اللحظة الأخيرة
أكسِب قوتي من الوقت، سواء بصناعة الأجهزة التي تقيسه، أو دراسة تاريخه العريق. في بعض الأحيان يكون الوقت مربكًا. كان تدوين الكتاب الذين بين يديك، على سبيل المثال، رحلةً شاقة جمعتُ فيها كل المعلومات التي تعلمتُها على مدار السنوات السابقة. ظننتُ أنني أعرف الوقت حق المعرفة نظرًا لتعامُلي مع الساعات طيلة حياتي، لكنني لم أستوعِب مدى تعقيده إلا بعدما تأملتُه من منظور أوسع. الوقت شاسعٌ عند قياسه من خلال حركة النجوم البعيدة في الكون السرمدي، وأيضًا ضئيل وأقرب إليك مما تتصوَّر، يؤثر في خلايا أجسادنا بينما نقرأ هذه الكلمات. إن طريقة قضائنا لأوقاتنا أمر يتوقَّف على الشخصية وعلى البيئة الثقافية في الوقت نفسه؛ فالساعات والبشر على حدٍّ سواء مخلوقات تتأثر بالظروف المُحيطة بها.
ولأنني صانعة ساعات قبل أي شيءٍ آخر، أعثر على مكاني في الزمن من خلال صناعة الساعات. أن أترك ساعاتٍ من المعدِن خلفي هي طريقتي في ترك إرثٍ صغير، أو عملٍ يعيش من بعدي، أو شبح ميكانيكي يُخيم على الأرض بعد رحيلي. بالطبع، لا سبيل لمعرفة كيف سيحتفي الناس بأعمالي في المستقبل، على افتراض أنهم سيحتفون بها أصلًا. ربما، بعدَ بضع مئات السنين، ستقبع الساعات التي نصنعها خلف خزانة متحفٍ من الزجاج المقوَّى. وربما تصير إرثًا تتوارثه العائلات. وربما ينتهي بها المطاف في علبة بسكويت معدِنية قديمة، تنتظر أن يأتي أحد لإنقاذها. لا يدري أحد ماذا سيحدث في المُستقبل. لكن الماضي قد انكشف بالفعل. إن تأمُّل تاريخ الساعات يساعدني إلى جانب وظيفتي في أن أجد مكاني ومهنتي في المسار الزمني.
ذات يوم، خطر لي ولكريج أننا صنعنا على مدار السنوات الماضية كل جزءٍ من أجزاء الساعة، بالمعنى الحرفي للكلمة، في أثناء سعينا لإصلاح ساعات الحرفيِّين الآخرين. وفكَّرنا أنه قد حان الوقت أن نتحدَّى أنفسنا ونبدأ في صناعة أجزاء ساعتنا الخاصة. أسمَينا هذه الساعة «مشروع ٢٤٨»، في إشارةٍ إلى طريقة صناعتها بواسطة شخصَين، وأربعة أيادٍ، ومِخرطة صناعة الساعات التقليدية من عيار ٨ ملليمترات. وفيما نتفقَّد مخزوننا من الأدوات والآلات التي أعدنا تخصيصها، لم يكن غريبًا أن نبحث عن الإلهام في ساعات أواخر القرن التاسع عشر؛ أن نعود إلى تلك النقطة في تاريخ صناعة الساعات البريطانية، حيث كانت صناعتنا الوطنية تلفظ أنفاسها الأخيرة، ونواصل السير من حيث توقف أسلافنا صانعو الساعات.
استوحَينا التصميم من ساعة ذات سلسلة، آلية الصنْع، صُنعت في مصنع بمدينة كوفنتري لصانع ساعات اسمه توماس هيل، في ثمانينيات القرن التاسع عشر. لكن أجزاء الساعة الميكانيكية والمواد التي صُنِعت منها ساعتنا المعصمية تحتفي بمجموعةٍ واسعة من صنَّاع الساعات والشركات التي أثارت إعجابنا من مختلف القرون الماضية. إنها نسختنا المُصغرة من ساعة الفيل للجَزَري، تُشيد بالمساهمات الدولية التي جعلت مشروعنا أمرًا مُمكنًا. ولأن ساعة جيب توماس هيل لا تحتوي على ميزة مقاومة الصدمات، صنعنا الساعة الخاصة بنا على مثال ساعة لويس بريجيه «باراشوت». وصنعنا الصفائح من معدِن اسمه الفضة الألمانية، وهو سبيكة مصنوعة من النحاس والزنك والنيكل. وأما لونه، فهو كما يوحي الاسم، فضيٌّ يشوبه لون أخضر بظلالٍ رمادية. يصطبغ هذا المعدِن بصبغة الزِّنجار الجميلة الدافئة كلما تقدَّم به العمر، وقد ذاعت شهرته بين صنَّاع الساعات في جنوب ألمانيا منذ أكثر من١٥٠ عامًا. وصنعنا ميزان الساعة، أو قلبها النابض، على طراز أحد أعظم صانعي الساعات في عصرنا الحاضر، وهو جورج دانيالز، الذي سألني عما إذا كنتُ أريد صناعة ساعتي الخاصة، ومتى سأُقْدِم على هذا. كان دانيالز الذي عاش وعمل على جزيرة مان حتى وفاته في ٢٠١١، عبقريًّا فذًّا ومصدر إلهامٍ لي ولكريج، لا سيما أن مواهبه المُتعددة مكَّنته من أن يصنع وحده كل مكونات الساعة التي كان يحتاجها من الصفر مُستخدمًا في ذلك أدوات وآلات وعمليات قديمة.
كانت صناعة «المشروع ٢٤٨» تتويجًا لخبراتنا المشتركة، أنا وكريج، التي تبلغ أربعين عامًا تقريبًا. منذ أن التقيتُ بكريج، وبدأت التدرُّب على مهنة صناعة الساعات، كان سندًا لي وداعمًا. وفي أثناء الجامعة، كان حليفًا مهمًّا في ورشة العمل حيث يُثير وجود فتاةٍ الأنظار دائمًا، ونادرًا ما يكون ذلك بصورة إيجابية. والآن يُشجع ويحفز أحدنا الآخر، وهو شيء مُهم في كلٍّ من العَلاقات المهنية والشخصية، وتزداد أهميته إذا كان شريك العمل والزوج هما نفس الشخص. وحين نفقد الثقة في أنفسنا، نداويها بإيماننا الذي لا يتزعزع أن أحدنا لن يتخلَّى عن الآخر. يشدُّ أحدُنا من أزر الآخر ويدفعه لتوسيع آفاقه وتحدِّي قدراته.
كان الجمع بين مهارتنا وشخصيتنا في غرضٍ واحد مهمة مُمتعة وصعبة في كثير من الأحيان. استغرقت عملية بناء المشروع كاملةً، من الفكرة الأولية إلى المنتج النهائي، ما يقرب من سبعة أعوام وتضمَّنت أحداثًا محورية في حياتنا. هكذا علمت أن ما يبدو منتجًا بسيطًا قد يرمز لما هو أكبر بكثيرٍ من شكله أو وظيفته. يحمل كل مكونٍ من مكونات الساعة بصمة أيدينا ومهاراتنا والساعات التي أمضيناها في إنجازه. ويتَّصل كل جزء، وكل مرحلة من مراحل العملية، بذكرياتنا وباللحظات التي تمتدُّ على مدار هذه السنوات السبع.
من بين كل الأدوات التي قد نستخدِمها، لا يُوجَد ما هو أروع من أيدينا. يعتقد الناس في كثيرٍ من الأحيان أن يديَّ رقيقتان حتمًا، نظرًا لطبيعة صناعة الساعات. في الحقيقة، لا تُشكل بنية اليد أهمية كبيرة، إذ يستخدم الصانعون في كل أنشطتهم ملاقط رفيعة. ولقد شاهدتُ في انبهارٍ رجلًا يداه بحجم قفاز البيسبول، يُعالج ويصلح نابض توازن لا يتجاوز سُمكه سُمكَ شعرة الإنسان. ما يُهم في هذا المجال هو أن يتميز الصانع بحساسية اللمس وفهم عميق لنوعية المواد التي يعمل عليها.
قبل بضع سنوات حضرت لقاءً مع البروفيسور روجر نيبون جرَّاح القلب والأوعية الدموية. أسرَني حديثه عن الجراحة؛ مثل سنوات الخبرة التي يحتاجها الجرَّاحون ليحصل عندهم ذلك الفهم الحسي بطبيعة الجسم، فيتوقَّعون استجابة الأنسجة في جسم الطفل مقارنة بكبير السن، أو في بالغٍ صحيحِ الجسد مقارنة بآخرَ سقيم. وذكر البروفيسور أن الأوعية الدموية في الشباب قويةٌ ومتينة كالمطَّاط، لكنها في كبار السن رقيقةٌ كالمنديل الورقي. في صناعة الساعات يكتسب المرء مهارةً مشابهة؛ النحاس الذي يبلغ عمره مائتي سنة مختلف في قابليته للطرق عن النحاس الجديد. والفولاذ الموجود في ساعة من القرن السادس عشر يختلف في تأثره عن الفولاذ الموجود في ساعة صُنعت في عام ٢٠٢٠. وللطرافة، كثيرًا ما تكون المواد القديمة أفضل جودة من الجديدة رغم قِدَمها وتآكُلها.
اللمسة البشرية، في الساعات «المصنوعة يدويًّا»، هي ما يُضفي عليها طابع التفرُّد. عند صقل عُلبة الساعة كي تكون مريحةً عند الاستخدام، أستخدم في ذلك قطعة قماشٍ مُتشبعة بمركَّب التلميع، ولا أستخدم العصيَّ أو ورق التلميع الصُّلب. بهذه الطريقة يتشكَّل المعدِن وَفقًا لحنايا راحة اليد، ويُصبح ناعم الملمس جذابًا. أستطيع التمييز بين الساعات المصنوعة آليًّا أو يدويًّا وأنا مغمضة العينَين؛ فلن تقدِر أي آلة على تقليد نسبة التنوُّع الموجودة في الساعات المصنوعة يدويًّا، إلا في حالة اختراع ذكاء اصطناعي حسَّاس حقًّا.
دائمًا ما كنت أتمتَّع بإدراك مُحيطي بقيمة الوقت — وكيف لا وأنا أعمل في ورشة عمل مليئة بالساعات؟ — لكني لم أُدرك ذلك تمام الإدراك إلا بعد وقوع أحداثٍ بعينها في حياتي. ذات صباح، في يونيو عام ٢٠١٧، استيقظتُ وأنا أشعر بوخزٍ في ساقي اليسرى وحساسية مُفرطة في الجزء الأيسر من الجذع. كان الألم حادًّا، وتذكرتُ تلك الحادثة حين انكسرت أضلاعي، وأنا فتاة مُراهقة، عندما انزلقتُ وأنا أتسلل خارجةً من النافذة. ذهبت إلى الطبيب، لكن نظرًا لعدم وجود أي علاماتٍ مرئية على جسدي، فقد طمأنني أن كل هذا قد يكون بسبب الإجهاد. بعد بضعة أسابيع توقفتِ الأعراض. وفجأة، في شهر سبتمبر من ذلك العام، فقدتُ القدرة على الرؤية جزئيًّا بعيني اليُمنى، وصاحَب ذلك ألمٌ حارق. شعرت حينها كأن ملاكمًا عاجلَني بلكمةٍ في وجهي. لكن مرة أخرى، لم تكن هناك أي علامات أو تورُّم. كان جسدي سليمًا من ناحية الظاهر. وهذه المرة أيضًا، حاول أول طبيبٍ فحصني أن يُرجع الأمر إلى الإجهاد، لكني كنتُ قد بدأت أقتنع أنني أعاني من مشكلةٍ خطيرة، وحاربتُ لإجراء المزيد من الفحوصات. بعد بضعة شهور والكثير من الإحالات والتصوير بالرنين المغناطيسي، شُخِّصت بمرض التصلُّب المتعدِّد.
لن أنسى أبدًا تلك الأشهر التي أمضيتُها في إجراء الفحوصات الطبية. لم يكترث أحد أن يُخبرني بالاحتمالات، فخشيتُ أن أكون مُصابة بورمٍ في المخ، وهو التشخيص الوحيد المنطقي، من وجهة نظري، لآلامي العصبية الغريبة. لم أفكر قطُّ أنني سأعيش إلى الأبد، لكن الإنذار المفاجئ بالموت العاجل أثَّر في طريقة رؤيتي للعالَم. أتذكَّر أنه في ذلك الشتاء، هبَّت عاصفة ثلجية قوية على غير المتوقَّع. كان الجزء الخلفي من منزلنا يُفضي إلى متنزَّه، تراكم في طرفه الأقصى الثلج على شكل تلة، وشكَّل بذلك متعةً لا تنتهي للأطفال المُتزلِّجين. أصررتُ أن يرافقني كريج الذي يكره البرد في جولةٍ طويلة في المتنزَّه، وانحرفتُ عن المسار المُفضي إلى السوبر ماركت في نهاية الشارع؛ إذ يندر هطول الثلج بهذه الغزارة في برمنجهام، لذا أردتُ الاستمتاع بهذا ما دمتُ أستطيع. تلك الذكرى — النسيم القارس وهو يلفح وجهي، وانعكاس الضوء على الأرض والأشجار البيضاء، وأصوات الأطفال وهم يمرحون ونباح الكلاب وهي تلعب على الثلج الناعم — لا تزال تعيش في مخيلتي مثلما كانت منذ سنوات. أردتُ أن أستمتع بالعالم لأقصى درجةٍ ما دمت أستطيع ذلك.
ما خشيتُ الموت قدر خشيتي للطريقة التي أمضيتُ بها حياتي. عملت كثيرًا، لكن لأجل ماذا؟ ما هي الإنجازات التي حققتها؟ قضيتُ سنوات كثيرة في توترٍ وقلق وإرهاق، دون أن أُخصص وقتًا للسعادة، والآن ربما فات الأوان على ذلك. لكن اتضح أنني كنتُ محظوظة على أي حال؛ فالعمر المتوقَّع للمُصابين بمرض التصلب المتعدد قد ازداد في السنوات الأخيرة. بالطبع ليس سهلًا على المرء، أن يتجول وفي رأسه ما يُشبه قنبلة من الحرب العالمية الثانية لم تنفجر بعد، والتي قد ترقد بسلام إلى نهاية حياته أو تنفجر في أي لحظة، لكن الأوضاع مُثيرة للتفاؤل عما كانت عليه في السابق. أشعر أنني محظوظة جدًّا لأنني أعيش في عصرٍ شهد تحسنًا في أساليب علاج التصلُّب المُتعدد. ولدي فرصة كبيرة في العيش «حياة طويلة هانئة بلا أحداث» وَفقًا لحديثي مع طبيب الأعصاب. وأنا في غاية السعادة لأنني أعيش في دولة تُتيح لي الوصول إلى أفضل أنظمة الرعاية الصحية التي تموِّلها الدولة في العالم. لدي الكثير من النعم، وددتُ لو أنني أدركتُ هذه الحقيقة، دون أن أُضطرَّ إلى مواجهة احتمالٍ مؤلِمٍ بمستقبل أكثر قتامة.
في مقولة مشهورة عن المؤلِّف الموسيقي الفرنسي الشهير لويس هيكتور بيرليوز (١٨٠٣–١٨٦٩): «الزمن مُعلِّمٌ جليل. لكنه للأسف يقتل جميع تلاميذه.» نحن جميعًا تلاميذ الزمن. وبالتأكيد، أهم درسٍ تعلمتُه هو أن الوقت جوهرة لا تُقدر بثمن.
لقد غيَّر تشخيصي بمرض التصلُّب المتعدد الطريقة التي أريد بها قضاء ما تبقى من حياتي من الثواني والساعات والأيام إلى الأبد. لقد كان أطبائي الأوائل مُحقِّين في أمرٍ واحد فحسب: أن التوتر أدى دورًا كبيرًا في إصابتي بهذا المرض. كل انتكاسةٍ صحية حدثت لي قد جاءت في أعقاب نوبةِ قلق، ولم يحدث أن أصابتني نوبة قلق دون أن تتبعها انتكاسة صحية. رأيتُ التوتر وسامَ شرفٍ أضعه على صدري، ونُدبة معنوية تدل على مدى شجاعتي: كيف ألقيتُ نفسي في مواقف عصيبة وصمدتُ في وجه التنمُّر والتمييز، وخرجتُ من كل ذلك بروح مقاتلة غير يائسة. كنت أعملُ والقلق ينهش أحشائي. لكني أُدرك الآن أن تحمُّل التوتر شيءٌ لا ينبغي الاحتفاء به. فقول كلمة «لا» والتخلِّي في الوقت المناسب يتطلبان نفس القدر من القوة والتجلُّد. والآن أفرُّ من القلق فراري من الوباء بعدما علمتُ بتأثيره البالِغ في صحتي. لقد تعافيتُ من إدماني على العمل.
للأسف، لا يمكن ادِّعاء أنني أعيش حياةً هانئة لا يُعكر صفوها أي شيءٍ أو أنني متصالحة مع العالم. فلا أزال أشعر بالقلق الشديد إزاء أمورٍ تافهة مثل إخفاق شركات الطاقة في إدارة حسابي بشكلٍ صحيح أو استغراق الحاسوب وقتًا طويلًا في التحميل. لكنني أكثر تصالحًا مع الحياة عما كنتُ عليه في السابق. أكرس طاقتي على الأشخاص الذين يقدِّمون لي الدعم؛ والذين لا يُقدمون لي الدعم أُسقطهم من حساباتي. أُخصص المزيد من الوقت لتأمُّل العالم من حولي والاستمتاع به.
الحقيقة التي ما بعدها حقيقة هي أننا جميعنا أعمارنا محدودة في هذه الدنيا، ولا دخل لنا بطولها أو قصرها. لكن الكيفية التي نقضي بها أوقاتنا، والخبرات التي نكتسِبها، لها القدرة على تغيير تصوُّرنا عن الوقت بمعزِل عن الدقائق التي تقيسها عقارب الساعة. ذلك اليوم الذي سرتُ فيه مع كريج وسط الثلوج، محفور في ذاكرتي كأنه حدث أمس، مُتحديًا الزمن الذي مر. هناك دراساتٌ حديثةٌ في علمِ الأعصابِ تدعمُ فرضيةَ أنَّ تجارِبنا لها دورٌ كبيرٌ في تشكيلِ إدراكنا للوقت.
لا تفكِّر أنَّ الشخص عاش طويلًا بسبب انتشار الشيب في رأسه أو ظهور التجاعيد على وجهه؛ إنه لم يعش طويلًا وإنما بقي حيًّا لفترة طويلة. أليس هذا مثلَ قولك للذي علِق في عاصفة قوية بعدما غادر الميناء، وتلقفته الرياح هنا وهناك، ودار في دائرة مفرغة بسبب الرياح المناوئة، إنه خاض رحلة طويلة؟ لا، إنه لم يخض رحلة طويلة، بل تقاذفته الرياح لفترة طويلة.
قد نشعر ونحن نأخُذ الحياة بقوة أن أعمارنا قصيرة، لكننا نخلق ذكرياتٍ حية ستجعلنا نُدرك كم كانت حياتنا طويلة عندما ننظر إلى الوراء في المستقبل.
نحن نقيس حياتنا باللحظات، وما يُصاحبها من ذكريات. والساعات، التي تخبرنا بالوقت مثلما فعلت مع أسلافنا من قبل، هي العامل الثابت في هذه الذكريات. ولا يزال الأشخاص الذين لا يصفون أنفسهم «بالولع بالساعات» يريدون إصلاح ساعة الجيب التي ورثوها عن أجداد أجدادهم، حتى وهم يعلمون يقينًا أنهم لن يستخدموها أبدًا. عندما ننظر إلى ميناء ساعة قديمة، نرى العقارب نفسها التي كانت تقيس الساعات والدقائق التي مرَّت من حياة آبائنا وأجدادنا وأجداد أجدادنا، ونسمع نفس الدقَّات التي كانت تُحصي اللحظات الفائتة من حياتهم. وبعد ذلك، لو كنا محظوظين، سنُعبئها ونحملها معنا ونحن نسير في حياتنا.