علم الأحياء التخليقي والرعاية الصحية
يمكن الاستفادة من علم الأحياء التخليقي في الطب بطرقٍ شتى؛ فيُمكنه مثلًا المساعدة في تحضير العقاقير، وفي تطوير عمليات الملاحظة والتشخيص، ومؤخرًا بدأ يُستخدم لتعديل الخلايا البشرية وإكسابها خصائص مُصمَّمة لمعاونة المرضى. وفي الحيز البحثي بدأ يُطبَّق لبناء أنسجةٍ جديدة تمامًا. وتستلزم التطبيقات الطبية معاييرَ أمانٍ عاليةً جدًّا لضمان سلامة المريض، لكن هذا ينطبق على كل الأبحاث الطبية، وتقنيات علم الأحياء التخليقي ليست مستنكَرةً من الناحية الاقتصادية مقارنةً بالبدائل التقليدية. في أغلب هذه التطبيقات، احتمال أن تهرب الكائناتُ المعدلة إلى البيئة الطبيعية غيرُ قائم على الإطلاق؛ فالمخاطرة هنا محصورةٌ في المريض الذي يحتاج إلى أن نساعده في حلِّ مشكلةٍ ما. ولذلك فإن الطب يُعد عمومًا من أوائل المجالات التي يحقق فيها علم الأحياء التخليقي إسهاماتٍ ملموسةً على أرض الواقع.
تخليق العقاقير باستخدام مسارات أيضية معدَّلة
تخليق حمض الأرتميسينيك هو أولُ نجاحٍ كبير لعلم الأحياء التخليقي يظهر في تطبيقاتٍ على أرض الواقع. وتظهر فيه قدراتُ هذا التوجه جنبًا إلى جنب مع التحديات الهندسية الواجب تجاوزها لتصميم مسارات بيوكيميائية جديدة تعمل بكفاءة، التي تواجه الجميع وفيهم أبرزُ خبراء المجال على مستوى العالم. استُخدِمَت طرقٌ مشابهة إلى حدٍّ كبير لإعادة تهيئة العمليات الأيضية في بعض الميكروبات سهلة النمو لتُصنِّع نواتجَ غير عادية من نباتات معينة، وذلك في إنتاج المواد الأفيونية مثل المورفين والكودايين. وعلى نفس النهج، نُقِلَ إنزيم من نبات الجينسنج إلى الخميرة مع تهيئة الظروف اللازمة ليعمل بكفاءةٍ داخلها، فصارت تُنتج لنا عقار «جينسنجوسايد آر إتش ٢» المضادَّ للسرطان في تجارِبَ أولية أُجرِيَت على نطاقٍ صغير. ومجددًا، نجد أن تحقيق هذا الهدف استلزم خطواتٍ لم تكن متوقَّعةً في البداية، مثل تثبيط المسارات البيوكيميائية في الخميرة التي قد تُحلل المنتج المرغوب فيه.
تطوير أسلحة الجهاز المناعي
هناك زخمٌ كبير في أبحاث السرطان يستهدف إقناع الجهاز المناعي بأن يرى الورمَ تهديدًا خبيثًا بدلًا من تسامحه معه. غالبًا ما تظهر على سطح الخلايا السرطانية جزيئات غير معتادة ينبغي نظريًّا أن تكون علامةً على كونه دخيلًا يجب أن يستهدفه الجهازُ المناعي. لكن للأسف غالبًا ما تُشَجِّع بيئةُ الورم الجهازَ المناعي على تقبُّله بدلًا من تحفيزه ضدَّه. وشهدَت الأعوام الأخيرة أبحاثًا لتطبيق تقنيات الهندسة الوراثية لتسليح الخلايا المناعية بالعُدة التي تحتاج إليها من البروتينات المخلَّقة صناعيًّا للتعرف على الورم، ومن ثَم «إجبارها» على التعامل معه كدخيل بلا تهاون. أغلب هذه التطبيقات تُركز على الخلايا التائية القاتلة، التي يستخدمها الجسم للفتك بخلاياه إن ظهرَت عليها بروتيناتٌ غريبة، كما تفعل حين ينمو الفيروس بداخلها.
ويمكن من حيث المبدأُ تطبيق فكرة الخلايا التائية ذات مستقبلات الأنتيجين الخيمرية؛ لاستهداف أهدافٍ أخرى غير الأورام، وفي ذلك مثلًا الفيروسات والطفيليات الأخرى، لكن مسار العدوى يجب أن يكون بطيئًا بما يكفي لتتمَّ هندسة الخلايا وراثيًّا قبل فوات الأوان. وهذا ما لا نملكه حتى الآن في حالة الفيروسات سريعةِ النمو.
تصنيع لقاحات في مواجهة الأوبئة الجديدة
تخلَّلَت الأوبئة التاريخَ البشري بطوله (وأسهَمَت في تشكيله في غالب الأحيان)، وما زلنا معرَّضين لظهور أوبئةٍ جديدة، خصوصًا من الفيروسات التي ما زلنا لا نعرف إلا القليلَ من الأدوية الفعالة معها. لنتصوَّر المخاطر الممكنة؛ دَعونا نتذكر أن الوباء الذي تسبَّب فيه فيروس الإنفلونزا «إتش ١ إن ١» عام ١٩١٨ قتَل ما بين ٣ و٥ بالمائة من البشر على مستوى العالم، وهو أكثرُ ممَّن قُتِلوا جرَّاء القتال في الحرب العالمية الأولى. وقتل الوباءان الناتجان عن فيروسَي الإنفلونزا «إتش ٢ إن ٢» و«إتش ٣ إن ٢» نحو مليون إنسان في خمسينيَّات وستينيَّات القرن الماضي. ونحن في الحقيقة لا نملك عقاقيرَ ناجعةً لعلاج الإنفلونزا، لكن اللقاحات تعمل جيدًا ما دامت مخصَّصة للسلالات الصحيحة. المشكلة في تفشِّي سلالاتٍ جديدة هي أنه يجب أولًا فصلُ الفيروسات وإكثارها؛ ومن ثَم تُرسل إلى مصنِّعي اللقاحات. عند تفشي فيروس «إتش ١ إن ١» عام ٢٠٠٩، استغرق هذا الأمر ثلاثة أشهر. ثمة طريقٌ مختلف قليلًا يعتمد على علم الأحياء التخليقي، واختبرَته مجموعةٌ من المختبرات عام ٢٠١٣ عند تفشي فيروس «إتش ٧ إن ٩»، ويبدأ بقراءة تسلسل الفيروس عند فصله أول مرة. بعد ذلك يُرسَل هذا التسلسل إلى مُنتجي اللقاحات مباشرةً، بسرعة إرسال بريد إلكتروني؛ وبعدها يستخدمونه لتصميم فيروس معملي حميد؛ لتحفيز المناعة ضد الفيروس الحقيقي، ويُدخِلونه إلى خلايا لإكثاره لإنتاج اللقاح. وعند الاختبار التجريبي لهذه العملية استغرق الأمر نحو ١٠٠ ساعة وليس ثلاثة أشهر.
ثمة تقنية أكثرُ جرأةً تهدف للتنبؤ بالسلالات الفيروسية التي لم تظهر بعد، لكنها قد تُسبب أذًى بالغًا إن ظهرَت. فقد كانت هناك مخاوفُ طويلة الأمد من احتمال أن يتحوَّر فيروس إنفلونزا الطيور «إتش ٥ إن ١» إلى شيء قد يتسبَّب في وباءٍ بشري. يستطيع فيروس «إتش ٥ إن ١» الحاليُّ أن ينتقل من الطيور إلى طيورٍ أخرى ومن الطيور إلى الثدييات، لكنه لا يستطيع الانتقالَ من ثديياتٍ إلى ثدييات أخرى. يجب علينا هنا أن نسأل ما إذا كان من الممكن أن يتحور لينتشر بين الثدييات، وما الذي بمقدورنا فعلُه في هذه الحالة. حاول رون فوشيير وزملاؤه في هولندا البحث عن إجابةٍ لهذه السؤال بهندسةِ ثلاث طفرات وراثية تدخل على فيروس الإنفلونزا لتجعله مشابهًا لما يُصيب الثدييات. صار بإمكان الفيروس قتلُ حيوانات النمس، لكنه لم يكتسب القدرة على الانتشار فيما بينها. ثم حقَن العلماء حيوانات النمس بنُسخٍ من الفيروس مأخوذةٍ من نمسٍ آخر قتله الفيروس، وكرَّروا هذه العملية مِرارًا، فوجدوا في النهاية أن الفيروس تطوَّر إلى سلالةٍ جديدة تستطيع الانتقال بين حيوانات النمس. وهذا بالتحديد ما كان علماء الفيروسات يخشَون من إمكانية حدوثه، مع فارق أن التجارِب التي تحوَّر فيها فيروس «إتش ٥ إن ١» إلى سلالةٍ قاتلة تنتشر بين الثدييات جرَت في بيئةٍ آمنة تمامًا في معاملَ معزولة ومؤمَّنة وليس في البرِّية. كرَّر العلماء مرارًا الجزئية العشوائية من التجربة (أي نقل الفيروس من نمس ميت إلى نمس حي، والانتظار حتى تحدث طفرات)، وأتبعوها في كل مرة بقراءة تسلسل الفيروس الناتج. وجدوا أن طفرتين ظلَّتا تظهران باستمرار، بالإضافة إلى الطفرات الثلاثة الأُوَل التي صمَّمها الباحثون، مما يوحي بأنها طفراتٌ مهمة لانتقال الفيروس بين الثدييات. ويبدو نظريًّا أن بابًا عظيمًا لتأمين أنفسِنا من الأوبئة ينفتح أمامنا من خلال هذا التوجُّه في دراسة الفيروسات (أي بأن نُخلِّق في المعامل عمدًا أكثرَ ما نخشى ظهورَه في الطبيعة) التي يتبعها التأهُّب بصنع اللقاحات اللازمة.
علم الأحياء التخليقي والتشخيص
تأتي عملية التشخيص قبل أي محاولات علاجية. وأهم ما نبحث عنه في أي اختبار تشخيصي هو دقَّته، كما أن السرعة ضروريةٌ في الحالات الحادَّة كاحتمال وجود عَدوى مثلًا. عندما يُشتبه في وجود عدوى بكتيرية، يكون الاختبار التشخيصي المعتاد هو عملَ مزرعةٍ بكتيرية من عينةٍ على طبقٍ من الآجار يعقبه فحصُ خصائص المستعمرات البكتيرية المتكونة (مثل اللون والشكل والرائحة وهكذا)، وقد يُضاف لهذه الأطباق مضادٌّ حيوي، لقياس حساسية البكتيريا ضد طائفة من المضادات الحيوية. تكمن المشكلة في أن هذا يستغرق وقتًا طويلًا (في المعتاد تُترك المزرعة طَوال الليل)، وخلال هذا الوقت يتلقَّى المريض علاجًا قائمًا بقدرٍ كبير على تخميناتٍ واعية. وهناك اختبارات نتائجها أسرعُ تعتمد على الأجسام المضادَّة أو تفاعل البلمرة المتسلسل (الذي تناولناه في الفصل الثاني)، لكن هذه الاختبارات يمكن أن تُناسب مجموعةً محدودة جدًّا من البكتيريا الشائعة. ما زال أحد تطبيقات علم الأحياء التخليقي في هذا الصدد في مرحلة التجريب، وهو عن طريق هندسة الباكتيريوفاج وراثيًّا ليحملَ «جينات مُخبِرة» تجعل البكتيريا المصابةَ بالعدوى تبعث ضوءًا. ويهاجم كلُّ نوع من الباكتيريوفاج نوعًا مختلفًا من البكتيريا، ويمكن تعديلها وراثيًّا لتصبح أكثر تخصصًا. ويمكن استخدام خليطٍ متنوع من الباكتيريوفاج المعدل بإضافة الجينات المُخبِرة له للكشف عن نوع البكتيريا سريعًا. نجحَت هذه الأنظمة التجريبية في الكشف عن وجود بكتيريا اليرسينيا الطاعونية في الإنسان، وهي البكتيريا المسببة للطاعون الدبلي، خلال ساعتين.
تتطلَّب عملية التشخيص المعتادة تجهيزاتٍ معمليةً لا بأس بها، وهذه مشكلةٌ في الدول النامية أو في رحلات استكشاف البرِّية. لذا حاول جيمس كولنز وزملاؤه التعاملَ مع هذه المشكلة بعمل خليطٍ من الدي إن إيه والإنزيمات اللازمة لنسخ الجينات ثم ترجمتها إلى بروتينات، وتجفيف هذا الخليط بالتجميد على قطعةٍ من الورق. جعلَت الأنظمة المخلقة تكلفةَ هذه الطريقة ضئيلةً للغاية (بضعة بنسات) وتطويرها لا يستغرق وقتًا؛ لأنه لا حاجة إلى إدراجها داخل خلايا ما في كل مرة نُجري فيها الاختبارات. واختبارًا لهذا الفكرة؛ طوَّر الفريق دائرةً بيولوجية مخلَّقة بسيطة، تقوم هذه الدائرة في المعتاد بتثبيط إنتاج بروتين فلوري معيَّن، لكن في حالة وجود الحمض النووي لسلالة معينة من فيروس الإيبولا فإنها تسمح بالتعبير عن جين البروتين الفلوري. وعلى الرغم من تكلفة النظام البسيطة جدًّا فإنه تمكَّن من الكشف عن وجود فيروس الإيبولا، بل التمييز بين سلالاته الموجودة في دول مختلفة، حتى مع وجوده بكميات ضئيلة.
أُجريت اختباراتٌ على الفئران لأغراض تجريبية بحتة، حيث عُدِّلت بكتيريا أمعاء الفئران وراثيًّا لكي تُراقب الحالة الفسيولوجية لجسم الكائن المضيف، وتُبلغنا بالنتائج عندما تخرج مع الفضلات. إن طبَّقنا الفكرة نفسَها على البشر، فلربَّما يُصبح من الممكن مثلًا أن نبنيَ حماماتٍ تُترجم إشارات هذه البكتيريا، وتُحذرنا إن لم يكن شيءٌ ما على ما يرام.
أنظمة فسيولوجية مُخَلَّقة
يُعاني الكثير من الناس من أمراضٍ ناتجة عن أن جزءًا مهمًّا من الجسم لم يؤدِّ مطلقًا وظيفته كما يجب، أو توقَّف عن العمل نتيجةَ إصابةٍ ما، غالبًا ما تتعلق بالمناعة الذاتية. من أمثلة ذلك داء السكَّري من النوع الأول، والطريقة التقليدية للسيطرة عليه هي حقن الإنسولين في أجسام المرضى الذين لا تصنع أجسامُهم كمياتٍ كافيةً منه؛ وهي مسألةٌ مرهقة ويُصاحبها ضبطٌ دقيق للنظام الغذائي ولعبٌ للرياضة؛ لأن جرعة الإنسولين ما هي إلا تقديرٌ للكمية التي يحتاج إليها الجسم، وليس الكمية التي يُفرزها الجسم استجابةً لقياسه لاحتياجاته طَوال الوقت. هناك ثلاثة اتجاهات رئيسية في الأبحاث الطبية لحلِّ هذه المشكلة. يتمثَّل الاتجاه الأول في بناء مِضخَّات إلكترونية تُفرز الإنسولين حسَب كمية الجلوكوز في الدم في أي لحظة، وتوجد بالفعل أنظمةٌ من هذا القبيل قيد الاستعمال. ويوجد اتجاه آخَر يتمثل في استخدام تكنولوجيا الخلايا الجذعية لمحاولة إنتاج أو استبدال الخلايا الناقصة، ولكن قد تُواجهنا معضلةٌ في هذا الاتجاه عند مواجهة الأمراض التي تظهر بسبب تدمير الجهاز المناعي لخلايا مهمة كما في السكري من النوع الأول؛ لأنه قد يُدمر الخلايا الجديدة أيضًا. يستخدم الاتجاه الثالث علم الأحياء التخليقي ليُصمم أنظمةً جديدة تؤدي الوظيفة المطلوبة لكن في نوعٍ آخَر من الخلايا. حتى لحظة كتابة هذا النص، لم تُجرَّب مثلُ هذه المسارات البيوكيميائية في البشر، لكنَّ أداءها جيدٌ في الاختبارات على الحيوانات.
شرَع الباحثون في اختبار القدرة العلاجية لهذه الخلايا بإدخالها في أجسام فئرانٍ مصابة بالسُّكري من النوع الأول. كانت النتيجة أن عادت مستوياتُ الإنسولين في الجسم إلى طبيعتها، وانخفضَت مستويات السكر في الدم إلى القيم الطبيعية خلال ثلاثة أيام، وقد كانت قبلها مرتفعةً جدًّا طَوال الوقت في هذه الفئران، واستقرَّت على هذا النحو حتى انتهاءِ هذه الدراسة بعد عدة أسابيع.
طوَّر باحثون نظامًا مشابهًا للتعامل مع مرَض النقرس في الفئران. النقرس هو التهابٌ في المفاصل ينتج عن تبلور حمض البوليك (والمعروف أيضًا باسم حمض اليوريك) وترسُّبه فيها. في المعتاد يُعالج النقرس إكلينيكيًّا بأدويةٍ تَزيد إخراج الكُلْيتَين لحمض البوليك من الجسم، وهناك أيضًا أدويةٌ جديدة نسبيًّا تُقلل كمية حمض البوليك التي يصنعها الجسم ابتداءً. نظريًّا، يبدو أن هذه المشكلة يمكن أيضًا أن تُحَلَّ إن تَمكنَّا من التخلص من حمض البوليك في سوائل الجسم. وهناك بالفعل إنزيمات تقضي على حمض البوليك؛ كإنزيم أكسدة اليورات الذي تصنعه بعض الفطريات مثلًا. لكن المشكلة هي أن وجودَ كمياتٍ صغيرة من حمض البوليك مفيدٌ للجسم؛ حيث يحميه من الإجهاد التأكسدي؛ لذا ليس من المنطقي أن نُدخل تعديلاتٍ على الجسم ليُنتج الكثير من إنزيم أكسدة اليورات. ما نحتاج إليه هو نظامُ تحكم مغلق (كما فعلنا مع داء السكري)؛ لتتمكَّن الخلايا من تعيين كمية حمض البوليك الموجود، وتتخلَّص مما يَزيد عن حاجة الجسم فقط.
يوجد الكثير من الأمراض الأخرى، بعضها واسع الشيوع، التي يمكننا نظريًّا أن نُكافحها جيدًا باستخدام تحكُّمٍ مغلق؛ مثل نسبة الكولسترول وضغط الدم ونشاط آليات الالتهاب في الجسم مع التقدم في العمر. استخدَمَت التجارِب التي ذكرتُها توًّا والتي أجريت على الفئران خلايا محصورةً داخل نظام يدخل إلى الجسم المضيف، وليس خلايا تتجوَّل بحريةٍ داخل الجسم، ولم تُجرَ أيُّ تعديلات على جينوم الفئران. ومن ثَم لن يتطلب استخدامُ مثل هذه الأنظمة على البشر قَبولًا أخلاقيًّا لهندسةٍ وراثية للبشر أنفسهم، بل ربما لن يكون إدخالها إلى جسمٍ أشقَّ عليه من زرع الأجهزة الشائعة نسبيًّا من قَبيل مُنَظِّمات القلب ومِضخَّات الإنسولين وما شابه ذلك من الأجهزة. لكن على أي حال ما زالت ثَمة مخاوفُ جِدِّية فيما يتعلق بضوابط السلامة إن رفض الجسم النظام أو تسربَت الخلايا المعدلة عرَضًا في جسم الكائن المضيف. لذا ربما نجد الطبَّ البيطري متصدِّرًا لاستخدام الأنظمة الفسيولوجية المعدَّلة قبل أن نراها تُستخدَم في البشر.
الأنسجة المُصمَّمة
هندسة الأنسجة هي عملية بناء أنسجةٍ جديدة لتحلَّ محلَّ جزءٍ من الجسم تَضرَّر جراء إصابةٍ ناجمة عن صدمةٍ أو عدوى، أو لم يكن يعمل جيدًا منذ البداية نتيجةً لمرض خلقي. في الوقت الحالي، تنحصر التطبيقات الطبِّية لهندسة الأنسجة في بناء أجزاء بسيطة نسبيًّا ذات خلايا متجانسة (مثل الغضاريف والعظام والجِلد وما إلى ذلك)، وتبدأ في العموم بصُنع هيكلٍ صناعي قابلٍ للتحلُّل حيويًّا يمكن للخلايا المطلوبة أن تستوطنَه، ويمكن زراعته داخل جسم المريض، ومع مرور الوقت تستبدل الخلايا الهيكل وتنتج موادَّ عضويةً كالكولاجين مثلًا لتحلَّ محلَّه، فتُصبح لدينا في النهاية بِنْيةٌ قريبةُ الشبَه ببِنية الجسم الطبيعية. ما زال هنالك حاجةٌ ملحَّة لإنشاء أنسجةٍ أعقد مثل أنسجة الكُلى والحبل الشوكي، لعلاج المرضى الذين يحتاجون إلى زراعة أعضاء، بل ربما نحتاج إلى أن نستحدثَ أنسجةً غير طبيعية تُصمَّم حسب الطلب لتصليح عطب ما في الجسم، أو لتكون سطحًا موائمًا بين الجسم وبين أعين أو آذان أو أطراف صناعية.
تبدأ إحدى أفضل التقنيات الواعدة في تخليق الأنسجة المعقَّدة باستخدام الخلايا الجذعية (وهي خلايا تشبه خلايا الجنين في مراحله الأولى؛ حيث يمكنها أن تتمايز مكونةً أيَّ جزء من أجزاء الجسم). تبدأ عملية تصنيع الأنسجة، ولتكن مثلًا أنسجة العضلات القلبية، من الخلايا الجذعية بتعريضها لتسلسلٍ من الإشارات كالتي تتعرَّض لها خلايا جنينٍ حقيقي إن كانت ستُصبح في النهاية جزءًا من القلب. وهذا التعريض يعني إضافةَ ما يلزم من الهرمونات والعقاقير وما إلى ذلك على الخلايا في طبق استنبات. إن أُنجِزَت هذه المهمة كما يجب، فستتمايز الخلايا في النهاية لتصنع النسيج المطلوب (في حالة أنسجة القلب، يمكن أن نراها تنبض داخل طبق الاستنبات). لكن المشكلة هنا أنه مع أن الخلايا تُنسق فيما بينها لتترتَّب مكوِّنةً النسيجَ المطلوب، فإنها لا تصنع شكل عضوٍ كامل، لأن هذه العملية تتحدَّد في الطبيعة عن طريق تفاعلاتٍ بين أجزاء الجنين الأخرى، ولا يتأتَّى ذلك للخلايا الجذعية في الطبق. يتساءل بعضُ علماء الأنسجة المتصدرين هذا المجالَ عمَّا إذا كان يمكن لعلم الأحياء التخليقي أن يُساعدهم في تعديل الخلايا — ليس خلايا جذعية وإنما خلايا مساعدة — لتُعطيَ النسيجَ المستنبت المعلوماتِ المكانية التي يحتاج إليها. ميزة هذه الفكرة، إن نجَحْنا في تطبيقها فعلًا، أنها تُغنينا عن التعديل في الخلايا الجذعية نفسِها، مما يُقلص من خطر حدوث تعقيدات غير مقصودة فيها؛ فالخلايا المساعدة هي وحدها التي ستحمل التراكيبَ البيولوجية المصطنعة، ويُمكننا هندستها بحيث تقتل نفسها في نهاية العملية.
يحدث معظم تطور الأنسجة الطبيعية في الرحم، ويعتمد على بضع عمليات أساسية تقوم الخلايا بكلٍّ منها وفق توقيتاتٍ وكمياتٍ وترتيبات معيَّنة، لبناءِ مختلِف أجزاء الجسم. من هذه العمليات التضاعف السريع، وانتحار الخلايا وهجرتها، والاندماج بين خليتين، والتلاصق بين الخلايا، وتكوين مسطَّحات خلوية، وثني هذه المسطحات (وهذا قد يشتمل على صُنع تراكيبَ أنبوبية). تتم هذه العمليات من خلال تبادلٍ كثيف للإشارات بين الخلايا. كخطوةٍ أولى لنتمكَّن من تصنيع أنسجة مصممة، بدأ علماء علم الأحياء التخليقي ببناءِ مكتبة صغيرة للأنظمة الجينية المستحدثة التي يمكن وضعها في الخلايا البشرية بحيث يؤدي كلٌّ منها عند تنشيطه واحدةً فقط من هذه المهام. أظهرَت هذه الأنظمة الجينية نجاحًا عندما جُرِّبَت في مستنبتاتٍ خلوية في غاية البساطة، لكنها لم تُربَط بعد بمنظومةِ تحكم خلوي أكبر لتُثمر شيئًا مفيدًا. ولا يسَعُنا سوى الانتظار لنرى ما إن كان سيتضَّح أن هذا أمرٌ سهل أو غايةٌ في الصعوبة.