الإنسان والآلة
نحن دائمًا ما نبتعِد عن اللحظة الحاضرة.
مع اقتراب وقت الظهيرة، يومَ التاسع من يونيو عام ١٩٤٠، كان طاقم الطائرة إل ٩٣٢٣ — قاذفة قنابل خفيفة من طراز بريستول بلينهايم إم كيه ٤ — المكوَّن من ثلاثة أفراد، عائدًا إلى القاعدة. بعد أن أكمل مُهمته بنجاحٍ بقصف قافلة ألمانية مسلحة بالقُرب من بلدة بوا دي بيكاردي، في منطقة سوم بشمال فرنسا. كان الجيش الألماني يتقدَّم بسرعة شديدة باتجاه قوات الحلفاء التي كانت مُحاصَرة بينه وبين الساحل. وانتهت عملية دونكيرك لإجلاء الجنود. كان طاقم الطائرة إل ٩٣٢٣ جزءًا من خطة «أوبريشن إيريال» التي كان دورها إبطاء تقدُّم العدو لأطول فترة مُمكنة حتى يتمكن رفاقهم الذين فاتهم الإجلاء الرئيسي من الهروب عبر القنال الإنجليزي.
وفي أثناء المرور فوق نورماندي، في طريق العودة إلى القاعدة، وقع الطاقم تحت نيران العدو من مِدفع مضاد للطائرات من طراز فلاك. فقُتل الضابط الطيَّار تشارلز باول بومفورد من فوره. واضطُر مُراقب الطيارة، الرقيب روبرت أنتوني باومان، إلى تنحيةِ جثة رفيقه الصريع جانبًا، والإمساك بعصا التحكم المركزية. لم يكن لروبرت خبرة في قيادة الطائرات من قبل، لكنه كان يعلم أنه إذا تركها تهبط هبوطًا حرًّا فسيموت هو والرامي الضابط الطيار فرانسيس إدوارد فراين فور ارتطامها بالأرض. وبعد المُصارعة مع أزرار التحكُّم، في أثناء هبوط الطائرة، تمكن من إبطاء سُرعتها بما يكفي لينجو هو وصاحبه من الارتطام المبدئي. لكن الارتطام تسبب في تراجُع مقدمة الطائرة إلى قمرة القيادة وحُشر روبرت وراء عمود القيادة. علق روبرت في مكانه. فأسرع فرانسيس لإنقاذه لكنه عجَز عن تحريره من مكانه. اشتعل الوقود المُتسرب، وألقى الانفجار بفرانسيس خارج الطائرة. ومات روبرت محترقًا وسط النيران.
ولوقتٍ طويل بعد ذلك، ظلَّ مصير فرانسيس مجهولًا. تُشير سجلات الطيران إلى أنه ربما نجا وأُسر على الأرجح كسجين حرب، لكن لم يُعثَر على أي سجلٍّ لاعتقاله. والحقيقة تَبيَّن أنها أكثر روعةً بكثير.
تقطعت السبل بفرانسيس؛ إذ كان مُصابًا بجروحٍ بالغة تمنعه من الحركة، وأدرك أن العدو ليس عنه ببعيد. وبينما هو مُستلقٍ على الأرض مكانَ سقوطه، سمع وقع أحذية جنودٍ يقتربون. لا بد أنه تنفَّس الصُعَداء عندما سمع أصوات الجنود، وأدرك أنهم يتحدثون بلهجاتٍ اسكتلندية. كان الجنود من فرقة المشاة ٥١ (هايلاند)، آخر قوة كبيرة للحلفاء في المنطقة، إذ فرَّ البقية للساحل أيضًا. أنقذت الفرقة فرانسيس، وطوت معطف الطيران الخاص به بحرصٍ ووضعته وسادةً تحت رأسه، ثم حملته على حمَّالة، لمدة يومَين، إلى مستشفى بلدية سانت فاليري أون كو الفرنسية، حيث تمنَّوا جميعًا أن يتم إجلاؤهم من هناك بواسطة القيادة. وفي الأيام التالية ﻟ «معجزة دونكيرك»، نُقل ما يقرب من ٢٠٠ ألف من الأفراد والجنود التابعين للحلفاء بالقوارب إلى برِّ الأمان. كان فرانسيس من بين هؤلاء. كانت السفينة التي هرب على متنها آخِر ما غادر الميناء قبل وقوعه تحت نيران العدو. وتولى قيادتها عالِم الطبيعة رفيع الشأن الضابط البحري البريطاني سير بيتر سكوت، الابن الوحيد للمُستكشف روبرت فالكون سكوت.
وبالنسبة لمُنقذي فرانسيس، فرقة المشاة ٥١ (هايلاند)، فلم يكونوا بنفس حظه. كانت الخطة هي أن تعود السفينة لإحضارهم، لكن الضباب الكثيف حال دون عودتها. وبحلول فجر الثاني عشر من يونيو، علم الجنود أنه لا أمل في عودة أي سفينة لإنقاذهم. وفي ذلك الصباح، سلَّم الجنود العالِقون المُنهكون المُستنزفون أنفسهم.
نعرف قصة فرانسيس العجيبة لأنه حكاها بالتفصيل لابنه الذي نقلَها لي لأنني سألعب اليوم دورًا صغيرًا في قصته.
في المستشفى التي نُقل إليها فرانسيس بفرنسا، وأثناء علاج إصاباته، أخذت مُمرِّضة معطف الطيران المهترئ الذي كان مطويًّا تحت رأسه، ونفضته لتُعلِّقه بجانب فراشه. وفجأة، سمعت صوت ارتطام جسمٍ معدِني بالأرض. انحنت الممرضة لتلتقِطه من فوق الأرض. تبيَّن أنها ساعة فرانسيس، وأنها نجت من تحطُّم الطائرة نوعًا ما. كانت أجزاء معدِنية كبيرة قد انفصلت من عُلبتها، وانكسر حزامها، وطار الإطار الدوَّار الذي كان يستخدِمه فرانسيس في حساب الفترات الفاصلة بين كل قصفٍ والقصف الذي يليه، لكنها نجت مع مالِكها، صحيح أن كليهما به ما به من آثار المعركة، لكن قلبَيهما لا يزالان يدقَّان.
وها هي الساعة قابعة أمامي على طاولة العمل. إذ احتفظ بها فرانسيس بعد الحرب وتركَها لابنه الذي أحضرها لي في كيسٍ سميك مُبطَّن. صار ميناء الساعة، الذي كان عاجيًّا بلون الحليب الكامل الدسم، مُرقطًا بِبُقع داكنة. أفضِّل وصف ما جرى له ﺑ «الاصفرار» لأنه يُذكِّرني بالنقاط الظاهرة على صفحات الكتب القديمة التي عفا عليها الزمن. صحيح أن هذا ليس مصطلحًا رسميًّا في علم الساعات، لكني أجده منطقيًّا بالنسبة لشخصٍ يُحبُّ كلًّا من الساعات والكتب القديمة. وفي الجزء الموجود تحت رقم ١٢ كانت هناك آثار باقية من اسم العلامة التجارية موفادو.
ومن اللافت للنظر أن كلمة «موفادو»، على ميناء ساعة فرانسيس، قد كُشِطت بالكامل وبدقَّة متناهية كأن الفاعل استخدم حافة دبُّوس للوصول إلى هذه النتيجة. ولم يتبقَّ منها سوى حرف «في» الذي يتوسط الكلمة. لم يخبر فرانسيس ابنه أبدًا عن سبب تلَف ميناء الساعة والمَغزى من ذلك. من المُحتمَل أن فرانسيس هو مَن عدَّل الكلمة بنفسه، ليترك حرف «في» اختصارًا لكلمة «فيكتوري» بمعنى «النصر». أيًّا كان سبب الكشط، فهو جزء لا يتجزأ من تاريخ الساعة الصغيرة، لذا سأتركه كما هو. هدفي الأساسي هو إصلاح الساعة كي تعمل من جديد، ويواصل أحفاد فرانسيس استخدامها، وتظل قصتها حاضرة في أذهانهم.
جميع الساعات لها حكاياتها الخاصة بها، لكن ساعات القرن العشرين تبدو أقرب إلينا بكثيرٍ من غيرها. فنحن نسمع حكاياتها من أصحابها أو مِمَّن على صِلةٍ بهم، لا من صفحات الكتب أو الخطابات في السجلات المحفوظة. وساعات الحرب العالمية الثانية مُشبَّعة بخبرات أصحابها سواء أكان الجيش هو مَن وزَّعها أم هي مُمتلكات شخصية. لم تشهد جميعها الحرب. فبعضها قُدِّر له أن يكون ملك المُوظَّفين الإداريين الكثيرين في الجيش. وتشير العلامات الموجودة في ساعات العسكريين، المطبوعة على الميناءات أو المنقوشة على ظهر العُلب عادةً، إلى الأرقام والأكواد المرجِعية التي من شأنها أن تخبرنا بالسلاح والدولة والسنة التي وُزِّعت فيها. على سبيل المثال: تحمل الساعات العسكرية البريطانية علامة سهمٍ عريض النَّصْل اشتهر ﺑ «قدم الغراب»؛ لأن خطوطه الثلاثة المُتصلة تبدو مثل آثار أقدام طائر في الرمال. وكانت هناك أكواد عديدة مثل «إيه إم» التي تُشير إلى أن هذه الساعات مُخصَّصة لوزارة الطيران، و«إيه تي بي» التي هي اختصار للساعات الخاصة بالجيش، و«دابليو دابليو» التي تعني أنها ساعة مِعصم مقاومة للماء. وتُشير الحروف الأولى «آر سي إيه إف» إلى أن الساعة مُخصَّصة للقوات الجوية الملَكية الكندية. ولكل دولةٍ أنظمتها الخاصة بها في التعريف، كما أن هذا الاتجاه البسيط في الإشارة إلى الساعات الخاصة بالجيش يجعل من السهل عادةً التعرُّف عليها وتأريخها (هناك استثناءات لهذه القاعدة).
رأيت أيضًا ساعات وُزِّعت على الجيش النازي، خلال العَقد الثالث والرابع من القرن العشرين، مُزيَّنة بالصليب المعقوف والنسر اللذين هما شعار البحرية الألمانية، أو عليها رقم الطيَّار «إف إل» المُخصص لساعات سلاح الجو الألماني، أو تحمِل حرفي «دي إتش» التي تعني «الجيش الألماني». في المرات النادرة التي كانت هذه الساعات تشُق طريقها إلى ورشتنا، كنتُ أُسلِّمها إلى كريج بسرعة. فهو ينجح فيما أعجِز عنه ويتعامل معها بموضوعية. يذكُر كريج أن ساعة الجيش النازي ربما لم يُكتب لها مغادرة المخازن أبدًا؛ أو أنها وُزِّعت على موظف مبتدئ قليل الشأن، أو قايضها أحد الجنود الكثيرين الذين انتهى بهم المطاف في معسكرات الاعتقال التابعة للحلفاء ببعض السجائر. وبالمِثل، فإن أي ساعة تصل إلينا، قد تكون شاهدة على عددٍ من المذابح التي أحاول ألا أتخيَّلها، إلا إذا كان مصدرها معروفًا على سبيل القطع. يرى كريج أن هذه الساعات ما هي إلا جمادات. ولا يمكن للمرء لَوْم الجماد على جناية صاحبه أو صانعه.
رغم براءة الساعات النازية، مثل كتلة جماد من المعدِن والمينا والزجاج، فإنها تطرح سؤالًا مشروعًا حول نوايا جامِعِيها. أعرف مُلَّاكًا ينظرون إليها على أنها قِطَع تاريخية لا أكثر، كما أن اهتمامهم العام بالتاريخ العسكري للقرن العشرين يدفعهم إلى جمع مجموعة متنوعة كبيرة من الأدوات من كِلا الطرفَين المتصارعَين. ومع ذلك، هناك جمهور آخر للتذكارات النازية، يسعى لتمجيد حقبةٍ مروعة في تاريخنا، ما يتسبَّب في أزمةٍ مستمرة لدور المزادات والتجار. في الآونة الأخيرة، طُرحت في أحد المزادات ساعة مِعصم، قِيل إنها ملكٌ لهتلر، وهي موديل هوبر ١٩٣٣. فكتب ثلاثون من القادة اليهود لدار المزادات يُعربون عن اعتراضهم على عملية البيع، ولكن حصَّلت الساعة ١٫١ مليون دولار في اليوم الأول، واشتراها يهودي أوروبي حسبما يبدو. واشتعل نفس هذا النِّقاش، في سنة ٢٠٢١، حيث طُرِحت للمزاد في المملكة المتحدة ساعةٌ كانت قد وزَّعتها الحكومة الصينية على الجنود احتفاءً بمشاركتهم في مذبحة ساحة تيانانمن في يونيو ١٩٨٩. وعلى ميناء الساعة، أسفل صورةِ جنديٍّ يرتدي زيًّا رسميًّا أخضر وخُوذة، كُتب: «٦ / ١٩٩٨، احتفاءً بذكرى قمع التمرد»، ذلك القمع الذي أودى بحياة ما بين ٣٠٠ إلى ٣ آلاف شخص، بحسب ما إذا كنت ستستخدِم التقديرات الحكومية الرسمية أو تقديرات المُراقبين الخارجيين. كان موقف دار المزادات، في البداية، هو أن هذه الساعة «محل اهتمام دولي»، وليس في بيعها تأييد لما حدث من أيِّ نوع، ولا عَلاقة للمالك بجيش التحرير الشعبي. لكن بعد أن تعرض البائع المجهول لتهديدات بالقتْل على صفحة دار المزادات على مواقع التواصُل الاجتماعي وعلى موقعها الرسمي، تراجعت الدار عن المزاد فيما بعد. تؤدي الأغراض دورًا مهمًّا حتى لا ننسى الماضي. لكن ماذا عسانا نفعل بالتحف القادمة من حِقَبٍ مُظلمة من التاريخ؟ هل نحفظها في المتاحف سواء في صالات العرض أو في المخازن، أم من الأفضل تدميرها؟ عندما تصِل هذه الأغراض إلى السوق الحرة فلا سبيل لمعرفة مَن ستئول إليه أو كيف سيستخدمها. ليست هناك إجابات سهلة عن هذه الأسئلة.
أرى أن كل ساعة تحمِل آثار مُستخدِميها. عندما حشد النازيون اليهود لما أسمَوه «بإعادة التوطين في الشرق»، ظنَّ الكثيرون أنهم سينقلونهم إلى مكانٍ آخر فحسب. لم يكن لديهم الكثير من الوقت لحزم أمتعتهم، بالإضافة إلى قلة الأمتعة المسموح بها، فاضطُروا إلى حمل ما يمكن حمله من أثمن مُمتلكاتهم. وكانت الساعات والأموال والملابس والنظارات والأطراف الصناعية من أولى الممتلكات الثمينة التي صادرها الألمان بمجرد وصولِهم إلى معسكرات الاعتقال. وبعد تحرير المعسكرات في نهاية المطاف، عُثر على كُومة من الساعات تبلُغ الآلاف. ومع أن كل ساعةٍ من الساعات لدَيها حكاية لن تُروى أبدًا؛ فإنها في مجموعها تشهد على فترةٍ مُخزية من تاريخ البشرية.
تُشكِّل الساعات، التي جُمِعت بعد إلقاء الولايات المتحدة الأمريكية لقنبلة هيروشيما على اليابان، عرضًا مؤثرًا في حديقة السَّلامِ التذكارية في هيروشيما. عندما هبطت الرأس الذرية «الفتى الصغير» البالِغة ٩٧٠٠ رطل (٤٦٠٠ كيلوجرام) على اليابان، في صباح السادس من أغسطس عام ١٩٤٥، قُتل ٨٠ ألف شخص على الفور. وأسفرت القنبلة عن موجات ضغطٍ أسرع من الصوت. واكتُشِف فيما بعد أن كل ساعةٍ أدركت الانفجار تجمَّدت عقاربها للأبد عند وقت الانفجار الواقع في الساعة ٨:١٥ صباحًا.
في الحربَين العالميتَين رافقت ساعات المِعصم الرجال والنساء في ساحات المعارك وغياهب السجون، وفي مهام التجسُّس ومحاولات الفرار. وبعد انتهاء الحرب، استمرت الساعات في الاستفادة من هذا الإرث العظيم. فحتى بعد عودة الجنود إلى حياتهم المدنية، استُغِلت مناقبهم من شجاعةٍ وصمود في التسويق للساعات. ورُوِّج لمتانتها في أحلك الظروف، رغم أن الرجل المُعاصر من المُرجَّح ألا يخوض غمار القتال، وإنما ستقتصر أقصى مغامراته على جزِّ الأعشاب.
تنافست كل ساعة مع نظيرتها من حيث الدقة في قياس الوقت والبراعة التقنية. ومكَّنت التطورات، في علب الساعات المقاومة للماء، ساعات الغوص من الوصول إلى أعماقٍ سحيقة لم تبلُغها من قبل. في سنة ١٩٦٠، ثبَّتت رولكس أفضل ساعة غوصٍ لدَيها، والتي أطلقت عليها اسم: ديب سي سبيشال، بالهيكل الخارجي لغوَّاصة الأعماق ترييستي التي غاصت بها في خندق ماريانا على عُمق ١٠٩١١ مترًا من سطح البحر. وعندما عادت الساعة إلى السطح كانت سليمةً تمامًا، وهو ما لا يستطيع بشَر القيام به، إذا صاحَب الساعةَ في نفس الرحلة (الرقم القياسي العالمي الحالي لأعمق نقطةٍ وصل إليها غوَّاص بشري هو ٣٣٢٫٣٥ مترًا فحسب). وفي سنة ١٩٦٥، أرسلت أوميجا الكرونوجراف الخاص بها، والذي أطلقت عليه اسم: سبيد ماستر، إلى القمر حول مِعصمَي باز ألدرين ونيل آرمسترونج، بعدما تغلَّب على كل الساعات المنافسة في قُدرته على التعامُل مع التفاوت الشديد في درجة الحرارة، والتغيُّرات في معدلات الضغط، والصدمات، والذبذبات، والضوضاء الصوتية التي ستُواجهه في رحلته. كانت الساعات النسائية، على العكس من ذلك، مُصمَّمةً لغرَض الزينة أكثر من الكفاءة، فازدادت هشاشةً، وصغُرَ حجم مينائها أكثر فأكثر. وذكَّرت النساء بعدما وسَّعت الحرب في أدوارهن، بضرورة عودتهنَّ إلى مريلة المطبخ، والاستعداد لأهم ساعةٍ في اليوم وهي عودة أزواجهن من العمل.
في عصرنا الحاضر لا تزال الساعات العملية أو الساعات الرياضية من أكثر الأنواع رواجًا في مجال الساعات. قد لا تنجو من المواقف الخطيرة التي تستطيع ساعتك النجاة منها، لكنها ستكون سليمة على الأقل لتُورِّثها لأقربائك.
كان التوقيت الذري اكتشافًا عظيمًا، لكنه ظلَّ حبيس المعاهد العلمية في جميع أنحاء العالم، محاصرًا داخل آلات بحجم الشاحنات. وفي الوقت نفسه كانت التطوُّرات العلمية والتكنولوجية الأخرى تشقُّ طريقها إلى التوقيت المدني. كانت ساعات الحائط الإلكترونية، التي تعمل بواسطة النبضات الكهربية بدلًا من ذبذبات البندول أو النابض الرئيسي، موجودة منذ العَقد الثاني من القرن العشرين، ولكن الآن يتنافس المُخترعون السويسريون والأمريكيون في تطويع هذه التكنولوجيا كي تعمل في ساعات اليد. وكان أول مثالٍ ناجح، لساعة يدٍ تعمل بالبطارية، هي هاملتون فينتورا ١٩٥٧ ذات الميناء المثلث المُميز والعلبة الذهبية المُدرَّجة المُستوحاة من آرت ديكو. وقد تحوَّلت إلى سلعةٍ مرغوبة تتوق إليها النفوس بعدما ارتداها المطرب والمُمثل الأمريكي إلفيس بريسلي في فيلمه «هاواي الزرقاء». لكن ساعة فينتورا خرجت إلى السوق دون تجهيز كافٍ؛ كانت بطاريتها قصيرة العمر وسرعان ما عادت إلى الموزِّعين بأعدادٍ كبيرة بعد بيعها، ولم يكن الفنيون مُدرَّبين على التعامل مع التكنولوجيا الجديدة. لكن عندما حلَّت شركة هاملتون المشكلات الأولية لإطلاق ساعة فينتورا، كانت الساعات المنافِسة قد لحقتها، ومن بينها ساعة أكيوترون التي يمزج اسمُها بين كلمتي: «أكيوراسي» (التي تعني الدقة) و«إلكترونيك» (التي تعني إلكتروني)، وأطلقتها الشركة الأمريكية بولوفا في سنة ١٩٦٠.
اعتمدت ساعة أكيوترون في قياس الوقت على شوكةٍ رنَّانة ودائرة إلكترونية، يُشغِّلها ترانزستور واحد يستمدُّ طاقته من بطارية صغيرة. يعمل المُتذبذب الإلكتروني على تذبذب الشوكة الرنَّانة بمُعدَّل ثابت، يساوي ٣٦٠ مرة في الثانية، فتضبط هي الوقت بدورها (زعمت بولوفا أن الساعة تضبط الوقت بدقةٍ بفارق ثانيتَين زيادةً أو نقصانًا في اليوم)، مستحوذة على مكانة عجلة التوازن، التي أصبحت بذلك جزءًا من الماضي. عند ارتداء الساعة، يوحي مظهرها الخارجي وصوتها أنها قادمة من المُستقبل. ولا تحتوي ساعة أكيوترون سبيسفيو، أهم إصدار لشركة بولوفا، على ميناءٍ من أي نوع مما يعني أن المُستخدِم يستطيع مشاهدة الدوائر الإلكترونية في آليتها مباشرة. وفي داخل الساعة ملفَّان من الأسلاك النحاسية مُثبَّتان باللوحة ذات اللون الأخضر الفيروزي، يمدَّان الشوكة الرنانة بالمجال المغناطيسي؛ وتدور التروس عن طريق إدراج ترسٍ صغير له ثلاثمائة سن، يقوم بدوره بتشغيل مجموعة من التروس التي تقوم بتحريك العقارب. وتَطِن الشوكة الرنَّانة الضئيلة طنينًا ثابتًا مسموعًا، ينبعث من الساعة بصوتٍ عالٍ على نحوٍ غير متوقع. (حاولت الإعلانات المُروِّجة لساعة أكيوترون تحويل هذا الأمر إلى ميزة بيع مُغرية، فقالت: «أسمِعت صوت الدِّقَّة الجديد؟ إنه الطنين الخافت للأكيوترون.») ذات مرة، خلدتُ إلى النوم، وكان على الطاولة المجاورة لفراشي ساعة أكيوترون؛ حينها شعرتُ كأنني شاركتُ غرفتي مع نحلة صاخبة جدًّا عالقة تحت كأس زجاجي. كان تصميم أكيوترون سبيسفيو انعكاسًا لآخِر التطورات في الإلكترونيات الدقيقة. فهذا التصميم الشفَّاف للميناء لم يكن مجرد نافذة على آلية الساعة، بل كان نافذة على المُستقبل أيضًا.
لكن الساعة التي حلَّت محل الساعة الميكانيكية التقليدية قدِمت من اليابان. في عيد الميلاد المجيد عام ١٩٦٩، أطلقت شركة الساعات اليابانية سيكو ساعة أسترون، وهي أول ساعة كوارتز تجارية في العالم بأسره. فبدلًا من الشوكة الرنَّانة، ركَّز هذا الاختراع الذي يُعَد من بنات أفكار كازوناري ساساكي، على استخدام الكهرباء الانضغاطية التي اكتشفها بيير وجاك كوري في سنة ١٨٨٠ وتنطوي على استخدام البلورات لتحويل الطاقة الميكانيكية إلى طاقة كهربائية. عند خضوع البلورات للضغط فإنها تُصدر نبضات كهربائية صغيرة يُمكن استخدامها في إنتاج ذبذبةٍ ثابتة بشكلٍ ملحوظ. استُخدِمت هذه الفكرة في تنظيم دوران القرص الدوار المغناطيسي الذي يقوم بدورٍ مُشابهٍ لعجلة الانفلات في الساعة الميكانيكية. وتتذبذب ساعة الكوارتز المُبتكرة ملايين المرات في الثانية، مقارنة بأي ساعةٍ ميكانيكية قياسية من تلك الحقبة، التي تتذبذب بمعدل ١٨ ألف مرة في الساعة. وروَّجت الإعلانات للساعات الكوارتز الجديدة على أنها أدق مائة مرة من الساعات الميكانيكية المنافسة.
لم تكن ساعة الأسترون رخيصة الثمن؛ صُنع منها في البداية ١٠٠ قطعة فحسب، وبيعت بثمن ٤٥٠ ألف ين (حوالَي ١٠ آلاف جنيه إسترليني اليوم)، لكن لم يستمر الحال على هذا النحو لفترةٍ طويلة. فمع الاستثمار الضخم في التكنولوجيا، وتبسيط عملية الإنتاج وتنظيمها، وزيادة استخدام الآلات، انخفضت أسعار آليات ساعة كوارتز أكثر فأكثر. والآن يستطيع المرء شراء آلية ساعة كوارتز عالية الكفاءة ببضعة جنيهات لا أكثر.
هذا التطوُّر السريع لساعة كوارتز أخذ صناعة الساعات السويسرية على حين غِرَّة. فعند وصول ساعة أسترون، كان اتحاد من شركات الساعات السويسرية مثل نظيره الأمريكي، منشغلًا بصناعة إصداراته الخاصة من آلية الكوارتز منذ سنوات، ولكن بسبب حمايتها من قبل أسعار الصرف العالمية الثابتة بعد الحرب، فإن الصناعة نفسها فشلت في الابتكار وإعادة الهيكلة. كانت صناعة الساعات السويسرية لا تزال مُتشرذمة، حيث تُوجَد مصانع صغيرة، لا تختلف عن تلك التي ساهمت في تفوُّقها في زمن جون ويلتر، منتشرة في كل بلدة وقرية في منطقة الجورا السويسرية. وتطلَّبت تكنولوجيا الكوارتز مجموعةً مختلفة تمامًا من المهارات — مهارات في مجال الإلكترونيات لا الهندسة الميكانيكية التقليدية — كانت اليابان وهونج كونج على استعدادٍ أكبر للاستفادة منها مقارنة بسويسرا والولايات المتحدة الأمريكية.
وليس ثمة غرابة في أن ثورة كوارتز بدأت وأحرزت تقدمًا سريعًا في الشرق الأقصى. كانت اليابان وهونج كونج قد حققت الريادة على مستوى العالم في مجال الإلكترونيات بشكلٍ عام، مع النجاح الكبير الذي أحرزته شركات كانون وباناسونيك وميتسوبيشي، فطوَّرت شركاتها الخاصة لصناعة الساعات. اشتُهرت هونج كونج بصناعة ساعات رخيصة وأجزاء ساعات للشركات الأخرى؛ واحتوت اليابان على علاماتٍ تجارية مثل سيتيزن وسيكو وكاسيو. ولأول مرة في تاريخ الساعات، أصبحت الساعات تُصنَّع آليًّا بالكامل، دون الحاجة إلى مساعدة الحرفيين المهَرة. وبحلول عام ١٩٧٧، أصبحت سيكو أكبر شركة ساعات في العالم من حيث الإيرادات.
في نفس الوقت، سارت صناعة الساعات السويسرية إلى حافة الهاوية بخطواتٍ عمياء. كان صناع الساعات السويسريون، مثل نظرائهم البريطانيين، يُمجِّدون التفوُّق الميكانيكي، ورافضين لمواكبة التقدُّم. ونتج عن ذلك، أن تقاعسوا عن الاستثمار في التكنولوجيا الجديدة واضطُروا إلى استيراد أجزاء الساعة من وراء البحار أكثر فأكثر. وتفاقم الوضع بارتفاع قيمة الفرانك السويسري فخرجت الساعات السويسرية من سوق الساعات المنخفضة التكلفة. وفي أوائل العَقد الثامن من القرن العشرين، تراجعت صناعة الساعات السويسرية تراجُعًا كارثيًّا، مع التسريحات الجماعية وانهيار مئات الشركات، مما أحدث كسادًا في عالم صناعة الساعات القديم.
وكأن ما حدث لم يكن كافيًا، ففي أعقاب ما عُرِف بين أهل الصناعة ﺑ «أزمة كوارتز»، واجهت الصناعة السويسرية تهديدًا آخر، وهو الساعة الرقمية.
لا زلتُ أتذكَّر مشاعر الغبطة التي انتابتني عندما رأيتُ ساعة «بيبي جي» من كاسيو جي شوك على مِعصم زميلتي فيكتوريا. كان ذلك في الصف الأول الإعدادي. وكانت المدرسة قد اصطحبتنا في رحلة إلى مركز «أوتورد باوند» لتعزيز روح الفريق لدينا، وفي الليلة الأولى لنا هناك، خُضنا «تجرِبة استكشاف الكهوف». في الواقع، كنَّا ثلاثين فتاة، بين الحادية عشرة والثانية عشرة، محشورات في المساحة الخارجية من عُلِّيَّة المبنى، التي سُوِّرت جيدًا لخلق ظلامٍ دامس وامتلأت بمختلف العقبات. كان من المفترض أن ندور حول العلية في الظلام، مثل الخُلد الأوروبي، وهو ما لم يكن ليحدُث لولا الوهَج الأخضر الغريب لساعة فيكتوريا الرقمية «بيبي جي». كانت لمسة واحدة لشاشة العرض المُضيئة كافية لإشعالها والاهتداء بنورها في الظلام. أعجبتني طريقة تشغيلها بمجرد ضغطة على الزر. وددتُ لو أنني أحصل على واحدة مثلها! لكن لسوء الحظ كانت فوق إمكانية والديَّ المادية الضئيلة؛ ويجب أن أنتظر.
من المُثير للدهشة أن التكنولوجيا التي اعتمدَتْ عليها ساعة فيكتوريا الرقمية قد انبثقت جزئيًّا عن الأبحاث التي أجرتها وكالة ناسا الأمريكية. كانت أول ساعة رقمية أمريكية الصُّنع، وهي هاملتون بولسار التي أُطلِقت في عام ١٩٧٢، واستُخدِمت تقنية إل إي دي (ليد) المطورة في وكالة ناسا. ورُوِّج للساعة على أنها «الساعة الأعلى كفاءة ودقة؛ دون أجزاء متحركة. لا داعي للقلق بشأن تآكُل أو تلف عجلة التوازن ولا التروس ولا المُحركات ولا النوابض ولا الشوكات الرنانة ولا العقارب ولا سيقان تعبئة الساعة، فكلها غير موجودة.» لكن ساعة بولسار، مِثل فينتورا وقبلها أكيوترون، عجزت عن منافسة أسعار الساعات المصنوعة في الشرق الأقصى. لقد تفوَّقت عليها ساعة سيكو إل سي دي اليابانية في سنة ١٩٧٣، وكاسيو في سنة ١٩٧٤.
قد يظنُّ البعض أنَّ فكرة «لا أجزاء متحركة» هي بمثابة كابوس بالنسبة لي، لكنَّني أُكِنُّ عشقًا خاصًّا للساعات الرقمية، بل أمتلك مجموعةً من ساعات كاسيو التي تُعَدُّ رفيقتي المُفضَّلة أثناء العمل في الورشة. أعتقد أنَّني أنجذب إلى الأضداد (فأنا أعشق القطط والكلاب بنفس القدْر، وكان ألبوماي المُفضَّلان في طفولتي هما: «ذا بلانيتس» للموسيقي الإنجليزي هوليست، و«جريتست هيتس» لسيندي لوبر). صحيح أنَّني أمارس صناعة الساعات التقليدية وأدرسها، وأستمتع بصقل مهارات صناعة الساعات لدي، ولكنَّني أجد متعةً لا تُوصَف في مرونة ساعتي البلاستيكية كاسيو. إنَّ شعور الراحة الذي ينتابني عند ارتداء ساعة أعلم أنَّها لن تنكسِر بوقوعها من فوق سطح عمارة سكنية (أو هكذا تقول الإعلانات، فلم أختبر الأمر بنفسي) لا يُضاهيه شعور آخر، خاصةً عندما تتطلَّب وظيفتي دقةً وحرصًا غير متناهِيَين لإحياء ساعات ميكانيكية قديمة فائقة الجودة.
لا تحتاج ساعة سيكو إلى عنايتي الخاصة. لن أقلق بشأن خدش إطارها البلاستيكي بالبرادة المَعدِنية الحادة أو سحقِها بماكينة التفريز. كما أنني لستُ بحاجة إلى إصلاحها: فهي تعمل ببساطة وسلاسة. ولو احتاجت إلى استبدال بطاريتها، فالأمر يتم بسرعة وبسهولة بالِغة. ولو أنها في يومٍ من الأيام توقفت عن العمل، ولم تُجْدِ البطارية الجديدة نفعًا، فلن تكون نهاية العالم: فسعرها في الأصل ثلاثون جنيهًا إسترلينيًّا فحسب.
كان السبب الأساسي في انتعاش صناعة الساعات السويسرية رجلًا واحدًا، وهو نيكولا حايك. وهو رائد أعمال سويسري من أصول لبنانية لجأت إليه البنوك للإشراف على تصفية شركتَين سويسريتَين في صناعة الساعات، بعدما أجبرتهما أزمة كوارتز على الخروج من السوق. ولكن بدلًا من إغلاق الشركتَين تمامًا، رأى حايك أن إعادة الهيكلة الجوهرية هي مخرج الشركتَين من هذه الأزمة. أدرك حايك أن صناعة الساعات السويسرية لا بدَّ لها من التطوُّر السريع، وأن ذلك يتطلَّب الاستعانة بتقنيات كوارتز المنافسة لا رفضها، وخفض أسعار البيع بالتجزئة، وتقديم مُنتجات جديدة للسوق. وهكذا خطرت له فكرة صناعة ساعات كوارتز بأسعارٍ معقولة، من مواد رخيصة مثل البلاستيك والراتينج، وذات تصاميم جريئة عصرية زاهية الألوان. وأطلق على هذه العلامة التجارية الجديدة اسم «سواتش».
وسرعان ما سيطرت سواتش على سوق الساعات العصرية، وأعادت الروح إلى الساعات التناظُرية بمفردها. وفي سنة ١٩٨٥ وصفتها جريدة «لوس أنجلوس تايمز» بأنها «الإكسسوار العصري الجديد الأكثر رواجًا في السوق.» وكانت ساعات سواتش جذابة جدًّا من الناحية الشكلية والمادية — وصفتها شيريل تشونج مديرة تطوير الإنتاج لفرع الشركة في الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك ﺑ «الأناقة الرخيصة» — حتى إنها غيرت طريقة شراء الساعات واستخدام الناس لها بشكلٍ عام. وقد أصاب لاني مايوت، مدير التسويق في شركة أرميترون الأمريكية المنافسة، في تعبيره حين قال: «يمتلك الأشخاص اليوم خزانة كاملة من الساعات … في الماضي، كنتَ تشتري الساعة من أجل حفل التخرُّج وتُورِّثها لأولادك … فلمَ لا تشتري ساعة مُمتعة بدلًا من ساعة مُملَّة قديمة ذات سوار متعدِّد المقاسات؟»
منذ خمسة قرون، كانت الساعة من الرفاهيات الشخصية الباهظة الثمن، لا يقدِر على شرائها إلا الأثرياء. والآن أصبح في متناول الجميع شراء ساعةٍ من كل لونٍ من الألوان من المتجر المحلي القريب. وماذا يحدث لو تغيرت صيحات الموضة؟ لا داعيَ للقلق، كل ما عليك فعله هو التخلُّص من ساعتك القديمة وشراء أخرى جديدة. هكذا غيَّرت ساعات سواتش عَلاقتنا بالوقت المحمول. لكنها للمفارقة أنقذت الساعة الميكانيكية من الاندثار. فقد استمرت سواتش في نجاحها العظيم حتى تمكَّن حايك من شراء العلامات التجارية التاريخية المُتعثرة وضخِّ رءوس أموال فيها. وتُعَد مجموعة سواتش حاليًّا من أكبر تكتلات العلامات التجارية الفاخرة في العالَم بأكمله، وتمتلك ماركات شهيرة مثل أوميجا ولونجين وتيسوت وهاوس أوف بريجيه. لقد حالت الساعات الرخيصة المُبهجة دون ذهاب صناعة الساعات الميكانيكية السويسرية في طي النسيان.
لكن لسوء الحظ لم تحظَ الشركات الأمريكية وفروعها العالمية بمن يُنقذها. يُعَد الإضراب الذي وقع في مصنع تايمكس الأمريكي، بمدينة دندي الاسكتلندية عام ١٩٩٣ من أسوأ الأحداث التي تسبَّبت فيها أزمة كوارتز. وصُنف هذا العنف التظاهُري بأنه الأسوأ على الإطلاق منذ إضراب عمَّال المناجم عام ١٩٨٤. في ذروة الازدهار، في سبعينيات القرن العشرين، كان مصنع تايمكس يضم أكبر عددٍ من العاملين، إذ وظف ٧ آلاف شخص. وعند إغلاق أبوابه، كان قد انخفض عدد موظفيه إلى سبعين شخصًا فحسب. حدثت الأزمة في سنة ١٩٩٣، بسبب نزاعٍ أثاره مقترحٌ بشأن تسريح العمال وتجميد الأجور وخفض المُخصصات الإضافية، نتيجةً للمنافسة من الشرق الأقصى. بحلول عام ١٩٩٣ كانت هونج كونج تصدِّر ٥٩٢ مليون ساعة في السنة، وتورِّد شركاتها الطلبيَّات المُجمَّعة الكبيرة في وقت يبلغ خمسة وعشرين يومًا فحسب. عجزت شركة تايمكس في مدينة دندي عن المنافسة في السوق. صوَّت العمال النقابيون بالإجماع لدعم الإضراب بدلًا من مواجهة تقليل العمالة أو تخفيض الأجور. وأسفر فشل المفاوضات عن منع العمال المُعتصمين من دخول المصنع، ونُقِلَ العمال الناقضون للإضراب، أو «الأنذال» بحسب وصف المُعتصمين لهم، بالحافلات إلى المصنع ليحلوا محل المعتصمين. وصف أحد المُحتجِّين كيف «أمطرت علب الكولا والقهوة السيارات ووقعت حوادث تخريب متعمَّدة للممتلكات … (وقال) كنتُ أحتفظ دائمًا بمقبض مِعول في الجزء الخلفي من سيارتي.» كان غالبية عمال تايمكس من النساء واستغلهنَّ الإضراب سياسيًّا. في مقابلة مع صحيفة «سكوتسمان»، قالت إحدى النساء العاملات في خط التجميع إنهن تحولن من «حملان إلى أُسُود.» وقالت: «كانت هناك نساء ضعيفات، وفجأة تحولنَ إلى «كائنات» لا يمكن التعرف عليهن … كن يُحاربنَ من أجل لقمة العيش. وكانت غالبيتهن مثلي. لقد عملنا هناك منذ أن كنَّا فتياتٍ صغيرات.»
في النهاية، وبعد ستة أشهر من الاضطرابات العنيفة، أغلق المصنع أبوابه نهائيًّا، وانتهى بذلك دوره كجهة توظيف في المدينة بعد ٤٧ عامًا من العمل. ورغم استمرار العلامة التجارية تايمكس، وانتشار فروعها حول العالم (الجزء الأكبر من إنتاجها الآن في سويسرا والشرق الأقصى)، فإن غلق مكتبها في اسكتلندا ترك أثرًا عميقًا لم تداوِه السنون. في سنة ٢٠١٩، أنتجت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) فيلمًا وثائقيًّا عن «آخر إضراب دموي في اسكتلندا»، كشفَ عن أن المدينة لم تتعافَ بعدُ من خسارتها لشركة تايمكس.
لم يعُد عُمر الساعة الافتراضي طويلًا. يَبلى البلاستيك أسرع من المَعدِن لطبيعته المرنة، ويؤثر على آلية الساعة الدقيقة، مما يُقلِّل من عمرها الافتراضي. وإذا كان صانع الساعات يستطيع إصلاح آلية الساعة الميكانيكية، فإنه يَعجِز عن معالجة لوحة الدائرة الشائعة في الساعات ذات البطاريات؛ إذ غالبًا ما تُلحم آلية الساعة بالعلبة، ومن ثَم عند فتح العلبة تتداعى مكوِّناتها مثل قنبلة من الرقائق اللامعة. أصبحت الساعة بأكملِها تتوقَّف عن العمل بتوقُّف جزءٍ منها. في العقود التالية، صار التقادُم الذاتي جزءًا من طريقة تصميم السيارات وأجهزة الكمبيوتر والبرمجيات.
كانت هذه لحظة فارقة في تاريخ حرفتنا الطويل. أحبُّ أنا وكريج الحقبة السابقة لأزمة كوارتز، لا سيما أنها تعكس اتحاد العنصر البشري مع الآلات. صحيح أن الآلات حسَّنت إنتاج الساعات وكفاءتها ودِقَّتها إلا أنها لا تزال بحاجةٍ إلى الإشراف البشري. فماكينة التفريز من العَقد الرابع من القرن العشرين بحاجة إلى عامل تشغيل ماهر. ولا بد لها من شخصٍ يضبطها ويُراقبها ويُشغلها يدويًّا. إنها تُسرِّع وتيرة العمل وتتَّسم بدقةٍ متناهية، لكن لا يمكن تركها دون مراقبة. وعلى العكس منها، يقوم نظام التحكُّم الرقمي بالكمبيوتر بكل العمل بدلًا منك بمجرد أن تضبطه وتُدخِل إليه أحدَ برامج التصميم، ويصنع لك منتجات شِبه كاملة. ويمكنك حتى تركه للعمل طوال الليل، مما يُتيح لك أن تعود إلى ورشتك في الصباح التالي لتجد أنه قد قام بكلِّ العمل بالنيابة عنك بينما كنتَ نائمًا.
من منظور صانعة ساعات تقليدية، تبدو هذه الفكرة غريبة. جميع أدواتنا وآلاتنا قديمة. عندما افتتحنا ورشتنا بقرضٍ صغير جدًّا، يُعادل نصف سعر مِخرطة سويسرية جديدة، لم يكن لدينا خيار آخر سوى البدء بشراء مُعَدات قديمة، يُمكننا إصلاحها وتهيئتها بعد ذلك لتقوم بالوظائف المطلوبة. ولكن، أجدُ التعامُل مع هذه المعَدات من أمتع سمات وظيفتي. بمجرد أن تتعرَّف عليها، تكتشِف أن لكل واحدة من معَداتنا شخصيتَها الفريدة، لدرجة أننا نُطلق عليها أسماء. بجانب المِخرطة هيلجا، تقبع أختها هايدي، وهي مِخرطة أخرى من شرق ألمانيا تعود إلى خمسينيات القرن العشرين من عيار ٨ ملليمترات؛ وقد وصلتا معًا في صندوق من بلغاريا. خصَّصنا هيلجا لتقطيع العجلات، مُستخدِمين صورة على غِلاف كتاب (اسمه، للمفارقة، «صانع الساعات ومِخرطته») باعتبارها مرجعًا؛ فتقطع كل سنٍّ من أسنان العجلات الصغيرة والتروس في الساعة، بينما تقطع هايدي الأعمدة وسيقان التعبئة الصغيرة باستخدام إزميلٍ من الفولاذ الصلب. وهناك جورج، المِثقاب العمودي، المصنوع في ستينيات القرن العشرين في شركة آيديال ماشين آند تول البريطانية، ويمتاز بقُدرته على إحداث ثقوب صغيرة بحجم ٠٫١ ملليمتر. يجلس جورج بجوار ألبيرت، ماكينة التفريز التي صنعتها شركة وولف جون في عام ١٩٠٠ تقريبًا، ويقوم بوظيفة تُشبه وظيفة المِثقاب، إلا إن سطحه (الذي يحمل المشغولات) يتحرك من جانبٍ إلى آخر، مما يُتيح له قصَّ تجاويف وخنادق طويلة في المعدِن. أما أصغر مخرطة لدَينا، وهي من صنع شركة لورش في أربعينيات القرن العشرين، فقد عثرنا عليها في صندوقٍ به قطع غيار متنوعة قابع على أرضية ورشة عمل أحد الأصدقاء، وكانت واحدةً من مخرطتَين. أطلقنا عليها اسم «ماوس»، ويعني فأرة. أما أختها، التي أطلقنا عليها اسم «سبيتزماوس» (التي تعني الفأرة الشرسة)، فهي الآن أداة تقويم، تعمل على محاذاة الثقوب الصغيرة في الألواح المعدِنية المختلفة. هذه الآلات تحتاجُنا بقدْرِ ما نحتاجها. ونعتبرها مِثل زملائنا.
في أثناء تدريبي أنا وكريج، إذا لم أجد ساعة أُصلحها كي أضيفها لمِلفي الدراسي، كان كريج يسمح لي بالتنقيب في «عُلبته المليئة بآليات الساعة». ويتهلل وجهه وهو ينظر إلى علبة البسكويت المَعدِنية «فاميلي سيركل» المكتظة بمئات الساعات والآليات القديمة التي يعود أغلبها للنصف الأول من القرن العشرين. وفي الوقت الذي كرس فيه غالبية الطلبة جهدهم لصيانة الساعات الحديثة، سعيًا وراء العمل في أحد مراكز صيانة الساعات لكبرى العلامات التجارية، كنتُ أنا وكريج مُنشغلَين بالساعات التي تعود إلى العَقد الثاني أو الثالث من القرن العشرين التي كانت غالبًا ما تفقد بعض أجزائها أو علبتها أو غطاء علبتها الخلفي، ولا تحمل أسماء علامات تجارية وليست لها قيمة مالية. وكان مشرفنا بول ثورلبي، الذي كان يعمل صانعًا للساعات في شركة أوميجا سابقًا، يسألنا في يأس: «لماذا لا تعملان إلا على الساعات الخردة القديمة؟»
ما يجذبنا إلى هذه الساعات هو ما تحمله من لمسات إنسانية. على الرغم من صناعتها في زمنٍ بدأ فيه الاعتماد على الآلات، فإنها لم ترقَ إلى دقَّة آلات عصرنا الحديث، لذا كان صانعو الساعات يحرصون على صقلها يدويًّا. كانت جميع التعديلات والتهييئات تتمُّ يدويًّا. عندما تتأمَّل ساعة قديمة، ترى بوضوح الآثار المُميزة لحِرفيٍّ آخر، وإن لم تكن أخطاء بالضرورة. وهذا يجعلني دائمًا أُفكر في اللحظة التي رأى فيها شخصٌ هذه الساعة للمرة الأولى في واجهة أحد المتاجر، ثم قرَّر شراءها، وكيف أصبحت بالنسبة له غرَضًا ثمينًا. أسأل نفسي: هل ارتداها حتى أصابها القدم في حوزته، أم باعها لصائغٍ ومن ثَم بدأت حكاية جديدة مع شخصٍ آخر؟ هل تركها في دُرجٍ ونَسِيها لعقود، أم ورَّثها لقريبٍ لم يُقدِّر طرازها القديم الفريد؟ لقد عانت الكثير من الساعات الميكانيكية من هذا المصير، في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، حينما أصبحت موضة قديمة. وها هي اليوم مُكدسة في علبة البسكويت المعدِنية «فاميلي سيركل».
حتى ساعات الخندق القديمة، التي كانت صغيرة الحجم مقارنةً بنظيراتها المعاصرة، لم تنجُ من هذا المصير، بما في ذلك ساعات شركة ويلسدورف آند دافيس. كما لم تصمد عُرواتها السلكية الرفيعة، المصنوعة في كثيرٍ من الأحيان من معادن طيِّعة مثل الفِضة، أمام اختبار الزمن لا من الناحية الشكلية ولا من ناحية الموضة. في الآونة الأخيرة فقط، بدأ الناس يُدركون أن هذه الساعات تبلغ قرنًا من الزمان وأنها تستحق الإصلاح. وأخيرًا، بدأنا نرى الساعات الناجية في علب البسكويت المَعدِنية تخضع للإصلاح ويرتديها أصحابها مرة أخرى. في أثناء أزمة كوارتز، لم يتلقَّ صانعو الساعات أجورًا كافية لإصلاح الساعات وواجهوا ضغوطًا كبيرة للانتهاء من إصلاحها بسرعة. تحدَّثنا أنا وكريج إلى صانعِي ساعات متقاعدِين حاليًّا، وأخبرونا أنهم كانوا يُعطون في بعض الأحيان نصف ساعة فقط لإصلاح الساعة. أما أنا وكريج، فإننا يمكن أن نقضي يومًا كاملًا على الأقل، أو عدة أسابيع في بعض الأحيان، لإصلاح آلية ساعة واحدة؛ ونحن الآن نعمل على إصلاح ساعةٍ قديمة منذ ما يقرُب من عامَين. في الماضي كان الهدف من إصلاح الساعات هو عودتها للعمل في أسرع وقتٍ وبأقل تكلفة مُمكنة، هكذا ببساطة. ونجم عن هذا التوجُّه الكثير من الأضرار غير المتعمَّدة. لكني لا يُعجبني انتقاد الآخرين لهؤلاء الصنَّاع الذين كانوا يعملون في ظروفٍ قاسية غير داعمة. وقد سمعتُ عن صانعي ساعات نابغين يجنون أموالًا من تغيير البطاريات أكثر مما يَجنونه من إصلاح الساعات القديمة. لقد كانت أزمة الكوارتز هي نقطة انحدار حقيقية في صناعة الساعات التقليدية من نواحيَ شتَّى.
ونحن الآن نَشهد حقبةً جديدة في تاريخ الساعات. فقد تغلبت التكنولوجيا حتى على ساعات الكوارتز. وأصبحت ساعات أبل الحالية تضمُّ تعقيداتٍ لم تخطر ببال بريجيه على الإطلاق. فهي ليست آلة تقيس الوقت بدقَّة تصل إلى خمسين مللي ثانية فحسب، بل هاتفٌ محمول ومُتصفح إنترنت ومزود لخدمة البريد الإلكتروني ومفتاح للسيارة ومؤشر للِّياقة البدنية، إلى جانب أنها تقيس ضربات القلب ومستوى الأكسجين في الدم، وكل هذه التقنيات المتعددة متضمَّنة في عُلبةٍ صغيرةٍ واحدة. ولا تزال الأجزاء الميكانيكية التي تُجري هذه العمليات في ساعتك خاضعة لتقنية كوارتز، إلا إن قراءات الوقت التي تعتمد عليها تبثُّها الأقمار الصناعية وتضبطها الساعات الذرية. وفي كل مرة يُحدد فيها الهاتف، أو الساعة الذكية، موقعنا فإنه يستعين بثلاث قراءات على الأقل من الأقمار الصناعية، بدقة النانوثانية من الفضاء. وليُخبرنا بموقعنا، يقوم نظام تحديد المواقع العالمي «جي بي إس» بإجراء تعديلاتٍ لمعالجة نسبية القراءات بطريقةٍ كانت لتُسعِد آينشتاين لو أنه شهدها. ولولا هذه التعديلات، لكان تحديد الموقع غير دقيق نسبيًّا، مثلما حدث في تقدير خط الطول وأودى بحياة كلاودسلي شوفيل وأسطوله عام ١٧٠٧.
على الصعيد الشخصي، أرى أن الساعة الذكية تقنيةٌ متطورة جدًّا ومتطفلة على المساحة الشخصية نوعًا ما. لم يسبق لي أن امتلكتُ ساعة ذكية. أشعر الآن أن هاتفي والكمبيوتر المحمول الخاص بي يُلاحقانني أينما ذهبت، فلا أريد إضافة جهازٍ آخر لهما. لا شيء يُسعدني أكثر من الابتعاد عن إشارات الهاتف والواي فاي ومِلفات تعريف الارتباط. وأخشى ما أخشاه أن يأتي اليوم الذي تفصلني فيه التكنولوجيا عن الواقع تمامًا.
مع ظهور الكتب الإلكترونية، اعتقد الجميع أن عصر الكتب الورقية قد ولى وانتهى. فمن ذا بحاجةٍ إلى الكتاب الورقي أو المكتبة أو حتى رفوف الكتب عندما يمكن الوصول إلى كل ذلك بواسطة قارئ الكتاب الإلكتروني؟ وكم كان غريبًا أن حدث انتعاش مفاجئ في الكتب المصنوعة يدويًّا الخلابة، مما ذكَّر الأفراد بالمُتعة الحسِّية لقراءة الكتب. هذا ما يحدث مع الساعات تمامًا. بدأت الأوضاع تعود إلى ما كانت عليه من جديد. وارتفعت أسعار الساعات القديمة ارتفاعًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة. كما أولى الناس أهميةً كبيرة لعملية إصلاح الساعات القديمة. وعمليات الإصلاح التي كنتَ تحارب من أجل أن تحصل منها على بضع جنيهات في سبعينيات القرن العشرين، أصبحت بعض العلامات التجارية الكبيرة تعرضها بعشرات الآلاف من الجنيهات. واليوم ساعةٌ مثل ريبيرج التي يتلهف عليها جامعو الساعات القديمة وتُباع بالتجزئة بأسعارٍ جيدة، تُقدم للحرفيين فرصةً جيدة لإصلاحها كما ينبغي. وبالإضافة إلى ساق التعبئة الطويلة المُصمَّمة خِصِّيصَى لهذه الساعة لتتلاءم مع ألواحها القديمة، كثيرًا ما نَزيد قوة النابض الرئيسي، في كثيرٍ من الأحيان، لإمدادها بكل مساعدة مُمكنة. والاختلافات البسيطة في سُمك النابض، مثل ٠٫٠٥ مليمتر إضافية، تكون كافية لمساعدة الساعة في تحسين دقَّتها وثباتها. ولا تتوافر قِطع غيار لهذه الساعة، لذا نصنع عمود التوازن يدويًّا لنستبدله بالقديم المكسور (وهو ما كان يحدث كثيرًا في الساعات التي صُنعت قبل أن يشيع استخدام إعدادات مقاومة الصدمات)، ونُشِّكله بالمخرطة من الفولاذ. أما المحاور الحسَّاسة، التي تدعم تركيبة التوازن بأكملها في أثناء ذبذبتها، فهي أقل من نصف ملليمتر في الطول وأقل من ذلك في السُّمْك. وبعض المحاور المتأرجِحة التي نستبدلها، كان قد صنعها أحد المُصلِحين بسرعةٍ وبتكلفةٍ رخيصة في أثناء أزمة كوارتز، لذا فإننا نُشكِّل محاور أخرى جديدة ونجعلها على المقاس المناسب و«نوازنها». والموازنة هي عملية إزالة كُشاطة المعدِن الأصغر من حبات الرمل من عجلة التوازن بحرصٍ شديد، حتى نتأكد أن وزنها موزَّعٌ بالتساوي. إنها النسخة المصغرة من ضبط توازُن عجلات السيارة.
دائمًا ما يحتاج النابض الشَّعري الرفيع في ساعة ريبيرج، المصنوع من معادن أكثر مرونة من المُستخدمة في الساعات الحديثة، إلى معالجة دقيقة، إذ يتشوَّه شكله الحلزوني عادةً من كثرة مروره بمتاجر الصيانة المتدنية الجودة. ونستخدم لهذا الهدف ملقاطًا صغيرًا، رأسه مِثل الإبرة، ونعيد به النابض الشعري إلى شكله الحلزوني المثالي بحرص شديد. وساعات ريبيرج لا تخلو من لمساتٍ أخيرة بشرية. قد يكون لديك أربع أو خمس آليات من نفس المعيار، لكنك لا تستطيع المزج والتوفيق بينها. لا بدَّ من تزويد الآلية بأحجار الترصيع من جديدٍ أو إعادة تعديلها، لأن كل آلية ذات تركيبة مُحددة ولا تعمل إلا مع أجزائها الخاصة. وفي بعض الأحيان، ترى صانع الساعات قد ترك علامات على مكونات الآلية الرئيسية، مثل نقاط مَخفية أو أرقام محفورة، لضمان بقائها معًا عند الانتهاء من تصنيعها وتجميعها كل قطعة على حدة.
في الساعات الميكانيكية الحديثة، أصبح استبدال الأجزاء أمرًا ممكنًا، مع هندسة التحكم العددي الرقمي الدقيقة. ولا يمكنني انتقاد التحكم العددي الرقمي؛ فهو تقنية مذهلة حقًّا، ولولاه لكانت الكثير من الساعات الدقيقة المعقدة في يومنا هذا ضربًا من ضروب الخيال. لكننا لن نطبقه في ورشتنا. فكما يقول كريج: «أن أقضي ساعات أحاول التوفيق بين الأجزاء المتنافرة خير لي من أن يتولى الكمبيوتر هذه المهمة بدلًا مني.» هذا ما يعنيه إصلاح الساعات القديمة وإنقاذها؛ قد تستغرق العملية وقتًا طويلًا، لكن النتيجة مجزية معنويًّا.
وفي الوقت نفسه، على كوكب الأرض، غيَّر الإنترنت عَلاقتنا بالوقت مرةً أخرى. فلا بد أن يكون التوقيت الدقيق عالميًّا لا محليًّا فحسب، ولا بد أن تصل دقَّته إلى جزء من المليون في الثانية. فعلى الصعيد العالمي يعتمد السفر جوًّا وشبكات الهاتف والمُعاملات المصرفية والبث الإذاعي والتليفزيوني على مستوًى عالٍ من دقة التوقيت. في الماضي، كنَّا نطلُب من أحدهم الانتظار لمدة دقيقة، والآن نتوقَّع حدوث كل شيءٍ في غضون نانوثانية، وهو الوقت الذي يستغرقه الضوء في السفر مسافة ٣٠ سنتيمترًا.
إن العالم الحديث سريعٌ جدًّا. وأنا أُحب العالم البطيء الوتيرة.
لقد أصبح عدد الدقات في الثانية الواحدة في الساعات الحديثة رمزًا للتميز. فكلما دقَّت الساعة أسرع كانت أدقَّ، إذ تُصبح أقل عرضة للتغيرات المكانية. قد تدق ساعة من القرن السادس عشر، ذات عجلة انفلات بمحور دوَّار ١٠ آلاف مرة في الساعة كحدٍّ أقصى، في الوقت الذي تدق ساعة حديثة بمعدل يتراوح من ١٨ ألف إلى ٢٨٨٠٠ مرة في الساعة. وتدق أسرع عجلة انفلات في ساعة ميكانيكية حديثة بمقدار ١٢٩٦٠٠ مرة في الساعة، ومن ثَم يتحول صوت الدقات المُميز إلى صوت طنينٍ مُستمر من شدة سرعتها. وبطبيعة الحال، سواء أكانت الساعة تُصدر دقات مميزة بطيئة أم طنينًا مستمرًّا عالي التقنية، وسواء أكانت تقيس الزمن بالثانية أم بالنانوثانية، فإن إيقاع الزمن المُقاس ثابت لا يتغير. ومع ذلك، من وجهة نظري، يبدو الزمن مُتسعًا نسبيًّا، عندما تُعلن عنه الدقات المطمئنة المتأنية التي تُحدثها عجلات الانفلات ذات المحور الدوار في كل مرة يعبُر فيها سن عجلة التاج من إحدى السقَّاطتَين ويشتبك بأختها؛ ويتحرك للأمام والخلف، مرارًا وتَكرارًا. إنها تبعث على الطمأنينة مثل دقات بندول الإيقاع فوق البيانو.
في الزمن في الفضاء، قد تشكل الثانية الواحدة الفرق بين الهبوط على سطح المريخ والهبوط على بُعد عشرات الآلاف من الأميال. لكن هُنا، على سطح الأرض، أُحب أن أُذكِّر نفسي أن الفرق في الدقة بين ساعة حديثة فاخرة وبين إحدى ساعات القرن الثامن عشر هو لحظة لا أكثر؛ بضع دقائق، أو بضع ثوانٍ في بعض الأحيان، على مدار اليوم. يُمكنني التعايش مع هذا الفارق؛ فلست من النوع الذي يقيس حياته بالنانوثانية.