النبات البكتيريا، وفي المقابل توفر البكتيريا للنبات النيتروجين المثبَّت الذي يحتاج إليه. هذا التسلسل معقَّد وتُسهم فيه العديدُ من الجينات لإرسال الإشارات ورصدِها، وإحداث تغيراتٍ تشريحية في النبات. نجحنا في التعرف على العديد من الجينات التي تشارك في هذه العملية، لكن ليس واضحًا لنا قدْرُ الدقة التي ستعمل بها معًا عندما توضع في نباتٍ جديد لتنجز العملية نفسها.
الكشف عن الملوِّثات
بعد إنشاء هذا النظام للمرة الأولى، عمل فريقٌ آخر شارك في نفس المسابقة من جامعة كامبريدج على تحسينه، وموَّل صندوقُ «ويلكام تراست» عمليات تطويره إلى منتَج يُستخدَم على أرض الواقع بالتعاون مع الهيئات الحكومية في نيبال. تضمَّنَت عملياتُ تطويره، في جملةِ ما تناولَت، تحزيمَ النظام وإحكامه بحيث يُستبعَد أن تتسرَّب الكائنات المخلقة إلى البيئة المحيطة وتُلوِّثَها، وحتى إن فعلَت ذلك فلن تصمدَ خارجه، وبذلك يُصبح استخدام التشكيل الجيني سهلًا وآمنًا. على الرغم من ذلك ليس التشكيل الجيني قيد الاستعمال فعليًّا بعد، والسبب جديرٌ بالاهتمام؛ لأنه يتعلق بالمسائل التشريعية والأخلاقية، وهو ما سنتعرَّض له في الفصل الأخير من هذا الكتاب.
المداواة البيولوجية للبيئة
تلويث الصناعة للماء والهواء والتربة من أبرز التهديدات البيئية التي نراها حولنا وأوضحها. فتسرُّب ولو حتى النَّزر القليل من المعادن الثقيلة (خصوصًا في الماء والتربة) قد يُسبب أزمةً لأن هذا القليل يتراكم، ويتركز فيما بعدُ في السلسلة الغذائية. فالكائنات الدقيقة تمتصُّ كمياتٍ بسيطةً منها من بيئتها المحيطة، ثم تتغذى عليها المفترسات التي لا تملك أجسامُها آليةً للتخلص من هذه المعادن، لذا تبدأ في التراكم. وتتغذى عليها كائناتٌ مفترسة هي الأخرى، وباستمرار سلسلة الافتراس يمكن أن تتراكم هذه المعادن في أجساد الكائنات حتى مستويات خطيرة. هناك مثالٌ شهير على هذا، معروفٌ باسم «مرض ميناماتا» وقد أصاب ما يربو على ألفي يابانيٍّ، والسبب فيه أن مصنعًا سرَّب كمياتٍ طفيفة من ميثيل الزئبق الذي نتج عن تفاعلٍ ثانوي للعامل الحفاز الزئبقي المستخدَم في صناعة الأسيتالدهيد. امتصَّت الهائماتُ المائيةُ الزئبقَ الذي تراكم بعدها في الأسماك والقشريات التي تغذَّت عليها تِباعًا، حتى وصَل الزئبق إلى مستوياتٍ سامة في البشر (بل والقطط) الذين تغذَّوا عليها. المُصنعِّون، شأنهم شأن جمهور العوام، يُهمهم بشدةٍ أن يتأكَّدوا من إزالة العناصر الثقيلة من النُّفايات الصناعية، لكن استخدام الطرق الكيميائية فقط قليل الفعالية و/أو مكلف جدًّا، خصوصًا عندما توجد آثارٌ بسيطة من الملوثات في كمياتٍ كبيرة من الماء. لكن ما دامت مشكلتنا الأساسية مع التلوث بالمعادن الثقيلة تنبع من تجميع أجسام الكائنات الحية وتركيزها لها، فربما يكون إعداد الكائنات الحية للتعامل معها فكرةً واعدة.
لدى العديد من البكتيريا قنواتٌ ناقلة لديها القدرة على امتصاص أيونات بعض المعادن كالنيكل والكوبالت، لكنها تُوازن ذلك من خلال مِضخَّات عالية الكفاءة تستطيع طردها من أجسامها. واستُخدِمَت تقنيات علم الأحياء التخليقي على بعض أنواع البكتيريا (كبكتيريا الإي كولاي مثلًا) لتُحسن من قدرتها على امتصاص النيكل والكوبالت بإضافة قنواتٍ ناقلة لها من كائنات أخرى، وللتخلُّص من نظام المضخات القادر على طردِها خارجًا، ولإضافة عوامل تلاصق لها. أثمر ذلك بكتيريا (معروفة باسم «نيكل/كوبالت باستر») بإمكانها مُراكَمةُ كميات كبيرة من هذه المعادن داخلها بامتصاصها من محاليلها المخفَّفة في دقائق معدودة، ثم تتكتَّل البكتيريا بعدها مُشكِّلةً غشاءً رقيقًا لزجًا بإمكاننا إزالتُه بسهولةٍ من السائل بما يحمله من معادن. لكنها على أي حال ما زالت في طور البحث والتطوير ولم تُستخدَم على أرض الواقع بعد. ولدينا مثالٌ آخر، وهو بكتيريا عُدِّلت وراثيًّا لتنتج بروتينًا يلتصق بالمعادن (مأخوذ من الثدييات) يُسمى «ميتالوثيونين»، فصار بإمكانها التقاطُ الكادميوم من التربة، وهذا له أثرُه في زيادة إنتاجية النباتات. بإمكان النباتات الطبيعية أن تجمع المعادن من التربة وتراكمها داخلها، وقد استُعمِلَت لمعالجة البيئة بِضعَ سنين بالفعل، وهناك حماسٌ مُتَنامٍ لاستخدام تقنيات علم الأحياء التخليقي لتحسين قدرتها على امتصاص المعادن، بحيث لا تتسبَّب هذه العملية في قتلها في النهاية. وإن كانت المعادن التي نتحدَّث عنها نفيسة، ربما يُعد استخلاصها من المخلفات المائية نوعًا من التنقيب الرخيص عن المعادن (قد يُطبق ذلك مثلًا لتجميع المعادن النفيسة من المَصارف على جانبَي الطرق التي قد تتلوَّث بالجسيمات المتناثرة من المحولات الحفَّازية لعوادم السيارات).
يمكن استخدام المداواة البيولوجية على طائفةٍ واسعة من الملوثات العضوية علاوةً على المعادن. من أمثلة الأنظمة المبنيَّة على علم الأحياء التخليقي التي أثبتَت فعاليتها في ذلك، مَعمليًّا على الأقل، نوعٌ من البكتيريا معدَّلٌ ليُعالج التربة الملوثة بالمفرقعات، أو بمركَّبات الفوسفات العضوية، أو الأترازين، أو المبيدات الحشرية الشبيهة بالبيريثرين، ومياه الصرف الملوَّثة بالأدوية والكافيين.
في حالة العديد من الملوثات، لا يوجد نظام إنزيمي بسيط في أي نوع من الكائنات يمكن نقلُه إلى عائلٍ بكتيري نريده. لذا قد تكون ثَمة حاجةٌ إلى تصميم وإنتاج مسارات أيضية جديدة تمامًا باستعارة وتهيئة العديد من الإنزيمات والنواقل من كائناتٍ أخرى، وهذا التوجُّه يستخدم القوة الحقيقية لعلم الأحياء التخليقي. يُدَعَّم هذا التوجُّه بإنشاء قواعد بيانات للعمليات الأيضية، مع استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي لتقترح مساراتٍ للوصول من مادةٍ ما إلى مادةٍ نهائية مطلوبة، على نحوٍ يُشبه كثيرًا الطريقةَ التي يَرسم بها نظامُ المِلاحة بالقمر الصناعي أفضلَ مسارٍ للوصول من مكانٍ إلى آخر.
معوقات الاستعمال التجاري
لعلك لاحظتَ نمطًا متكررًا في هذا الفصل، وهو أن الأنظمة المصنَّعة تُحقق نجاحًا في المعامل، لكنها لم تُسهم بعدُ في تغيير العالم من خلال تطبيقاتٍ حياتية. ثمة سببان لهذا؛ أحدهما اقتصادي، والآخَر اجتماعي. فما يعطل إنتاج الوقود الحيوي هو عواملُ اقتصادية في المقام الأول، فيمكننا القول بدون مواربةٍ إنه ما دام الوقود الأحفوري أرخصَ للمشتري من الوقود الحيوي، فلن يكون هناك حافزٌ لكي يستثمر أحدٌ في تطوير أنظمة لإنتاج الوقود الحيوي في الصحراء من الطحالب مثلًا. في المقابل، ليست المسائل الاقتصادية هي ما يُعرقل تطبيقات الكشف عن الملوثات ومداواة البيئة بيولوجيًّا، بل إنها عمومًا تشجعها، لكن ما يعرقلها هو القيود التشريعية الشديدة المفروضة لضمان أن الكائنات المعدلة وراثيًّا لن تتمكن من الإفلات؛ ومِن ثَم الترعرُع في المحيط البيئي. فمحاوطة البكتيريا بإحكامٍ وحصرها عمليةٌ صعبة، خصوصًا عند مداواة مساحاتٍ شاسعة من الأراضي أو حتى بحيراتٍ كاملة من المياه الملوثة. ومع أن تطبيقات علم الأحياء التخليقي التي تناولناها في هذا الفصل تُعد نوعًا ما سهلةً تقنيًّا، فإن المفارقة تكمن في أنها ربما تكون من أبطأ التطبيقات في ظهور أثرٍ لها في حياتنا اليومية. تتَّسم التطبيقات الطبِّية التي سنراها في الفصل الرابع بأنها أعقدُ من هذا، لكن لأنها تُمارَس في بيئاتٍ معملية شديدة الإحكام أو تُطَبَّق على خلايا من الثدييات لا يمكنها أن تعيش في البيئة على نحوٍ مستقل، فقد لحقَت بالتطبيقات البيئية البسيطة وسبقتها، وباتت ترى النور الآن وصارت تُنقذ أرواح الكثيرين.