علم الأحياء التخليقي في خدمة البحوث الأساسية
اعتمد تأسيس علم الأحياء التخليقي على قاعدة عريضة جدًّا من المعارف الأساسية حول الكيفية التي تعمل بها الجينات والبروتينات والخلايا والأنسجة الحية. ومع أنه كان يستمدُّ زاده من هذه الأبحاث البحتة، فإنَّه نما وبلغَ مبلغًا يُمَكِّنه من أن يبدأ في تسديد دينه ويزود العلم بأدوات معقدة لتحليل الأنظمة الطبيعية، ولاختبار النظريات والأفكار المطروحة. والأمثلة التي سنعرضها في هذا الكتاب ما هي إلا غيض من فيض.
أدوات للبحث
لطالما كان محبِطًا لعلماء الأحياء أن ينظروا إلى الفارق الشاسع بين حجم الأجهزة الخلوية متناهيةِ الصغر والأجهزة الضخمة التي يستخدمونها لعملية القياس. على سبيل المثال، تعتمد الأنظمة الكهربية للخلايا العصبية على أغشية بروتينية أبعادها في حدود النانومترات، في حين أن قياس عملية إطلاقها أو تحفيزها عادةً ما يعتمد على تياراتٍ كهربية تسري في إبر. من الصعب التحكمُ في مكان الإبرة بدقَّة، ووجودها في جسم حيوانٍ في وعيه قد يؤثر على سلوكه الطبيعي، هذا إلى جانب الاعتبارات الأخلاقية الواضحة في قضية غرز الإبر في مخ بعض من الحيوانات العليا. ويعد الضوء مثالًا على الأدوات التي يستطيع العلماء التجريبيُّون استخدامها لاستهداف الأنظمة ذات الأبعاد الميكروية وتحليلها، لكن للأسف أغلب الخلايا العصبية لا تتفاعل مع الضوء ولا تُنتجه. لكن علم الأحياء التخليقي يوفِّر وسيلةً لوضع أجهزة بروتينية دقيقة في حدود النانومترات داخل الخلايا لتترجم الضوء الساقط عليها لمحفز لإطلاق للخلايا العصبية، أو تُعْلِمنا عند حدوث الإطلاق بأن تبعث ضوءًا.
يمكن أيضًا أن يُستخدم التحكُّم الضوئي في نشاط الخلايا العصبية لاختبار النظريات المطروحة عن فيسيولوجيا الحيوانات العُليا. إحدى المشكلات ذات الأهمية الاجتماعية الكبيرة هي الأساس الفسيولوجي للإدمان. واستنادًا إلى أن السلوكيات الإدمانية متشابهة رغم التباين الهائل في المواد والأنشطة الإدمانية، سواءٌ القانوني منها أو غير القانوني، ظهرَت نظرياتٌ منذ سنوات عديدة تقول بأن إدمان العقاقير المخدرة ليس إدمانًا للعقار نفسِه، بل لتأثير هذا العقار على المخ؛ مما يعني أنه نوعٌ من الإدمان الداخلي للمستويات العالية من النواقل العصبية الطبيعية المرتبطة بالمتعة، التي يصنعها المخُّ طبيعيًّا؛ استجابةً لمؤثرات خارجية. والدوبامين أحد المرشحين لتحمُّل مسئولية هذا «الإدمان الداخلي»، بتأثيره في المنطقة السقيفية البطنية من المخ. وفي ورقةٍ بحثية منشورةٍ حديثًا، اختبر فينسنت باسكولي وزملاؤه هذه الفكرة بأن عدَّلوا في خلايا الفئران لتحمل تشكيلًا جينيًّا مخلقًا يحتوي على بروتين يُترجم الضوء إلى إثارة عصبية، مع نظامٍ لإعادة ترتيب الجينات؛ لضمان أنه لن يكون نشطًا إلا في الخلايا العصبية المسئولة عن صُنع الدوبامين في المنطقة السقيفية البطنية. كما أدخل الباحثون جراحيًّا ليفةً ضوئيةً يمكنها أن توصل الضوء من جهاز إلكتروني خارجي إلى داخل هذه المنطقة في المخ. وُضِعَت الفئران في حيزٍ للعيش يمكنها فيه أن تضغط ذراعًا معيَّنةً تتصل بهذا الجهاز الإلكتروني، الذي يرسل بدوره نبضاتٍ ضوئيةً إلى داخل مخِّ الفئران؛ لتنشيط الخلايا العصبية المنتجة للدوبامين. تعلمَت الفئران بسرعةٍ أن تضغط هذه الذراع الفعالة تحديدًا من دون باقي الأذرع الموجودة، وسرعان ما صارت تصل للحدِّ الأقصى المسموح به، وهو ثمانون مرة، خلال ساعةٍ واحدة. ثم عندما صار سحبُ الذراع مقترنًا مع صعقة كهربية خفيفة، ارتدَعَت بعضُ الفئران وتجنَّبَت الذراع، لكن البعض الآخر لم يرتدع واستمر في سحب الذراع، وهو ما رآه الباحثون على نفس نسَق السلوك الإدماني في البشر، حيث يستمرُّون في سلوكهم رغم ما يُسببه لهم من سوء العواقب. إحدى نتائج هذه الدراسة (وقد تعرَّضَت لجوانبَ أكثر مما ذكرناه هنا) أن الحيوانات صارت فعلًا مدمنة على التحفيز المباشر للخلايا العصبية المنتجة للدوبامين؛ مما يشير إلى أن هذه هي فعلًا آليةُ إدمان البشر على المواد المحفزة لهذه الخلايا العصبية مثل الكوكايين.
بلَغَت استخداماتُ تقنيات علم الأحياء التخليقي مَبلغًا أبعدَ بكثيرٍ من مجرد علوم الأعصاب. ينصبُّ كثيرٌ من اهتمام علماء الأجنَّة على سؤالٍ معيَّن: أيُّ خلايا الجنين في مراحله المبكرة هي المسئولةُ عن تكوين أجزاء معينة في جسم الجنين في مراحله المتأخرة أو حتى في جسم الإنسان البالغ، وإجابة هذا السؤال مهمةٌ للفهم البيولوجي الأساسي، وكذلك لتطوير تقنيات لهندسة الأنسجة وتجديدها؛ لأنه ما دمنا نريد إعادة بناء تركيبٍ ما في الجسم فقد يساعدنا أن نعرف كيف تكوَّن هذا التركيب أصلًا. واكتشاف ما ستئول إليه الخلايا في النهاية يتم بتتبُّع سُلالة الخلايا المتكونة، وذلك بوسمِ خليةٍ واحدة في إحدى مراحل تطور الجنين بواسم دائم لا يتخفَّف بانقسامها، وليكن واسمًا جينيًّا، وانتظار تطور الجنين، ثم رصد وتعيين التراكيب التي تحمل هذا الواسم في جسم الفرد البالغ. وهي عمليةٌ شاقة؛ لأنه لا بد من وسم خلية واحدة لا أكثر فيها، ومن ثَم نحتاج إلى العديد من الأجنَّة لتتبُّع سلالات العديد من الخلايا.
طورت ستيفاني شميت وزملاؤها مؤخرًا أداة بتقنيات علم الأحياء التخليقي تجعل من تتبُّع سلالات الخلايا عملية أسهلَ كثيرًا؛ لأن بإمكانها أن تعمل على أكثرَ من سلالةٍ في الوقت نفسه. وهي تعتمد على تقنية كريسبر لتعديل الدي إن إيه التي تناولناها سابقًا. ينطوي النظام، الذي اختُبِرَ مجددًا باستخدام دودة الربداء الرشيقة، على إدخال جين خامل «مستهدف» إلى الجينوم.
إنه لَأمرٌ مذهل كيف أن أبحاث التشكيلات الجينية المخلقة التي نشأَت لتكونَ أدوات بحثية باتت تُنشر كثيرًا، لا في دوريات خاصة بأبحاث علم الأحياء التخليقي، بل في الدوريات الأساسية للفسيولوجيا وعلوم الأعصاب وغيرِهما. حدث الأمر نفسه منذ سنين عديدة مع علم الأحياء الجزيئي، وهو دلالة على نضوج المجال وتطوُّرِه من مجرد مساحة مثيرة للفضول إلى أداةٍ لا غنى عنها في تطبيقات أخرى.
بناء أنظمة لاختبار الفهم الحالي
كتب ستيفان ليدوك في كتابه «علم الأحياء التخليقي» الذي نشره عام ١٩١٢ قائلًا: «عندما نُشاهد ظاهرةً ما داخل كائن حي ونظن أننا فهمنا آلياتها الفيزيائية، فلا بد أن نقدر إذن على إعادة إنتاج هذه الظاهرة منفردةً، خارج الكائن الحي.» وقال عالم الفيزياء ريتشارد فاينمان بعدها بعقود: «إن لم أستطع بِناءه، فلستُ أفهمه.» ويتمثل في كِلا الاقتباسين جوهرُ أحد تطبيقات علم الأحياء التخليقي المهمة، وهو التحقُّق مما إذا كنا نفهم علوم علم الأحياء فعلًا كما نظن.
في المعتاد تُكتشَف الآليات الحيوية في خطواتٍ ثلاث: الوصف، الربط، التشويش (وأحيانًا بترتيبٍ مغاير). الوصف ما هو إلا دراسة متأنِّية لاستنتاج تسلسل الأحداث التي تجري خلال عمليةٍ حيويةٍ معيَّنة. على سبيل المثال، قد يعمل علماء الأجنة على وصف سلسلة التغيرات التشريحية التي تحدث خلال تكوُّنِ عضوٍ معين في الجنين، أو قد يعمل علماء الأحياء الجزيئية على رصد الجينات والبروتينات التي تغدو وتروح في الخلايا بمختلِف أنواعها خلال هذه العملية. وبربط هذه الجزيئات بالتغييرات التشريحية التي تحدث، يمكنهم الوصول إلى فرضيةٍ ولتكن مثلًا أن ثمةَ آليةً تدخل فيها البروتينات أ، ب، ج تتسبَّب في الحدث س. وهذه النظرية يمكن اختبارها إلى حدٍّ ما بالتشويش في النظام: فهل سيفشل الحدثُ س إن أبطلنا فعاليةَ البروتينات أ، أو ب، أو ج؟
يُضيف استعمال علم الأحياء التخليقي بهذه الطريقة مرحلةً جديدة لعملية الاستكشاف؛ مما يجعل تسلسل الخطوات كله «وصف، ثم ربط، ثم تشويش، ثم تخليق». نظريًّا يمكننا أن نُطبق هذه الطريقة لحل مشكلات شتى. لكن يجب أن نُراعيَ أن كل ما يمكن أن تُثبته خطوةُ التخليق هو أن التصوُّر المستقَى من النظام الطبيعي يعمل «من حيث المبدأ». لكنه لا يثبت فعلًا أن هذه الآلية هي كلُّ ما يقود هذه العملية في الأنظمة الطبيعية، ومن الحكمة أن يكون عقل المرء متفتحًا لاستيعاب المجاهيل غير المعروفة. وفي علم الأحياء، لا ينفكُّ المرء دومًا عن الحاجة إلى مساحةٍ من التشكُّك المعقول.
مشروع «الخميرة ٠,٢» هو مثالٌ على مشروع على نطاق أكبر كثيرًا صُمِّم ليختبر فرضيةً مطروحةً عن الجينوم من خلال تقنيات علم الأحياء التخليقي. يهدف هذا المشروع من خلال تعاون دولي إلى أن يُستبدل بجميع الكروموسومات الطبيعية في الخميرة أخرى اصطناعية. تكون الكروموسومات البديلة في العموم نسخًا معدَّلة من الكروموسومات الطبيعية، بحذف أجزاء منها تُعدُّ «دي إن إيه خردة» (أي دي إن إيه ليس له وظيفة واضحة). اختبار ما إذا كانت الخلايا الناتجة مؤهَّلة للبقاء على قيد الحياة هو معيارٌ قوي لمعرفةِ ما إذا كانت هذه النطاقاتُ من الدي إن إيه خردة لا فائدة منها فعلًا، أم أنها في الحقيقة ضروريةٌ لعمليةٍ بيولوجية لا نعرف عنها شيئًا بعد (ومن شأن هذه أن تكون النتيجةَ الأكثرَ إثارة). يحتوي الجينوم المعدَّل على بعض التشكيلات الجينية المخلقة لتسمح بخضوع الخميرة لتحورٍ وتطورٍ أسرعَ من المعتاد؛ مما يسمح باختبار نظرياتنا عن التكيُّف والتطور. من المخطط أيضًا إضافة كروموسوم مصطنع للخميرة، بحيث يحمل كلَّ الجينات التي تُعبر عن جزيئات من الآر إن إيه الناقل في الخميرة، مما يسمح بحذف هذه الجينات من كروموسومات الخميرة الطبيعية، وهذا الكروموسوم الاصطناعي يُبنى في إدنبرة. يهدف هذا جزئيًّا إلى اختبار بعض الفرضيات عن أهمية موقع جينات الآر إن إيه الناقل في الخميرة الطبيعية، وتحديدًا ما إذا كان موقعُ هذه الجينات الطبيعي نفسه مُهمًّا (الذي غالبًا ما يكون بالقرب من مناطق غير مستقرة من الدي إن إيه). كما أن هذا سيسمح للعلماء بهندسة جزيئاتٍ من الآر إن إيه الناقل وراثيًّا، لتُصبح لدينا سلالاتٌ من الخميرة تستخدم أحماضًا أمينية جديدة إلى الجانب العشرين التي تستخدمها طبيعيًّا.
يختلف الأمر في العلوم الأساسية عن الهندسة مثلًا، فإن فشل نظام بيولوجي تخليقي مشيد حسَب تصميمٍ استخلصناه من دراساتنا للكائنات الحية الحقيقية في أن يعمل كما يجب، فإننا لا نُسمي هذا فشلًا كما لو كان التطبيق هندسيًّا مثلًا. فالعلوم غالبًا ما تخطو خطواتها الكبرى عندما لا تعمل الأشياء «كما ينبغي لها» (فمثلًا قياس سرعة الأرض بالنسبة للإيثير من خلال تداخل الضوء كان ينبغي أن ينجح وفقًا لفيزياء القرن التاسع عشر، ومحاولة تفسير هذا الفشل هي ما أدَّى إلى نظرية النسبية لأينشتاين). مثل هذا «الفشل» يُنبهنا إلى أن تحليلاتنا وتفسيراتنا خاطئة، وأنه ما زال أمامنا ما يستحقُّ الاكتشاف. وكما يقول إسحاق أزيموف، كاتب الخيال العلمي الذي سبق أن كان متخصصًا في الكيمياء العضوية، أكثر ما يُثير التشويق في المعامل ليس أن تسمع أحدهم يصرخ: «وجدتُها»، وإنما تمتمةٌ خفيضة تقول: «هذا غريب!»