في مواجهة قرص الشمس
أسير إلى المُستقبل مولِّيًا ظهري له ومثبتًا عينيَّ على الماضي.
لطالما سحرتني الطبيعة. وما أحببتُ شيئًا في طفولتي مثلما أحببت أن أجمع الديدان في الحديقة وأن يُغطيني الطين والوحل. والأهم من ذلك أنني شغفتُ بمعرفة آلية عمل الأشياء. واحدة من أقدم ذكرياتي عندما أراني والدي مِجهرَه. انبهرتُ حينها باكتشاف عالم آخر مُستتر داخل عالمي، عالم غير مرئي لعيني المجردة. أحببتُ المجهر كثيرًا لدرجة أن والديَّ اشترَيا لي واحدًا مُخصصًا للأطفال، وأهدياني إيَّاه في عيد الميلاد المجيد، وقد كان مجهرًا محمولًا يُمكنني التجول به في أرجاء الحديقة. قضَينا ساعات ندرس عيناتٍ من ماء البركة. ورسمتُ الكائنات العجيبة الرائعة التي رأيتها تطير بسرعة خاطفة وتزحف في أنحاء الشريحة.
نشأتُ في ضاحية من ضواحي برمنجهام اسمُها بيري بار. وهي عبارة عن تمدُّد عمراني مكتظ بالسكان مليء بالمباني الخرسانية والطوب والأسفلت، ومقسوم إلى نصفَين بواسطة طريق «إيه ثيرتي فور»، بممراته العلوية والسفلية المتموِّجة. كانت أقرب قطعة أرض خالية في ضاحيتنا هي رقعة أرض مهملة مليئة بالنُّفايات اعتدتُ أن أتسلل وأختي إليها للعب. أطلقنا عليها «الأرض الخلفية» (إذ كانت تقبع خلف منزلنا حقيقةً).
لا أتذكر الكثير عن المواسم في بيري بار. فبصرف النظر عن الثلوج القليلة التي كانت تتناثر على العُشب المُدبب في «الأرض الخلفية» في فترة الشتاء، كان لون هذا العشب بُنيًّا محْمَرًّا طوال العام. وفي الخريف، كانت أوراق الشجر تتجمَّع في كُتَلٍ مُوحِلة على الرصيف، بينما يتجادل والدايَ بشأن ضرورة تشغيل المدفأة، أم أن الوقت لا يزال مبكرًا. وفي الليل، كانت مصابيح الشارع تغمر السماء بوهَج برتقالي باهت يكاد يحجب بريق النجوم.
سأظل دائمًا تلك الفتاة من برمنجهام. ولكن عندما وصلتُ إلى بداية الثلاثينيات، لم يكن لديَّ ولدى كريج خيار آخر سوى الرحيل. هاجرنا بسبب سوء أحوالنا الاقتصادية وأُجبرنا على الابتعاد عن المدينة بحثًا عن منازلَ بأسعارٍ أقل في حدود دخل العمل الحُر الخاص بنا. اشترَينا كوخًا قديمًا كان لنسَّاجين في السابق، في بلدةٍ صغيرة أقصى شمال مقاطعة ستافوردشر على أطراف مقاطعة بِيك. وهو أرخص بيتٍ وجدناه على بُعد مسافة خمسين ميلًا من ورشة عملنا.
لم أعش أنا ولا كريج مجاورَين للريف من قبل. قضينا الأشهُر الأولى في استكشاف الحقول والغابات والمروج المُحيطة ببيتنا الجديد، في أثناء تريُّض كلبنا. أخذنا مسار آرشي المُفضل عَبر وادٍ علمتُ فيما بعدُ أن اسمه «سويسرا الصغيرة»؛ وهو اختيار مناسب لاثنَين من صنَّاع الساعات وكلبهما للحراسة. ولأننا ننجذِب لآثار الماضي الصناعي، أحببنا التنزُّه بجانب خط السكة الحديدي الذي كان قبْل إعادة توجيهه يربط بين مقاطعة تشيشر ومدينة السوق يوتوكسيتر، عَبر غابة ديمينجسديل المُمتدة على طول نهر تشيرنت. كان أنف آرشي يهتز من انفعاله بالروائح الطبيعية الغريبة بالنسبة إليه؛ مثل رائحة الغُرير والظبي وابن عِرس والبومة وفأر الحقل.
كلما تغيرت الفصول تغيَّر مسار تريُّضنا. في الشتاء، كانت أشعة الشمس المنخفضة تخترق أشجار البلُّوط العارية من الأوراق والأسيجة النباتية التي ضربها الصقيع. وفي الربيع، كانت ظلال الغابات تمتلئ بعُشبة الجُريس. وفي الخريف، كانت الغيوم تتكاثف حتى كنَّا لا نرى، في بعض الأحيان، سوى بضعة أمتارٍ من الطريق أمامنا. بدأتُ ألاحظ كيف تتناوب الحيوانات في حقولها، ومواقيت خروج الأبقار وتكاثر الخراف. وتعلَّمت بالتجرِبة القاسية أن أُبعِد آرشي عن أماكن بعينها في أثناء مواسم بسط السماد، وهي أواخر فصل الخريف والربيع.
مرَّ عليَّ أول خريف في الكوخ، وأنا أعمل على مشروع صنع ساعات مُهم، كان من المقرَّر الانتهاء منه بحلول عيد الميلاد. كان المشروع غاية في التعقيد والطموح، وكلما مرَّت الأيام دون أن أُحرز تقدمًا كبيرًا، رُحت أحدث نفسي: «لم يشرِف العام على الانتهاء بعد، لا يزال لديَّ وقتٌ كافٍ.» لكن يومًا بعد يوم ودِدت لو أنني استثمرتُ طاقتي في اختراع آلة تعبُر بنا الزمن بدلًا من آلة تُخبرنا بالزمن.
تمتلئ الطبيعة من حولنا بالأدلة الزمنية التي يسهل العثور عليها عند البحث في المكان الصحيح. إنها ساعتنا الأولى التي لا تزال تدقُّ عقاربها معلنةً عن الوقت لأصحاب العقول اليقظة. كان العيش في الطبيعة والنهل من مَعينها هو الذي دفع بالبشر إلى اختراع أقدم الساعات. لو كانت ساعات اليد شخصية، فإن ساعتنا الأولى داخلية. يُمكنك القول إن الساعة هي ثمرة جهودنا الأولى للتوفيق بين إحساسنا الداخلي بالوقت مع ما نُشاهده من ظواهر مُحيطة بنا.
من المُرجَّح أن أول أداة لقياس الوقت عرفتها البشرية يبلغ عُمرها ٤٤ ألف عام، بحسب تقدير علماء الآثار. وقد اكتُشفت في سنة ١٩٤٠، عندما عثر أحد جامعي براز الخفافيش في جنوب أفريقيا في الوقت الحديث، على كهفٍ في جبال ليبومبو وسط الأجمات والشجيرات. كان الكهف مليئًا بالعظام البشرية القديمة التي يبلُغ عمر بعضها ٩٠ ألف سنة. ويُشكل هذا الكهف، المعروف الآن ﺑ «كهف الحدود»، أهمية قصوى في تاريخ البشرية. فقد حمى البشر الذين أقاموا فيه دون انقطاع لمدة ١٢٠ ألف عام، في حياتهم وبعد مماتهم. فمِن خلال موقعه العالي وسط الجبال المُطلة على سهول دولة إسواتيني الآن، وفَّر لهم الحماية من الحيوانات المفترسة والبشر الآخرين، بالإضافة إلى موقعه المُتميز للبحث عن الطرائد. وجد علماء الآثار فيه ما يزيد عن ٦٩ ألف عملٍ يدوي، يعكس الكثير منها استيعاب السكان للطبيعة وكيفية التعامُل معها، من بينها أعواد تُستخدَم في التنقيب عن الدرنات الغنية بالكربوهيدرات، وعظام مسنونة لصناعة المنتجات الجلدية، وحُلِيٌّ مصنوعة من بَيض النعام والأصداف البحرية، والفُرش المصنوعة من القش، والمُتكدسة في طبقات فوق الرماد، ونبات الكافور العطري، الذي ربُما كان يُستخدَم في طرد الحشرات والطفيليات القارصة مثل القرادة.
لكن كان أعظم اكتشاف، بالنسبة إليَّ، هو قطعة صغيرة منحوتة من قصبة ساق قرد البابون يبلغ طولها إصبع السبابة تقريبًا، نُقش عليها تسعة وعشرون شَقًّا واضحًا، وصقلَتْها أيدي مُلَّاكها على مدار سنوات استخدامها. إنها أول دليل واضح في تاريخ البشرية على ممارسة البشر عملية الحِساب. تعود «عظمة ليبومبو» إلى عصر ما قبل الزراعة، أو قبل ظهور أي دليلٍ عن تخطيط الفصول، بل قبل أن يكون لدينا تصور قريب من يوم العمل العادي، بفترة طويلة. إنها أداة للقياس، من زمن تندُر فيه الحاجة إلى القياس، بحسب ما تناهى إلى عِلمنا.
ماذا كان أسلافنا يُحاولون حسابه إذن؟ لا يُمكننا معرفة ذلك على سبيل القطع، لكن بعض الباحثين وضعوا نظرية مُعينة. بعد تقسيم أسلافنا اليوم إلى نهار وليل، ذهب الباحثون إلى أن أسلافنا على الأرجح ابتكروا تقسيمًا آخر، ألا وهو مراحل القمر. إذا نظرنا إلى العظمة، نجدها تتكون من ثلاثين فراغًا وتسعة وعشرين شَقًّا بالتناوب. ويبلغ الشهر القمري في المتوسط حوالَي ٢٩٫٥ يومًا. إذا ناوب أسلافنا الحساب بين الشقوق والفراغات التي تفصلها، سيصلون إلى ذلك المتوسط، وسيكون حسابهم للشهر القمري صحيحًا. وذهب آخرون إلى أن هذه العلامات أُريد بها حساب دورات التكاثر أو فترة الحمل. وأُحب أن أفكر أن هذه العظمة استخدمتها جدَّات جدَّات جدَّاتنا — منذ مئات الأجيال — في حساب الأيام.
تؤمن الكثير من الثقافات القديمة بوجود صِلة بين الدورة القمرية ودورة الطمث؛ ولا يزال هذا الاعتقاد قائمًا إلى يومنا هذا. وذهبت دراسة حديثة إلى عدم وجود صِلة قاطعة بينهما، لكنها افترضت أن أنماط حياتنا الحديثة وكثرة تعرُّضنا إلى الضوء الصناعي أضعفت هذه الصلة. إذا كان الأمر كذلك، فلن نكون بالتأكيد المخلوقات الوحيدة المُتناغمة ساعاتُها الداخلية مع إيقاعات الطبيعة.
عند مجيء الحملان، قبل أو بعد السابع عشر من أبريل بيوم أو يومَين، تصل طيور السُّنُونُو بعد هجرتها لستة آلاف ميل هربًا من حرارة فصل الصيف في جنوب أفريقيا. وبين الأغنام الحديثة الولادة وطيور السنونو التي تبني أعشاشها، يطلع الربيع على المزرعة في «انفجارٍ كبير للحياة» بحسب الوصف الذي يقوله جِيم بكل حُب. وفي سبتمبر، تصطفُّ طيور السنونو على كابلات التليجراف وغصون الأشجار، تُدرك بشكلٍ ما أنه قد حان وقت رحيلها.
تمتاز جميع الكائنات الحية بساعةٍ داخلية. سيُلاحظ أصحاب الكلاب، الذين يعملون وفق روتين مُنتظم، أن لدى الكلاب قدرةً غريبة على التنبؤ بموعد رجوعهم إلى البيت بعدما ينتهون من أشغالهم. ولعلَّ ذلك لأنهم في اللحظة التي يخرجون فيها من باب البيت، يُخلِّفون وراءهم قدرًا معينًا من رائحتهم البشرية، وما إن يتقلص هذا القدر بمقدارٍ معين يعلم الكلب أنه قد مرَّ وقتٌ كافٍ على رحيلهم، وأنه قد آن أوان عودتهم للبيت. والدِّيك الذي يَصيح عند طلوع الفجر مثل المُنبه العالمي، يعمل أيضًا وفقًا لساعة بيولوجية داخلية متوسطها ٢٣٫٨ ساعة، ولهذا يبدأ في الصياح قبل الفجر مباشرة. كما أن الكائنات الحية الصغيرة مثل العوالق تتحرك في الماء صعودًا وهبوطًا، من الأعماق إلى السطح، عند غروب الشمس وطلوعها. ويمكننا الجزم أنها تُحس بالتغييرات في مستويات الأشعة فوق البَنَفْسَجية (عند سطوع الشمس بقوة تغوص للأعماق قليلًا حتى لا تتعرض للأذى) وتميز النهار من الليل بواسطة أشعة الشمس. وفي تجارِب ضابطة في حوض سمك مُظلم، لُوحظ أن العوالق تواصل هجرتها الرأسية لعدة أيام، في ظل غيابٍ تام للضوء. هذا يعني أن لدَيها ساعة بيولوجية أيضًا، وتعمل على مدار ٢٤ ساعة.
يتَّسم إحساسنا بساعتنا الداخلية بالضعف مقارنة بمعظم الحيوانات، إذ يؤثر عليه تصوُّرنا عن الوقت وهو الذي يمكن أن يتشوَّه بواسطة ما يعتمل داخلنا من مشاعر؛ إذ يبدو أنه يتسارع في حالة شعورنا بالسعادة والإثارة والانشغال الشديد، بينما يتباطأ عند شعورنا بالملل والخوف. وليس ثمة شك في وجود هذه الساعة داخل أجسادنا، مثل حاسَّة سادسة تقريبًا، لكن لا يفهمها الجميع على قدم المساواة (فقد تختلف ساعتي الداخلية عن ساعتك). في الحقيقة، تكشف الساعات عن رغبتنا في مشاركة إدراكنا الحدسي للوقت.
تُشير هذه الأدوات المحمولة باليد إلى نقطة تحول هامَّة في مفاهيم الجنس البشري. يُعبِّر الفيلسوف ويليام إروين عن هذا التحول، فيقول: «لم يعد الإنسان يسير في الطبيعة ببساطة؛ بل يُصغِّر الكون ويحمل نموذجًا له في يدِه في هيئة عصًا حسابية تقويمية قمرية.» لكني أرى أن البشر يفعلون ما هو أكثر من ذلك. فمن خلال التقاط الأحداث الكونية عَبر جهاز يُمكن ارتداؤه على الرسغ أو إمساكه باليد، يطمئن البشر أنفسهم، ربما بصورة تضليلية، أنهم قادرون على السيطرة على ما لا يمكن السيطرة عليه. في الحقيقة، تجعلنا هذه الأدوات نشعر أننا لم نعُد نعيش في الزمن فحسب، بل «نستخدمه» لصالحنا أيضًا.
كيف بدا الزمن للإنسان القديم إذن؟ هل كان يعيش في «اللحظة الحاضرة» ببساطة، ذلك الحلم الذي يسعى وراءه الكثير من أنصار التنمية الذاتية؟ من المُمكن أنه عاش في «وضع النجاة». سيُخبرك أي شخصٍ عاش في ظروف قاسية، حيث لا يتوفر الطعام والدفء والأمان بشكلٍ كافٍ، ويكون الإنسان مهددًا، أن تركيزه ينصبُّ ببساطة على المكان والزمان الحاليين فحسب. ولكن افتراض أن عدم وجود دليل على تعبير الإنسان البُدائي عن استيعابه لوجوده في لحظةٍ معينة من الزمن دليلٌ على عدم حدوث ذلك الفهم عنده، ما هو إلا نوع من مُغالطات أسطورة «التقدم». إن تطور فن الرسم على جدران الكهوف منذ ٤٥ ألف سنة، وشيوعه منذ ٣٥ ألف سنة، يعكس تصورًا عن ماضٍ ومُستقبل أبعد بكثير. إذا كنتَ قد تردَّدتَ على كهفٍ فيه رسومات صخرية قديمة للغاية، فستذهب أفكارك مباشرة إلى أسلافك الذين رسموها قبل قدومك إلى العالم؛ وإذا أضفتَ إليها لمساتك، فستتخيل الأجيال التي ستراها بعد رحيلك. لكن لا طريقة لتحديد منشأ زمننا المشترك. إن ظهور الأغراض التي كانت تُدفن مع الموتى في قبورهم، ويتراوح عمرها بين ١٣ إلى ١٥ ألف سنة، في الوقت الحالي، يمنحنا دليلًا دامغًا على اعتقادنا بوجود زمنٍ بعد زمننا. ويشير دفننا لأحبائنا مع مقتنياتهم الثمينة، مثل السكين المُفضل أو المجوهرات أو لعبة الطفل، إلى احتمالية احتياجهم إليها في حياة أخرى مستقبلية.
ويغلب عليَّ الظن أن هؤلاء المزارعين الأوائل راقبوا كذلك الشمس وأطوار القمر وهجرة الحيوانات. وقبل كل ذلك، من الواضح أنهم كانوا يملكون تصورًا للمستقبل؛ إذ كانوا يُدركون أنهم إذا زرعوا بذرة في الحاضر، فسيحصدون ثمرتها بعد شهور.
ويختلف هذا كثيرًا عن معرفتنا بالوقت، في عصرنا الحاضر، من خلال الأرقام المجردة على ميناء الساعة. لم يُقسَّم الوقت عند أسلافنا بحسب الأرقام المجردة، بل بحسب الأحداث الطبيعية مثل الفصول وما يرتبط بها من أحوال طقسية. هكذا وصف البروفيسور المُوقَّر الفيلسوف جون إس مبيتي، المولود في كينيا، الزمن المُستند إلى الأحداث بالنسبة إلى المجتمعات الأفريقية التقليدية التي تعيش على الصيد وجمع الثمار، فقال: «هناك شهر «الحر»، وشهر الأمطار الأولى، وشهر اقتلاع الأعشاب الضارة، وشهر البقول، وشهر الصيد، وما شابه. ولا يُهم عدد أيام «شهر الصيد»، هل هو خمسة وعشرون يومًا أم خمسة وثلاثون يومًا؛ ما يهم هو حدث الصيد بصرف النظر عن طول الشهر حسابيًّا.» أما الدورات التي تستمر لمدة أطول، مثل السنة، فتقاس عن طريق تكرار الدورة الزراعية، مثل مرور فصلَين مُمطرَين وآخرَين جافَّين، فتكوِّن الفصول الأربعة مجتمعةً عامًا واحدًا. ولم يكن من المُهم تحديد عدد أيام السنة بالضبط، «لأن السنة تُقدر بحسب الأحداث لا عدد الأيام. ومن ثَم، قد تقدر سنة ﺑ ٣٥٠ يومًا، بينما تقدر أخرى ﺑ ٣٩٠ يومًا. قد تختلف السنوات، وهو ما يحدث في كثيرٍ من الأحيان، من ناحية طولها بحسب عدد أيامها، لكنها لا تختلف من ناحية فصولها أو ما شابه من أحداثها المُنتظمة.» ويبدو هذا النظام أكثر منطقية من نواحيَ كثيرة مقارنة بمحاولاتنا لإرضاخ أنماط الطبيعة غير المتوقَّعة لإرادتنا. إذا علَّق المرء آماله على وقوع حدثٍ طبيعي في يومٍ أو ساعة بعينها، وَفقًا لنظام التقويم الذي وضعه البشر، فمصيره هو الخيبة قطعًا.
وأدَّى سرد الحكايات دورًا مُهمًّا في أنظمة تسجيل الوقت المستندة إلى الأحداث. في ظل غياب تقويمٍ عددي يُمكن الرجوع إليه، كانت الحكايات عن الأسلاف وتجارِبهم في الحصاد الجيد والسيئ والفيضانات ومواسم الجفاف وظواهر الكسوف والخسوف، وسيلةً لا غِنى عنها في تشكيل التاريخ والاستعانة بالماضي في تنوير الحاضر والتنبُّؤ بالمستقبل. وتمتدُّ هذه الحكايات، بالنسبة إلى بعض الشعوب الأصلية الساحلية التي تعيش في أستراليا الآن، إلى ظاهرة ارتفاع المُحيط في نهاية العصر الجليدي الأخير، التي حدثت منذ ١٠ آلاف سنة. بالمِثلِ تُولِي الثقافة الماورية أهميةً كبيرة لعِلم الأنساب والأسلاف، بل لكلِّ الأحداث الماضية، وتستخدم الكلمة الرائعة، «فاكابابا»، في وصفه. وهم يعتقدون أنه لا يمكن تصوُّر المستقبل دون معرفة الماضي.
لا تزال الطبيعة تؤثر في عَلاقتنا بالوقت حتى في عصرنا الرقمي بشكلٍ متزايد. ويعكس التوقيت الصيفي البريطاني، الذي ينطوي على تقديم الساعة أو تأخيرها ساعةً كل ستة أشهر لزيادة ساعات ضوء النهار في فصل الشتاء، أن ضوء النهار لا الساعة هو العنصر الحاسم في استيقاظنا في الصباح. كما نحسُب مدَّة الحمل حتى يومنا هذا وفقًا للأشهر القمرية (تعادل عشرة أشهر قمرية أربعين أسبوعًا)، أو نُنهي يومَنا على الشاطئ بتقدير حركة المد والجزر. ويُخبرنا تغير ألوان أوراق الشجر أو البرودة المفاجئة في الهواء بانتهاء فصل الصيف بصورةٍ ملموسة أكثر من أي تقويم موجود.
علاوة على ذلك، نحن لا نزال نضبط الوقت بالاستناد إلى الأحداث والحكايات. نقول: «حدث هذا قبل ولادتك بفترة قصيرة»؛ «كان ذلك في فصل الصيف الذي تلا حصولي على شهادة الثانوية العامة»؛ «جاء ذلك عقب زواجنا بشهر»، فنُحدد موضع الأحداث حول اللحظات المحورية في حياتنا. وستُصنِّف الأجيال الحالية الأحداث بحسب وقوعها «قبل» أو «بعد كوفيد-١٩» لعدة سنوات، لأنه حدث جماهيري عالمي، رغم غياب الإحساس بالزمن عند مَن علقوا في منازلهم في أثناء الإغلاق الشامل. ونظرًا لأن اللحظات المُهمة التي كان من الممكن أن تُميز هذه السنة، مثل الأعراس والعطلات والحفلات والاختبارات وحتى عيد الميلاد المجيد، قد أُلغِيت جميعها، فقد صارت الأيام دونها «خارج الزمان» بشكلٍ غريب.
أغلق عينَيك وتخيَّل ساعة يد.
أُرسيت هذه العوامل جميعها في العالم القديم. وتم الوصول إليها من خلال الحوار مع الطبيعة. كثيرًا ما يُنسَب إلى السُّومَريين، وهي أقدم حضارة عرفتها بلاد الرافدين (العراق وسوريا حاليًّا)، اختراع أول نظامٍ عددي لقياس الوقت. فقد طوَّروا أول نظام عددي مكتوب قائم على الرقم ستين، ولا نزال نعتمِد عليه في حساب الدقائق والساعات والزوايا والإحداثيات الجغرافية في الوقت الحاضر. كان الرقم قابلًا للقسمة بسهولة دون اللجوء إلى الكسور أو الأرقام العشرية المُعقدة. كما كان قابلًا للقسمة على ثلاثة، وهو ما جعله عظيم النفع لأن غالبية البشر لديهم آلة حاسبة داخلية لجدول ٣. وهناك ثلاثة مفاصل أو بَراجم في كل إصبع، وتُشكِّل كل يدٍ (باستثناء إصبع الإبهام) اثني عشر مَفْصِلًا أو بُرجُمة؛ وتشكل اليدان معًا أربعًا وعشرين بُرجُمةً. وربما كان هذا النظام الإحصائي أصل تكوُّن اليوم من أربع وعشرين ساعة.
كما ينبثق تصورنا عن «اتجاه عقارب الساعة» من الشمس أيضًا بالإضافة إلى الموقع المكاني. كانت الحضارات التي شكَّلت نظم حساب الزمن المعاصرة تقع في النصف الشمالي من الكرة الأرضية. فإذا أردتَ اتباع مسار الشمس عَبر السماء في نصف الكرة الأرضية الشمالي، عليك أن تُواجه الجنوب. فمن هذا الموقع، تتحرك الشمس من اليسار إلى اليمين على مدار اليوم، بينما تزحف الظلال المعاكسة التي تُلقيها من اليمين إلى اليسار؛ أي في اتجاه سير عقارب الساعة. ولا بدَّ أن هذه الملاحظة البسيطة دفعت أجدادنا إلى قياس الزمن من خلال أطوال وزوايا ظلال أجسام الأشخاص أو المباني أو الأشجار على الأرض من حولهم. كانت المِزولة أول ساعة ذات «ميناء» نعرفها في زمننا الحاضر، هي محاولة لاستغلال هذه الظاهرة بعينها، وحلَّ فيها قضيب رأسي أو شكل مُعين يطلق عليه «شاخص المِزولة» محلَّ الأغراض العشوائية التي تُلقي بظلالها على الأرض.
لا أحد يعلم أول مَن اخترع المزولة أو ساعة الظل. فهي تظهر في جميع أنحاء العالم، بدايةً من دائرة ستُونهِنج الحجرية (٣٠٠٠ ق.م. تقريبًا) بإنجلترا التي بُنِيت على نحوٍ خاص لمحاذاة الشمس في الانقلابات الصيفية والشِّتْوية، وانتهاءً بالعُصِيِّ المطليَّة المُستخدمة في إجراء حسابات من الظلال في الموقع الفلكي القديم في تاوسي بالصين (حوالَي ٢٣٠٠ ق.م.). وفي المقبرة المصرية القديمة، وادي الملوك، عُثر على تقسيمات مِزولة شديدة القدم، محفورة على لوحٍ جيري مُسطح، في أرضية كوخ عامل من العمال، يعود إلى منتصف الألفية الثانية قبل الميلاد. وقد فُقِد شاخص المِزولة — عصًا رأسية منفصلة تُحشر في تجويفٍ في مركز المِزولة — لكنه في الماضي كان يُلقي بظلِّه في نصف الدائرة المرسومة بالأسود والمقسَّمة إلى اثني عشر قسمًا يفصلها خمسُ عشرة درجة تقريبًا. كانت هذه التقسيمات التقريبية تساعد مالكها في تحديد بداية وقت العمل وساعة الغداء وموعد حزم الأدوات والعودة إلى البيت قبل أن يحلَّ الظلام. إن اقتران شاخص المزولة بالميناء هو ما يُنشئ مزولة «حقيقية».
كما أدَّت المزاول دورًا مهمًّا آخر؛ فقد كانت بؤرة المجتمع السكاني. وأعطت السكان المحليِّين، من مكانها في قلب البلدات والمدن في كثيرٍ من الأحيان، إحساسًا مشتركًا بالوقت، يستطيع الجميع الوصول إليه والاعتماد عليه في أعمالهم. هذا الفهم الجمعي للوقت أثبت ضرورته في تطور الحضارات. فعن طريق مراقبة السماء وقياس حركة الشمس، تمكنَّا من تقسيم اليوم إلى فتراتٍ زمنية أقل حجمًا وأكثر دقة، ومن ثم تنظيم حياة وأنشطة مجموعات كبيرة من الأشخاص. فهذه التقسيمات سهَّلت إلى حدٍّ كبير تعامُلاتنا مع الآخرين، ونسَّقت تفاعلاتنا معهم، سواء في مجال الزراعة أم التجارة أم التعليم أم الحوكمة، ومن ثم فقد ساعدتنا في التخطيط للمستقبل.
كلَّما تخيلت ساعة في ذهني سمعتُ تكتكتها الدائمة؛ فهي تذكير مُزعج بسرعة انقضاء وقتنا على هذا الكوكب. بالمِثل سجَّلت الكثير من أدوات قياس الوقت القديمة انقضاء الزمن. فعلتْ ذلك الساعات المائية من خلال تسخير الوتيرة المُنتظمة لتدفُّق الماء عَبر أحد الثقوب. بدت أقدم الساعات المائية بسيطة على نحوٍ مُثير للدهشة؛ فقد كانت عبارة عن وعاء من الفَخَّار مملوء بمقدار مُعين من الماء، ويتدفَّق منه الماء شيئًا فشيئًا إلى وعاءٍ آخر من الفَخَّار. وكانت تعتمد على الفهم الدقيق لمعدلات التدفُّق والحجم. بالنسبة إلى هذه الساعات، ينفد الوقت بالمعنى الحرفي للكلمة ويُحتاج عندئذٍ لإعادة ملء الوعاء بواسطة شخصٍ مسئول مُخصص لهذا الأمر. وقد استخدم قدماء المصريين ساعات مائية مصنوعة من المرمر والبازلت الأسود لهذا الغرض، بينما عُثر على ساعات من الفخار من العصر البرونزي على ساحل البحر الأسود فيما يُعرَف بأوكرانيا حاليًّا. وجرت تعديلات على هذا النظام البُدائي على مستوى العالم كله، من بابل القديمة وفارس إلى الهند والصين وأمريكا الشمالية الأصلية وروما القديمة. وفي اليونان القديمة، استُخدمت الساعة المائية التي كان يُطلق عليها هناك «كليبسيدرا» (وتعني «سارقة الماء») في محاكم أثينا لتمييز الوقت المُخصص لكلِّ مُتحدث. وامتازت بعض هذه الساعات بأنها تُطلق إنذارًا. ففي تصميم ساعة مائية يعود إلى ٤٢٧ ق.م. من اختراع أفلاطون، تم وضع أربع جرَّات فَخَّارية بعضها فوق بعض بترتيبٍ رأسي كي تسمح للماء بالتدفق من الجرة العلوية إلى الجرة التي تحتها مباشرة، بوتيرة بطيئة ومضبوطة. وما إن تمتلئ تلك الجرة، في لحظةٍ بعينِها مقدَّرة بالنظر إلى حجمها وسرعة تدفُّق الماء إليها، يتدفَّق الماء عَبر مِمَصٍّ إلى الجرة الثالثة التي تحتها على الفور. هذا التدفق المفاجئ للماء يدفع الهواء الموجود في الجرة الثالثة إلى أنبوبٍ بالقُرب من غطائها فيُصفِّر ويطلق الإنذار. وتجمع الجرَّة الرابعة السفلية الماء لتجهيزه لإعادة استخدامه.
مع كثرة السفر والحاجة إلى معرفة الوقت في أثناء التنقل تبيَّن أن الكثير من هذه الأدوات المُستخدَمة في قياس الوقت غير فعَّالة: فالمَزاول تثبت في مكانها ولا تتحرك، والساعات المائية تسكب المياه في الأنحاء، والساعات الشمعية تنطفئ بفعل الرياح. وفي النصف الثاني من العصور الوسطى شاع استخدام الساعة الرملية مع الساعات الأخرى. وبحلول أواخر القرن الثالث عشر بدأ استخدام «الساعات الرملية» على متن السفن. ونجد فرانشيسكو دا باربيرينو، في «وثائق الحب»، المكتوبة في الفترة الزمنية ما بين ١٣٠٦ و١٣١٣، يصرُّ على أنه: «إلى جانب حجَر المغناطيس ورجال الدفة المَاهرين والمُراقب اليقظ والخريطة لا بد أن يكون مع البحار ساعته الرملية.» وفي أواخر القرن الخامس عشر، قِيل إن كريستوفر كولومبوس كان يستخدم «أمبوليتا» (أي قارورة صغيرة زجاجية) تدوم لنصف ساعة ويتعهدَّها رجال الدفة ويُصحِّحونها بالاستعانة بشمس منتصف النهار كنقطةٍ مرجعية للزمن. وفي الحقيقة، ساعدت الساعات الرملية البحارة لا في تحديد الوقت فقط ولكن المكان أيضًا: فمن خلال معرفة الوقت المُنقضي منذ أقلعت السفينة وسرعة الإبحار (تُقدَّر حرفيًّا بالعُقَد، حيث يُمدُّ حبل به عقدٌ على مسافاتٍ متساوية على متن السفينة، ثم تُحسب سرعة سحْب هذه العقد في البحر)، يمكن للبحارة تقدير مكانهم على الخريطة تقريبيًّا والتنبُّؤ بموعِد وصولهم لليابسة. وتُسمى هذه العملية «تقدير موضع السفينة»، وظلَّت الساعة الرملية أفضل أداةٍ متوفرة لهذا الغرض لعدة قرون. ولكن استغرق الأمر ٥٠٠ عام أخرى وثورة في العلم والهندسة حتى تتمكن الساعة الميكانيكية من مجاراة دقة الساعة الرملية في قياس خطوط الطول في البحر.
إن سوار اليد الذي تخيَّلناه في السابق هو سمة مُميزة لساعة اليد لأنه يجعل من الزمن أداةً قابلة للحمل وشخصية بالتبعية. ولأجل هذا السبب اكتسبت الساعة الحَلَقية أهميتَها. فقد كانت أول ساعة يُمكن دسُّها في الجيب، أو تعليقها في سلسلة، وحملها طوال اليوم. أثبتت الساعة الحلقية فاعليتها الشديدة، بسبب صِغر حجمها وخفَّة وزنها وعدم تأثرها نهائيًّا بحركة حاملها، فاستخدمها الناس لعدة قرونٍ حتى بعد اختراع ساعة اليد. كما ظهرت بِدَورٍ شرفي في مسرحية شكسبير «كما تشاء»، عندما وصف جاك لقاءه بأحد الحمقى في الغابة الذي تفاخر بإخراج «ساعة» من جيبه وقال له «بحكمة شديدة»: «إنها العاشرة».
تُذكرني هذه الفقرة بتلك اللحظة الحمقاء في الغابة، عندما تأمَّلتُ الإوز منشغلةَ الخاطر بمشروع الساعة القيِّم. وفي النهاية مرَّ الموعد النهائي الذي كنتُ أسعى جاهدةً للوفاء به في شتائنا الأول في القرية أمامي كما مرَّ الإوز الكندي، ولم أُنهِ الساعة إلا بعد ثلاث سنواتٍ أخرى.
أشعر بالراحة دائمًا عندما أتذكَّر أنه مهما بدت تجرِبتنا للوقت ميكانيكيةً ورقميةً اليوم، ستظلُّ القوى الطبيعية من أركانها الأساسية، وهي خارجة عن سيطرتنا تمامًا. وفي النهاية ستسير الأشياء وَفقًا لوتيرتها المقدَّرة لها.