مقدمة إلى تاريخ الزمن

جيف ١٩٧١/٣/١٠١

عندما بدأتُ أتدرَّب على صناعة الساعات وإصلاحها في سنِّ التاسعة عشرة، تعلَّمت ألا أخلِّف أثرًا ورائي في الساعات التي أُصلِحها. لكن عادةً ما تحكي الآثار التي تركها مصلحو الساعات وراءهم قصصًا شتَّى عن هذه الأشياء. على سبيل المثال: ساعة اليد أوميجا سي ماستر، القابعة على منضدة العمل، أصلَحَها رجلٌ اسمه جيف، في ١٠ مارس عام ١٩٧١. علمتُ ذلك لأنه حفر اسمه والتاريخ الذي أجرى فيه إصلاح الساعة على الجزء الخلفي من ميناء الساعة، حتى إذا عادت له الساعة يومًا، عرَف أنه أصلحها في يوم كذا.

إن عالم صانع الساعات لا يتجاوز ظُفر الإبهام في الحجم، في كثيرٍ من الأحيان؛ إذ نُعالج آليات يبلُغ قطرها بضع سنتيمترات فحسب. ومع ذلك، فإن صناعتها تستغرق وقتًا طويلًا جدًّا. قد ينقضي الصباح، في بعض الأحيان، وأنا لم أُبعِد ناظري عن آلية ساعةٍ في حجم طابع بريد. أنتبِه فجأة إلى فنجان القهوة وقد بَرد بجواري، وعينيَّ قد جفَّتا لأنني نسيتُ أن أرمش من شدَّة التركيز. زوجي كريج صانع ساعات أيضًا، ونعمل معًا على منضدتَين متقابلتَين، ولكننا قد نقضي أيامًا بأكملها فيما يُشبه الصمت، قلَّما نتكلم إلا حول الغلاية. ربما نقضي في صناعة ساعة جديدة من ستة أشهر إلى ستِّ سنوات، سواءً أكنَّا نصنعها من مكوِّنات مُستعملة أم جديدة تمامًا. لا عجَب إذن في أن نستخدمها في قياس أقسام من حياتنا، وفي بعض الأحيان نجد آثار التقدُّم في العمر قد ظهرت علينا بعدما ننتهي من صناعتها.

تقع ورشتنا في مصنع مشغولات ذهبية، من القرن الثامن عشر، في حيِّ المجوهرات التاريخي في مدينة برمنجهام. عمل الحِرفيون هناك لسبعة أجيال متتالية تظهر آثارها على جدران المكان. وتحتوي الحُجُرات أسفلَنا على مكابسَ وقوالبَ ومخططاتِ تصميماتٍ، عُمرها قرون، بالإضافة إلى حِرفيين لا يزالون يستخدمونها في صناعة المجوهرات. وتحتل ورشتنا غرفةً صغيرة في الطابق الأخير، وهي غرفة جيدة الإنارة والتهوية، ذات نوافذ سقفية ونوافذ مقوَّسة. عندما انتقلنا إلى هُناك للمرة الأولى، وباشرنا تجهيز المكان، علمنا أن قنبُلة قد اخترقت السقف في أثناء غارة جوية دون أن تنفجر. أزلتُ الستارة العازلة القديمة التي تُغطي النافذة السقفية، ولاحظتُ أن العارضة الخشبية تحتها لا تزال بها آثار حروق من اندفاع القنبُلة، فكشطتُها وتركتُها مكشوفة ليدخل منها النور. وهذه النافذة تستقر الآن فوق منضدة المِخرطة وآلة قطع التروس التي هي، من سخرية القدر، ألمانية الصنع. أطلقنا على هذه الآلة اسم هيلجا. وتستقر على منضدةٍ طويلة تمتدُّ على طول جانب الورشة، وعليها تشكيلة متنوعة من الآلات القديمة. وفي أسفل المنضدة أدراج مكتظة، تتلألأ ببريق خافت لآليات الساعات القديمة، وقطع غيار اشتريناها أو أنقذناها على مدار السنوات من تجار السبائك في كثيرٍ من الأحيان، الذين أخرجوها من هياكل الساعات، التي كانت على وشْك أن تُباع كذهبٍ أو فِضةٍ خردة، أو حصَلنا عليها من ورش صانعي ساعات رحلوا عن الدنيا فأخلَتْ أسرهم الورش وباعت محتوياتها. أما مناضد صناعة الساعات «النظيفة» فإنها تقع في الجانب المقابل من الورشة، في أبعد زاوية ممكنة عن الخُراطة (بُرادة المعادن) والزيت المُتناثر من الآلات من حينٍ لآخر.

نحرص على الحفاظ على نظافة ورشتنا جدًّا، حتى لا يجِد الغبار أو الوسخ سبيله إلى آليات الساعات الدقيقة. في الحقيقة، تمتاز وِرش مصانع الساعات المتطورة، في سويسرا أو شرق آسيا، بأبوابها المُزدوجة التي تمنع تسريب الهواء، والبُسط اللاصقة المُزيلة للوسخ من الأحذية، كما يُلزَم صانعو الساعات بارتداء معاطف مُختبرات وأغطية على أحذيتهم. أما نحن، فإننا أكثر تساهلًا في أمور النظافة في ورشتنا. فكَلْبُنا آرشي يغفو في أحد أركان الورشة. وتتضوع الغرفة، في نهاية اليوم الذي نصنع فيه أجزاءً جديدة لساعة، برائحة زيت المِخرطة، وهي رائحة مُميزة شبيهة برائحة الطماطم مَمزوجةً برائحة النحاس الأحمر والحديد المَعدِنية. وتتبعثر أكوام صغيرة من خُراطة النحاس أو الفولاذ حول المخرطة وآلة التفريز والمثاقيب، كما تتناثر على مناضد العمل الكثير من المُخططات الأولية لمكونات الساعة مُلطَّخة بالزيت وآثار أكواب القهوة. نكنُس أرضية الورشة بانتظام، حتى تكون جاهزة لتفتيشنا العرضي بحثًا عن الأجزاء التي اندفعت خطأ من أماكنها، وهي كثيرة في الحقيقة لدرجة أن صانع الساعات بوسعه إنتاج ساعة كاملة منها، حيث تكون عالقة بين ألواح الأرضية أو متدحرجة تحت وَحَدات الأدراج في معظم ورش صنع وإصلاح الساعات. وتُغطي أرضيةَ ورشتنا ألواحٌ من الفينيل رَمادية باهتة، يتناقض لونها مع اللون الأصفر للنحاس أو الأحمر البراق لأحجار الياقوت الكريمة.٢ وتُعَد القدرة على العثور على المُكونات الدقيقة البراقة على أرضية الورشة من أهم مهارات صانع الساعات التي يغفُل عن ذكرها الكثيرون.٣

كان آخر سكان ورشتنا هذه من حِرفيِّي المينا، وقد عمل الصنَّاع التقليديون في هذا المكان لما يزيد عن قرنين من الزمان. ولم يطرأ تغيُّر كبير على المكان أو في هذه الغرفة على الأقل. ومع أن لدَينا أجهزة كمبيوتر حديثة في الورشة، فإن معظم الآلات والأدوات التي نستعمِلها يتراوح عمرها بين خمسين ومائة وخمسين عامًا. كما أن مهاراتنا تعود إلى الأزمنة الغابرة. في «العصر الذهبي» لصناعة الساعات، الذي امتدَّ على مدار القرنَين السابع عشر والثامن عشر، احتلَّت بريطانيا مركز الصدارة في هذا المِضمار. لكن في عصرنا الحاضر أصبح من النادر العثور على صانعي ساعات مِثلي وكريج. في عام ٢٠١٢، أنشأنا شركتنا الخاصة، لتُصبح واحدة من الشركات القليلة التي تُعَد على أصابع اليد الواحدة في المملكة المتحدة والمُتخصِّصة في صناعة الساعات الميكانيكية من الصفر، وتصليح الساعات العتيقة التي تعود إلى الخمسة قرون الماضية. لكن الدورة التدريبية التي التحقنا بها لم تعُد موجودة. كما أصبحت حرفة صناعة الساعات في المملكة المتحدة من الحِرف المُدرَجة في القائمة الحمراء للحِرف المُهدَّدة بالانقراض (شبيهة بالقائمة الحمراء للأنواع المُهدَّدة بالانقراض).

في الحقيقة، يعود السبب في اختفاء هذه المهارات جزئيًّا إلى التحكم الرقمي باستخدام الكمبيوتر في عصرنا المُتطور تكنولوجيًّا، إذ جعل من صناعة ساعة كاملة افتراضيًّا أمرًا مُمكنًا. وقد تتعجَّب من انشغالي وكريج بهذه المعَدات القديمة في حين أننا نستطيع تغذية آلةٍ مبرمجة بتصميم كمبيوتر بحيث تؤدي مُعظم خطوات التصنيع بمُنتهى السهولة. لكن أين المتعة في ذلك؟ نُحب أن نعمل بأيدينا، فنصنعَ الساعات ونعبثَ بأجزائها الصغيرة حتى تعمل معًا. كلما عمل المرء بيدَيه تكوَّنت عَلاقة وطيدة بينه وبين ما يصنع. فتُميز أذناه السرعة المثالية للمِخرطة أو المِثقاب، وتُحدِّد يداه ضغط الآلة المناسب من شكل المقاومة. أُحب أنا وكريج أن نشعر بالاتصال مع الساعات التي نعمل عليها ومع أجيال الحِرفيين الذين جاءوا قبلنا.

كنتُ دائمًا مسحورة بفكرة الزمن، لكني لم أخطِّط لامتهان حرفة صناعة الساعات. في المدرسة، حلَمتُ أن أصبح متخصصة في الطب الشرعي (كان هذا قبل أن تزيد شعبية الطب الشرعي بسبب مسلسلات الجريمة في التليفزيون). كنت فتاةً غريبة الأطوار يسيطر عليها التفكير في طريقة عمل كل شيء، لا سيما الأجسام. أردتُ مساعدة الآخرين، لكن لم أكن جيدة دائمًا في التحدث إليهم؛ وظننتُ أن التعامل مع الجثث سيُغنيني عن نقل الأخبار غير السارة إلى المرضى. أثارت اهتمامي رحلة البحث عن سبب توقُّف الجسد عن العمل. وفي أثناء ذلك، كنت آمُل أن أتمكن من مساعدة الآخرين، إما بالمساعدة في تحقيق العدالة، وإما بالوصول إلى فهمٍ أكثر عمقًا للأمراض الفتَّاكة.

لم يُكتَب لي التخصص في الطب الشرعي، لكنَّ هناك تشابُهًا بين العمل على الساعات القديمة وبين الطب الشرعي. تحتوي أنظمة الساعة الميكانيكية على عشرات إن لم يكن مئات — أو آلاف في بعض الأحيان — الأجزاء محدَّدة الوظائف. أبسط الساعات تُخبرنا بالوقت. وأعقدها (تُسمى المِيزات التي تؤدي وظيفة إضافية إلى جانب الإخبار بالوقت ﺑ «التعقيدات») تدق على رأس كل ساعة ودقيقة أجراسًا من أسلاك مضبوطة بدقة بالِغة، أو تحفظ التاريخ بدقةٍ لمدةٍ تزيد عن قرنٍ من الزمان، أو ترسم خارطة للنجوم. إذا اختل أحد أجزاء الساعة، أو احتاج إلى التنظيف أو التشحيم، توقَّفت الآلية عن العمل. عندئذٍ، نباشر بتفكيك الساعة للبحث عن سبب تعطُّلها، وتكون مكافأتنا الإضافية هي رؤيتها تعود إلى العمل مرةً أخرى، إذا ما نجحنا في إصلاحها وتجميعِها. تنطوي المرحلة النهائية من إعادة تجميع الساعة الميكانيكية على استبدال عجلة التوازن حتى تعود الساعة إلى النبض مرة أخرى. وفي رأيي لا شيءَ أمتع من رؤية الحياة تعود إلى ساعة كانت متوقفة عن العمل منذ سنوات وربما قرون، وإدراك أني أسمع نبضاتها تمامًا كما كان يسمعها صانعها عندما ركَّبها لأول مرة. يُشار إلى إيقاع عجلة التوازن ﺑ «النبض»، والنابض الحلزوني المُنظم لحركتها ﺑ «النفَس».

بمرور الوقت، بدا لي طبيعيًّا جدًّا أن أبدأ في التنقل بين صناعة الساعات وبين تأمُّلها والكتابة عنها وعن تاريخها. وأصبحتُ أول صانعة ساعات مُمارسة في المملكة المتحدة، تسعى لنيل درجة الدكتوراه في فنِّ صناعة الساعات القديمة (أو دراسة تاريخ الساعات). على أي حال، العاملون في إصلاح الساعات مؤرِّخون بشكلٍ ما. إن عملية إصلاح الساعات تُشبه نوعًا تطبيقيًّا من التاريخ؛ فلا بد للمرء من معرفة كيفية صناعة الساعة، وطريقة عملها في الماضي، ليتسنَّى له إعادتها لما أراده لها صانعها. كما أن معرفة التاريخ تؤثر على صناعة الساعات؛ فعندما بدأتُ أنا وكريج في صناعة الساعات من الصفر، كان للبحوث التاريخية التي أجريتها أثر في صناعتنا للساعات، وحدث ما يُشبه تبادل الخبرات في صناعة الساعات. لقد وسَّعتْ بحوثي آفاق عالَم صانعة الساعات الضيق. إن بؤرة تركيز صانع الساعات أصغر من حبَّة الأرز في كثيرٍ من الأحيان، لكن الإلهام الذي يبثُّه فن تصميم الساعات في نفس الصانع واسعٌ سَعة الكون، ولطالما أحببت هذا التناقُض بين الجزئي والكلي. وتأمُّلي في تركيبة ساعة ميكانيكية من القرن الثامن عشر لإبصار ما تريد أن تُخبرني به عن أصلها وأصحابها، يجعلني أُدرك جيدًا كيف ساهم التاريخ في تشكيلها، وكيف ساهمت الساعة في تشكيلنا نحن أيضًا.

وليس ثمة مُبالغة في قول إن اختراع الساعات الميكانيكية كان ذا أهمية بالغة في الثقافة البشرية، مِثلُه مثلُ آلة الطباعة تمامًا. تخيَّل أن تحاول اللَّحاق بقطار معتمدًا على تحديد موقع الشمس. وتخيَّل أن تنظم مؤتمرًا عَبر برنامج زووم يضمُّ مائتي شخصٍ من جميع أنحاء العالم، وأن يحاول كل فردٍ تخمين موعد بدء المؤتمر، فيُطل من النافذة ليستطيع سماع أجراس أقرب ساعةٍ عامة إليه. ولنذهب إلى أقصى طرفي مقياس أهمية معرفة الوقت، عندما تكون معرفة الوقت مسألة حياة أو موت، ونتخيل جرَّاحين يباشرون زراعة عضو من الأعضاء أو يُزيلون ورمًا دون وجود نقطة مرجعية دقيقة لقياس معدل ضربات قلب المريض. إن قُدرتنا على إنجاز أعمالنا، وتنظيم أنشطتنا اليومية، واستخدام الاختراعات المُنقذة للأرواح في العلوم والطب ما كانت لتصير مُمكنة في الحقيقة لولا معرفة الوقت بصورة دقيقة.

عكست الساعات منذ اختراعها عَلاقتنا بالوقت وطوَّرتها في الوقت نفسه. فهي لا تصنع الوقت، بل تقيس تصوُّرنا الثقافي له. وجميع أدوات قياس الوقت، مثل العظام المنحوتة أو الساعات القديمة التي أُصلِحها على منضدة العمل، ما هي إلا محاولة لإحصاء وقياس وتحليل العالَم من حولنا. كانت أدوات قياس الوقت القديمة تتتبَّع الظواهر الطبيعية في العالم والنظام الشمسي. والآن، لا تزال أحدث أجهزتنا، وهي الساعات الذكية مثل ساعة «أبل»، تتبع النشاط الروتيني الفلكي، لتُواكب دوران كوكبنا حول الشمس على مدار اليوم. إن الأنظمة التي ابتكرناها لفهم هذه العمليات وموقعنا داخلها، هي طريقتنا للتفاعل مع الكون أو تطبيق نظام عقلاني كوني، نستخدِمه في تحسين حياتنا إلى الأفضل.

ما نُسميه بساعة اليد، الساعة الصغيرة التي نرتديها في يدِنا، هي معجزة هندسية. والساعات الميكانيكية تُعتبر من أكفأ الآلات المصنوعة على الإطلاق. لقد أصلحت ساعات لم تخضع للصيانة منذ ثمانينيات القرن العشرين، ومع ذلك لم تتوقَّف عن العمل إلا منذ فترةٍ قريبة. وأعجِز عن استحضار آلة أخرى تعمل ليلَ نهارَ لما يقرُب من أربعين عامًا، دون الاحتياج إلى صيانة حِرفيٍّ من الحِرفيين. ونحن في عام ٢٠٢٠، تتضمَّن أعقد الساعات على مستوى العالم ما يصل إلى ثلاثة آلاف جزء ميكانيكي، وتمتاز بقُدرتها على قياس التقويم الميلادي والعبري والفلكي والقمري، وإصدار صوت على رأس كل ساعةٍ ودقيقة، بالإضافة إلى خمسين تعقيدًا آخر، وكل ذلك داخل جهازٍ صغير تستطيع أن تضعه في راحة يدك. وصُنعت أصغر آلية ساعة على الإطلاق لأول مرةٍ في العَقد الثاني من القرن العشرين، وهي مكوَّنة من ثمانيةٍ وتسعين جزءًا، وحجمها لا يتعدى ٠٫٢ سنتيمتر مكعب. كما صُنع أول كرونومتر — وهو ساعة في غاية الدقة يستخدمها البحَّارة في حساب خطوط الطول في البحر — قبل اختراع المحرك الكهربائي بما يزيد عن ستين عامًا، وقبل صناعة المصباح الكهربائي بما يزيد عن مائة عام. ومنذ ذلك الحين، رافقت الساعات البشر إلى قمة إيفرست، وأعماق خندق ماريانا، والقطبَين الشمالي والجنوبي، وحتى إلى القمر.

لا ينفصل تصوُّرنا للزمن عن ثقافتنا. في الحقيقة، الزمن هو اسم شائع الاستخدام في اللغة الإنجليزية. وهو، في الثقافات الغربية الرأسمالية، شيء نمتلِكه أو لا نمتلكه، نحافظ عليه أو نهدره، يتقدَّم أو يتأخر، يبدو جامدًا أو يمرُّ بسرعة البرق. ولا تتوقف عجلة الزمن أبدًا بينما نفعل ما نفعله. إنه يمثل خلفية أو سياقًا لوجودنا ولمكاننا في عالمٍ أصبح ميكانيكيًّا لأقصى درجة.

ومن ثَم، تغيَّرت العَلاقة بين البشر والزمن شيئًا فشيئًا على مدار عشرات الآلاف من السنين. وبعد أن كنا نعيش حياتنا وفقًا للظواهر الطبيعية (الشروق والغروب وفصول السنة)، تطوَّرَ الزمن وأصبح كِيانًا مستقلًّا نسعى للسيطرة عليه. أما الآن، فنحن نشعر وكأن الزمن يسيطر علينا. واكتشفنا أن الزمن ليس «ثابتًا» مثلما كنَّا نعتقد في السابق. قد لا يكون عامًّا، بل هو دائم الحركة، لا ينتظر أحدًا. وقد يكون نسبيًّا، وشخصيًّا، وحتى، في يوم من الأيام، قابلًا للانعكاس ولو من الناحية الطبية.

عرفتُ منذ البداية أنني أريد أن أكون صانعةَ ساعات يدٍ لا ساعات حائط. أثبتت ساعات اليد حضورها في حياتنا اليومية، على مدار قرون، نرتديها في أيدينا أو نضعها على مقربة من أجسادنا. دائمًا ما أثارت عَلاقتنا الوطيدة بساعة اليد تعجُّبي. لقد كانت هذه العَلاقة بين الإنسان والساعة، التي تعكس دقَّاتها نبضات قلبه وإيقاع جسمه، لوقتٍ طويل هي أقرب العَلاقات التي أقمناها مع آلة؛ حتى مجيء الهواتف المحمولة بالتأكيد. إنها امتداد لنا، من نواحيَ كثيرة، وتُشكِّل تصورنا عن هويتنا وشخصيتنا وتطلعاتنا، وفوق ذلك مكانتنا الاجتماعية والاقتصادية. إن الساعة تُخبر الإنسان بالوقت، ولكنها في الوقت نفسه شكل من أشكال المذكرات اليومية، فهي تحتضِن بين عقاربها الدءوبة ذكرياتنا عن الساعات والأيام والسنين التي قضيناها ونحن نرتديها. هي مخزن فريد غير حي، ولكنه بشري، للحياة نفسها.

هذا الكتاب الذي بين يديك تاريخٌ لعملية قياس الزمن، وتاريخ للزمن نفسه، ولكن من منظور صانعة ساعات من القرن الحادي والعشرين. أبدأ فيه بالحديث عن أقدم أدوات لقياس الوقت على الإطلاق، صنعها البشر من العظام، تقيس الظلال، أو تُوجِّه الماء أو النار أو الرمل. بعد ذلك سأستعرض كيفية توصل المخترعين المتأخرين إلى طرقِ دمجِ مصادر القوى الطبيعية بالهندسة الصناعية. كانت النماذج الأولية من الساعات، في اعتقادي، نتاجَ مزيجٍ فريد من الفضول والتجرِبة وعلم في غاية التعقيد. كما ساهمت أجزاؤها الميكانيكية، التي كانت شديدة الضخامة حتى كان من غير الممكن وضعها إلا في أبراج الكنائس الضخمة، في التمهيد لتلك الساعات الصغيرة التي أتعامل معها على منضدة عملي يوميًّا.

سأنتقل من هذه النقطة إلى الحديث عن الساعة التي هي آية في الإعجاز البشري. وسأسرُد في كل فصلٍ لحظة محورية في تاريخ الساعات، بدايةً من اختراعها منذ ٥٠٠ عام إلى اليوم الحاضر. سأحلِّل التطورات التقنية المذهلة التي ساهمت في أن تُصبح الساعات صغيرةً بما يكفي لأن ترتديها في يدك ودقيقةً بما يكفي لأن تغزو العالم. وسأعرض كيف يسَّرت هذه الأجهزة الصغيرة تنسيق الأعمال ومُمارسة العبادات وشن الحروب، وكيف ساعدت الدولَ الأوروبية في الإبحار ورسم الخرائط ودعم التجارة العالمية والتوسُّع الاستعماري. وسوف أبيِّن كيف اعتمد عليها المُستكشفون والجنود الذين أنهكتهم الحرب من أجل البقاء على قيد الحياة، وكيف أثرت تأثيرًا هائلًا في أحداث تاريخية حاسمة. وسوف أعرض تحوُّل الساعات من كونها رمزًا للمكانة الاجتماعية المرموقة إلى مجرد أداة يمتلكها الجميع، ثم تحولها مرة أخرى إلى رمزٍ للمكانة المرموقة. إن الساعة هي بَندول إيقاع الحضارة الغربية نفسها؛ إذ تُحدد الإيقاع الذي دفع تاريخنا للأمام، ولا يزال يحكم عصرنا المهووس بالوقت والإنتاجية.

كما أن هذا الكتاب يُعَد بمنزلة تاريخ شخصي أيضًا. فاهتماماتي الشخصية تتلألأ وراء ميناء الساعة. كما أن كثيرًا من الساعات التي أتحدث عنها في هذا الكتاب هي ساعات قد تعاملتُ معها أو أصلحتُها، والقصص التي ترويها هذه الساعات مُهمة للغاية بالنسبة إلى هذه السردية. ذات مرة عملت على ساعة، كان مقدَّرًا لها أن تكون هدية زواج يمنحها الأب لابنه، وتتوارثها الأجيال في نفس العائلة منذ القرن الثامن عشر. شعرت، وأنا أمسكها وأتعامل معها، وأفكر في ماضيها ومُستقبلها، أنني أعبر الزمن نفسه. في الحقيقة، تخلُق معالجة الساعات، التي تعود لمئات السنين، في النفس وعيًا غريبًا بالذات. كما تجعلني أشعر أنني على اتصالٍ حسي بالصانع والأشخاص الذين ارتدوها. تُبرز الآثار الإنسانية الدقيقة على الساعات وكأنها توقيعات؛ مثل كتابة الحِرفي للأحرف الأولى من اسمه أو لاسمه كاملًا، مثل جيف، أو ترك حِرفي المينا بصمةَ إصبعه، ذات اﻟ ٢٥٠ عامًا، التي انطبعت بفعل درجة الحرارة على الزجاج الأزرق المُخْضَرِّ، بطريق الخطأ، وظلت مختبئة خلف ميناء ساعة الجيب. ولأنني أُدرك أنني مجرد فصل جديد في قصة هذا الشيء الذي صُنع قبل مولدي، وسيواصل العيش بعد وفاتي لقرون، إذا اعتنيتُ به جيدًا، حرصت على أن أجمع شواهد الحياة هذه.

إن صانع الساعات مثل الوصيِّ على الساعة، يَحميها ويستوعب تاريخها، ويُهيئها للعَلاقات الجديدة التي ستُشكلها لاحقًا. من حينٍ لآخر، تعود إليَّ ساعة من أجل صيانتها أو إصلاحها، بعد سنواتٍ من إصلاحها للمرة الأولى، وأشعر حينئذٍ أنني عُدت إلى لقاء صديق قديم. حينها، تتدفَّق في ذاكرتي سِماتها وخواصُّها الفريدة، وفي بعض الأحيان أكتشف سماتٍ أخرى جديدة. منذ فترة ليست بالبعيدة عادت إليَّ ساعة يدٍ حديثة الصيانة أتلفها الماء؛ بعد فترة قصيرة من إعطائها لفتًى في عيد ميلاده الثامن عشر، انغمسَت في حوض سباحة مع صاحبها الجديد الذي كان ثمِلًا إلى حدٍّ ما، في أثناء قضاء عطلته في جزيرة مايوركا. لقد أُصلِحَت آليتها الميكانيكية وعادت إلى حالتها الأصلية، ولكن ستظلُّ البقعة الصغيرة عند موضع الساعة الثالثة على الميناء علامة تُذكِّرنا بأخطار مزج التِّكيلا بالماء المُعالج بالكلور على الأجزاء الميكانيكية الدقيقة العتيقة للساعة.

كل صباح، عندما أجلس إلى منضدة العمل وأبدأ العمل، أشعر ببداية جديدة مع كل ساعة أعالجها. فلكل ساعة من الساعات تاريخها الخاص. كما أننا إذا نحَّينا جانبًا حقيقة إعجازها التقني، فإن كل طرقةٍ وخدشة، كلَّ أثرٍ تركه مُصلح الساعات السابقُ فيها، بل حتى طريقة تصميمها والتقنيات المستخدمة في صناعتها، لهي خيوط على حكايةٍ تمتدُّ خلف هذا الكائن الضئيل القابع أمامي.

هوامش

(١) بالاستعانة بكتاب «جذور الحضارة» لألكسندر مارشاك.
(٢) تستخدم الكثير من الساعات الميكانيكية المحامل المصنوعة من الياقوت الصناعي أو الكورندوم لأنها تخلق سطحًا شديد الصلابة. ويمكن للمحاور الفولاذية الصغيرة، التي تدعم كل عجلةٍ مسنَّنة، الدوران حول الياقوت دون أن يَهترئ سطحها من الاحتكاك.
(٣) نُجري بحثنا دائمًا تحت عيني آرشي اليقظتَين، إن لم تكن الحائرتَين، وهو الذي لم يتصالح أبدًا مع فكرة البحث عن الأغراض غير الصالحة للأكل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤