تخليق حياة
ناقشنا سابقًا في هذا الكتاب أن علم الأحياء التخليقي يبدو كأنَّ له «جوهرَين»، الأول يُركز على هندسة الكائنات الحية الموجودة لإكسابها خصائص جديدة، والآخَر يصبو إلى إنشاء حياة جديدة من الصفر. ومع أن معظم المجهود البحثي والتمويل يصبُّ في الاتجاه الأول، نظرًا إلى إمكاناته التصنيعية والبيئية والطبية، فإن العمل على تخليق حياةٍ يمكن أن يكون أهمَّ بكثير، إن نظرنا إلى تأثيره على المدى الطويل عِلميًّا وفلسفيًّا. فهذا المشروع جاهزٌ تمامًا ليأخذ مكانه كخطوةٍ جديدة في الرحلة الطويلة التي بدأت من كوبرنيكوس (الأرض مجرد جزء من الكون وليست مركزَه)، وداروين (البشر حيوانات، ويشتركون معها في أصلٍ واحد)، حتى الوصول إلى برهانٍ لا يدحض بأن الحياة ليست إلا موادَّ عادية، غير أنها تنتظم بطريقةٍ دقيقة. يأخذ أغلب العلماء هذه الفكرة مأخذَ الفرضية العَملية؛ لكنها لم تُثبت حتى الآن، ولن تثبت إلا عندما ينجح شخصٌ ما في تكوين حياةٍ من موادَّ غير حية.
أسباب تخليق حياة
مشروعُ بناء حياة من الصفر مهمٌّ لثلاثة أسباب علمية على الأقل. الأول هو دحضُ الفرضية الحيوية. الثاني هو أن تخليق أشكالٍ حية سيوفر لنا طريقةً لاختبار فرضياتنا عن أصل الحياة الطبيعية على الأرض، وذلك من خلال مُحاكاة الظروف المبكرة للأرض في المعامل. السبب الثالث هو أنَّ محاولة بناءِ حياة قد تُعلمنا أكثر بكثيرٍ عن ماهيَّة الحياة نفسِها؛ فإجاباتنا الحاليَّة عن أعمق أسئلة علم الأحياء لا تزال بقدرٍ كبير تخميناتٍ غيرَ مُثْبَتة لا أكثر.
ثَمة اتفاقٌ واسع (وإن لم يكن إجماعًا) على أن اعتبار كيانٍ ما حيًّا يستلزم أن تظهر فيه السِّمات الأربعة الآتية:
-
(أ)
الأيض، ليستفيدَ من الموادِّ الخام والطاقة التي لديه،
-
(ب)
المعلومات المخزَّنة، لتحديد تراكيب الجسم ووظائفه،
-
(جـ)
الاحتواء، لتجتمع كلُّ هذه الأشياء معًا،
-
(د)
التكاثر، ولو حتى على مستوى الجماعة الحيوية على الأقل.
هذه المعايير مَصُوغة صياغةً تجريدية عن عمد، بحيث لا تستلزم بِنية ولا حتى كيمياء معيَّنة، وهي بذلك قد تنطبق على حدٍّ سواء على أي شكل غريب مرشَّحٍ ليُعتبر من أشكال الحياة.
وثَمة توجُّهان مختلفان تمامًا لبناء حياة من الصفر. «الخيار السهل» هو أن نأخذ أبسطَ مزيجٍ ممكن من البروتينات والجينات وما إلى ذلك من كائنٍ حي حقيقي، ثم نجمعها معًا داخل غشاءٍ من نوعٍ ما، ليُصبح النظام قادرًا على العيش مستقلًّا وعلى التكاثر ما دمنا اخترنا مكوِّناته كما يجب. وهذا التوجُّه مفيدٌ لاختبارِ ما إذا كنا نفهم فسيولوجيا الخلايا على نحوٍ صحيح، لكنه لا يفيد في إجابة أسئلتنا الأعمق لأنه بالفعل يستعير الكثير جدًّا من الكائنات الحية الموجودة. أما التوجُّه الأصعب فهو أن نبنيَ الحياة من الأسفل إلى الأعلى، مبتدِئين بموادَّ كيميائيةٍ بسيطة، بحيث لا نأخذ من الكائنات الحية الموجودة إلا الإلهام. ومراعاةً لما يسمح به المجال هنا، فسنكتفي في هذا الفصل بالتركيز على هذا الهدف الأكثر طموحًا فقط.
الاستلهام من أصولنا المفترضة
وضع أليكسندر أوبارين نموذجًا عن أصل الحياة كان هو أولَ من وصَفه بوضوحٍ عام ١٩٢٤، وسيطر هذا النموذجُ على أبحاثِ نشأة الحياة لما يُقارب مائة عام. يبدأ النموذج بتفاعلاتٍ كيميائية بين أملاح وغازات بسيطة جدًّا، لإنتاج أول الجزيئات العضوية (أي المعقدة والتي تحتوي على الكربون). وقد ثبَت أن هذه الخطوة ممكنةٌ بالفعل من خلال أبحاث هارولد يوري وستانلي ميلر في خمسينيَّات القرن الماضي، ومَن استند على جهودهما البحثية. استخدم يوري وميلر أمزجة من غازات غير عضوية تُمثل الغلاف الجوي البدائي للأرض، والماء ليُمثل المحيطات، ثم عرَّضا كلَّ ذلك للحرارة ولشرر كهربي (كالبرق). نتج عن هذه التجرِبة تشكيلةٌ غنيَّة من الجزيئات العضوية وفيها بعض الأحماض الأمينية والسكريات وقواعد الأحماض النووية. ولا تنتهي السردية التي نسَجها أوبارين بنظريته هنا، بل تقول إنه ستظهر زيادةٌ تدريجية في تعقيد المواد الكيميائية، حيث تتفاعل الجزيئات الصغيرة فيما بينها لتصنع تراكيبَ كيميائية أكبر وأكثر تنوعًا. ربما يكون الطين والمعادن هما المسئولَين عن تحفيزِ هذه التفاعلات، لما أُثبِت عنهما بالفعل من نشاطٍ حفزي. وهذه الجزيئات الأكبر ربما ارتبط بعضها ببعض الجزيئات الأصغر ارتباطًا يكفي لتُبدي قدرةً على تحفيز هذه التفاعلات ولو كانت ضعيفة. وكل هذه العمليات تُعد كيمياء «خالصة»، وليس فيها مستوًى أعلى من التنظيم والتنسيق.
في هذه السردية عن أصل الحياة التي تبدأ بالعمليات الأيضية، كيف يمكن أن نُفسر ظهور الجينات؟ هناك روايةٌ شهيرة لمحاولة إجابة هذا السؤال تقول إن جزيئات الآر إن إيه ظهَرَت في الدورات الحفزية للكائنات البدائية الخاضعة للتطور في البداية بصفتها جزيئاتٍ حفازةً لا جزيئات جينية، وقد ثبَت فعلًا أن جزيئات الآر إن إيه قد تكون لديها القدرة لتلعب دورًا حفزيًّا. لاحقًا، ارتبطَت بعض جزيئات آر إن إيه بأحماض أمينية في طرف، وبجزيء آر إن إيه آخَر في الطرف الآخر، ومن ثَم دمجت جزيئات الآر إن إيه والأحماض الأمينية معًا؛ لتُكوِّن أول سلاسل ببتيدية تتكوَّن من أحماض أمينية تحددها جزيئاتُ آر إن إيه. وبسبب فعالية السلاسل الببتيدية والبروتينات التي تُكوِّنها في العمليات الحفزية، بدأ الحفز من خلال البروتينات يزيد تدريجيًّا ويحل محلَّ العوامل الحفازة السابقة حتى صار الحفز من خلال البروتينات هو الغالب. وفي النهاية، نسخَت البروتينات الآر إن إيه، وهو الذي صنع بروتينات بدوره. وهكذا دخلَت الجينات، المبنيَّة على الآر إن إيه، منظومة الخلايا، وصار دورها منفصلًا عن العمليات الأيضية، وتؤدي وظيفتها في الاحتفاظ بالمعلومات فقط. ولا مشكلة في أن يكون الآر إن إيه هو المادةَ الحاملة للجينات، وهذا بالفعل ما يحدث في كثيرٍ من الفيروسات الحاليَّة. فانفصال الجينات عن الأيض يسمح للدي إن إيه، الجزيء الأكثر استقرارًا ومن ثَمَّ الأكثر ملاءمةً لحفظ المعلومات على المدى الطويل، لكنه يكاد يكون بدون أي فائدة حفزيًّا، أن يصبح الجزيءَ الرئيسي لحمل المعلومات الوراثية بدلًا من الآر إن إيه. وهكذا نصل إلى شكل الحياة كما نعرفها.
هذه السردية التي عرَضناها هنا باختصار شديد لتفسير نشأة الحياة ليست هي الوحيدة، بل هناك سردياتٌ أخرى تبدأ من الآر إن إيه، ثم تأتي العمليات الأيضية والاحتواء لاحقًا. لكن الميزة في هذه النسخة من الحكاية أنها توفِّر لنا إطارًا مُلائمًا يمكننا أن ننطلقَ منه لشرح محاولات علم الأحياء التخليقي في تخليق الحياة مَعمليًّا، حيث تعتمد الطريقة في العموم على المسار نفسه.
الدورات الحفزية الاصطناعية
بالطبع المسافة بعيدةٌ من هذه الدورة البسيطة إلى الوصول لأيض خلوي متكامل، لكنها، هي وعدَّة دورات طُوِّرت بعدها، تُرينا على الأقل أن فكرة الدورات التي تُعيد إنتاج نفسها ذاتيًّا فكرةٌ ممكنة.
تصنيع الأغلفة
الخطوات الأولى نحو الجينات
وقد أظهرَت الأبحاث إمكانية حدوث هذا النوع من الاستنساخ بدون إنزيمات لبضع أنواع محددة من الأحماض النووية. في جميع الحالات لا يعمل هذا الاستنساخ إلا مع التسلسلات القصيرة. على سبيل المثال، هناك حمضٌ نووي بيبتيدي من ستِّ قواعد (أي حمض نووي هيكله الخارجي يتكوَّن من البيبتيدات وليس من روابط الفوسفات ثنائية الإستر التي تعتمد عليها الأحماضُ النووية في «الكائنات الطبيعية») اقترن معه جُزيئَا حمض نووي كلٌّ منهما يتكون من ثلاث قواعد، وأبقاهما متجاورَين على هذا الحال وقتًا طويلًا كان كافيًا لأن يرتبط أحدُهما بالآخَر. وبُني نظامٌ مماثل باستخدام حمضٍ أميني مترابط بواسطة روابطِ فوسفات ثنائي الإستر العادية. وأُجري المزيد من التجارِب باستخدام أكثرَ من قالب واحد، فأظهرَت التسلسلات المختلفة نوعًا من التنافس؛ أي إن «التطور» في النظام ممكن. وقد بُنِيَت أيضًا سلاسلُ من البروتين يمكنها استنساخ نفسِها، حيث يسمح نشاط البروتين الكيميائي له بتجميع المزيد من القِطَع البروتينية الأصغر ليبنيَ نسخًا منه.
لا بد هنا أن نُدرك أن التجارِب التي نتحدث عنها لا تُشبه الجينات إلا في أنها يمكن أن تعمل قالبًا لإكثارها. لكنها تختلف عن الجينات الحقيقية لأنَّ هذه الأحماض النووية ليست قادرةً على أن تنظم إنتاج أي شيء غير نفسِها. المغزى الرئيسي من الأمر هنا أن نحلَّ إشكالية «أيهما أولًا؟ البيضة أم الدجاجة؟» الماثلة هنا، بمعرفة أيُّهما ظهر أولًا، الأحماض النووية أم البروتينات، حيث لا يمكن أن يتكوَّن أحدُهما إلا بمُساعدة الآخَر في الكائنات الحية الطبيعية. وإن كان الأمر تم في ظروفٍ خاصة جدًّا؛ فقد أظهرَت التجارِب أن ثمة أحماضًا نووية قد تُستنسَخ ذاتيًّا بدون مساعدة من البروتينات، وأن بعض البروتينات يُمكنها أن تُستنسخ ذاتيًّا بدون مساعدة من الأحماض النووية (في كلتا الحالتين اعتمدَت التجارِب على سلائفَ كيميائية معقَّدة، لا على مجرد مكونات بسيطة نستطيع أن نعتبرها «طعامًا»). بإمكاننا إذن أن نتخيَّل رحلةً تطورية تبدأ بوجود أحماض نووية كآر إن إيه متطفلةٍ على أيض الخلايا البدائية، ومن ثَم تعرَّضَت هذه الأحماض النووية لطفرات واكتسبَت أنشطةٌ إنزيمية مفيدة أضْفَت مَزايا تطوريةً على الخلايا؛ وبهذا تحوَّل التطفل إلى تكافل، وأخيرًا إلى وحدة كاملة في نظام واحد متَّسق.
الخطوات التالية
توصَّلَت المعامل التي تعمل على تخليقِ حياةٍ من الصِّفر حتى الآن إلى بناء دورات حفزية تتكاثر ذاتيًّا وتنتج جزيئات متواضعةَ التعقيد، كالسكَّريات، من سلائفَ بسيطةٍ كالفورمالدهيد. وتوصلَت المعامل التي تعمل على مسألة الاحتواء إلى حويصلات غشائية قادرة على التكاثر ذاتيًّا، لكنها تحتاج إلى أن تبدأ العملية من جزيئاتٍ معقدة إلى حدٍّ ما. لكن ما يبدو أننا لم نصل إليه هو ربط هذين المفهومَين معًا بحيث تكون لدينا دوراتٌ حفزية ذاتية الإكثار تبدأ من سلائفَ بسيطة جدًّا، ولكنها تُنتج جزيئات يمكنها صنعُ أغشية، وبهذا «تُطْعِم» الحويصلة لتتكاثر ذاتيًّا. إن تحقَّق هذا، فستكون الخطوة التالية هي احتواء الدورة داخل الغشاء، وضمان أن يكون بوُسع الجزيئات الأولية الصغيرة أن تدخل من خلاله. سيكون تحقيق مثلِ هذا النظام خطوة كبيرة جدًّا نحو صُنع شيء حيٍّ غاية في البساطة. العديد من الناس سيعتبرون هذا الشيء حيًّا فعلًا. لكنَّ آخَرين لن يرَوه كذلك، لأنهم متشبِّثون بفكرة أن أي كائن حي لا بد أن يحتويَ على جينات.
بعد أن يخلق البشر حياةً يمكن تخفيف الآثار الفلسفية المحتملة لذلك بمرور مدةٍ زمنية طويلة يتغيَّر خلالها تعريفُ الكائن الحي. ربما لن يُدرَك خلق حياة اصطناعيًّا إلا في وقتٍ لاحق، ولن يكون ذلك نتيجةَ تجرِبةٍ حاسمة واحدة، وإنما سلسلةٌ من الخطوات الصغيرة التي تتخطى ما كنا نراه سابقًا حدًّا فاصلًا، وما لبث أن صار منطقة ضبابية بين ما هو حيٌّ وما هو جماد. وعلى كل حال، فالمنطقة الرمادية بين ما نعتبره حيًّا وما نعتبره ميتًا موجودة بالفعل؛ فالخلايا المنفردة في كائنٍ عديد الخلايا، كالإنسان، تظل حيةً وقتًا طويلًا بعد أن يكون هذا الإنسان ككلٍّ قد مات.