ساعات بديعة
قسْ ما يقبل القياس، واجعل ما ليس قابلًا للقياس يخضع للقياس.
في سن السابعة عشرة تركت المدرسة والتحقت بدورة تدريبية في صياغة الفِضة والمجوهرات. رأى أصدقائي ومُعلميَّ أنني رميتُ بمستقبلي عُرض الحائط. كنت دائمًا أُحب الفنَّ، لكنني التحقتُ بالمستويات المتقدمة للعلوم؛ إذ كنت أحلم أن أصبح مُتخصصة في علم الأمراض. ولم تكن المدرسة بيئةً مشجعة على الإطلاق. وألمح إليَّ مستشار التوجيه المِهني أن الطبَّ ليس للطلاب من أبناء الطبقة العاملة مِثلي. وعلى الرغم من أنني كنتُ أعشق العلوم، فإنها كانت تُدرَّس بأسلوبٍ صارم جافٍّ بارد. كما لم نكن نُطبق ما تعلَّمناه إلا فيما نَدَر. فقد قضيتُ السنة كلها في انتظار تشريح قلب الخروف في الأحياء لأكتشِف فيما بعدُ أن التدريب العملي قد أُلغي بعد إصابة طالبٍ آخر بالإغماء. في منتصف العام الدراسي تمرَّدتُ وقررتُ أنه إذا كان العلم لا يَقبلني، فسأهرُب إلى الفن.
كان مدرس دورة صياغة الفِضَّة صائغَ ذهبٍ خبيرًا، من النمسا، بدأ الممارسة المهنية من سن الثالثة عشرة، وكان من المُفترض أن يتقاعد في السنة التي أنهى فيها الدورة. اتَّسم بيتر بثرائه المعرفي، ومن ثم فمهما كان قدْر معلوماتك، فإنك تشعر في حضرته بأنها قليلة. ولا أزال ألتزم بالكثير من فلسفاته المُبدعة حتى الآن. فهو السبب وراء أني لا أصنع عُلبة الساعة إلا من معدِنٍ نفيس. ذات يوم رآني أبدأ في ابتكار تصميمٍ من معدِن مُذَهَّب (خليط من النحاس والذهب، بنفس خصائص الذهب من القيراط (٩)، ولكن بسعرٍ أقل)، ودعاني إلى خِزانة الورشة. شرحتُ له أنني لا أمتلك المال لشراء المعادن النفيسة، فبدأ التفتيش في صوان صفائح الذهب والأسلاك، وأعطاني ما كنتُ بحاجةٍ إليه. قال: «لقد بذلتِ وقتًا طويلًا على ذلك التصميم، يا ريبيكا، وهو تصميم جميل. لا بد أن تستخدِمي موادَ تليق بما بذلتِه من جهد. لا تقلقي بشأن تكلفة الذهب، سنجد لها حلًّا لاحقًا.» وصنعتُ القطعة من الذهب، وهي عبارة عن دبوس للزينة على هيئة طائرِ العنقاء، عيناه من الماس الأسود، وصدرُه مزدان بالياقوت الأحمر، وذيلُه مزيَّن بألماسة. ثقبتُ كل ريشةٍ في جناحَيه لأُنشئ نوافذ صغيرة أو حجيرات في الذهب لأملأها بالزجاج الملوَّن. تبيَّن أنه كان مُحقًّا. إن استخدام المعادن النفيسة مُتعِب، ناهيك عن ارتفاع تكلفتها، لكنك يمكن أن تقضي سنةً كاملة في صناعة قطعةٍ فنية من معدِنٍ رخيص مخلَّط، لتجدها في النهاية مُنخفضةَ القيمة بعد الانتهاء منها. إذا كنت تمتلك الثقة الكافية ورأس المال لصناعة قطعةٍ فنية من معدِنٍ نفيس، فستزداد قيمتُها بالتأكيد عند الانتهاء منها. ومع ذلك، انتهى بي الأمر بإزالة الأحجار الكريمة من الدبوس وأذبتُ الذهب وبعتُه بعد ذلك بعدة سنوات، في لحظةٍ من لحظات اليأس الكثيرة وأنا أتأرجح على حافة الإفلاس. لا أزال أذكر بكائي حينها وأنا أُفكِّكه بالزَّرَدِيَّة لأزيل الأحجار من الأُطر.
علَّمني بيتر أيضًا كيف أرتكبُ الأخطاء. كنتُ أصنع أول خاتم لي من الماس، ذا إطارٍ يُشبه التاج، وهو أحد التصاميم التقليدية لخواتم الخِطبة ذات الماسة الواحدة. غفَلتُ وأنا أبرُد سنون الإطار التي ستُثبِّت الماسة في مكانها، فجعلتها أقصر من المطلوب على سبيل الخطأ. وشعرت باليأس حينها وسألت بيتر إن كانت هناك طريقة لإنقاذ الإطار. فجلس إلى منضدتي، وبدأ في معالجة السنون، وجعلها صالحةً للاستعمال مرةً أخرى. أتذكَّر أنني وصفتُه بالعبقري آنذاك، وأغدقتُ عليه بكلمات الشكر، لأنه أنقذني من العمل لأسبوعٍ آخر. تخيَّل ماذا كانت إجابته؟ قال: «ريبيكا [دائمًا ما كان يبدأ حديثه معي بقول: «ريبيكا …»] أتعلَمين كيف عرَفت طريقة إصلاح هذا الخطأ؟ لأنني ارتكبتُ الخطأ نفسه فتعلمتُ منه. لا بأس في ارتكاب الأخطاء ما دمتِ تتعلَّمين منها.» لا أزال أُفكر في كلامه هذا في معظم الأوقات.
تعلمتُ على يد بيتر مهارات صناعة الأشياء من المعادن، مثل اللِّحام بسبيكة لِحام والثَّقب بالمِنشار، وهو فن استخدام شَفرة منشارٍ دقيقة يبلُغ عُمقها ملليمترًا أو ما شابه لقصِّ الأشكال الدقيقة. كنتُ لا أزال شغوفة بالعلم والهندسة، ومع ازدياد ثِقتي في قُدراتي، بدأتُ أدمُج المفصلات ومسامير الارتكاز وغيرَها من الأشياء البسيطة لتزويد قطع المجوهرات التي أصنعها بخاصية الحركة. ولأنني أميل إلى التفكير المبني على الصور، كانت القُدرة على معرفة طريقة عمل الأشياء في العالم الواقعي منطقيةً بالنسبة لي. فلطالما تعلمتُ ما أتعلَّمه بهذه الطريقة. كنت أتعلم عن طريق التجرِبة والمشاهدة واختبار نتائج تفاعلي المادي مع الأشياء من حولي.
بمرور الوقت، بدأتُ أختبر الأوتوماتون الأساسية، وهي الميكانيكا الحركية المُحاكية للكائنات الحيَّة. أحببتُ دائمًا نماذج آليات الساعة الأوتوماتيكية التي تُحاكي النظام الشمسي. هذه النماذج، بالنسبة إليَّ، هي أحد أروع الأمثلة على تمثيل الطبيعة في الميكانيكا؛ إنها طريقتنا الإنسانية لتضمين الكون في جهازٍ صغير بما يكفي لتفحُّصه على سطح مكتبك. لذا صمَّمت واحدًا، في مشروع تخرُّجي من دورة صياغة الفِضة والمجوهرات، حيث جعلتُ كل كوكبٍ من الكواكب عبارة عن قطعة مجوهرات يُمكن إزالتها من النموذج وارتداؤها. وكان زُحَل عبارة عن دَلَّاية تدور حلقاتها بصورة منفصلة وفي اتجاهاتٍ مختلفة. وكانت الشمس عبارة عن خاتمٍ تخرج منه أشعة مُدببة تبدو وكأنها تتداخل وتتلألأ. وربما شكَّل هذا الخاتم سلاحًا رائعًا تَلكُم به خَصمك إذا ما دخلتَ في شجار.
في تلك المرحلة، كانت تنقصني المعرفة الكافية بالميكانيكا، اللازمة لإنشاء نموذج آليةِ ساعة يُبين حركة الكواكب بصورةٍ سليمة. كما كان أمامي وقت قصير للغاية. تعاملتُ بحرية كبيرة مع مواقع الكواكب، والحلقات التي تحمل الكواكب كان لا بدَّ من تدويرها يدويًّا بصورةٍ مستقلة عنها، بدلًا من وجود نظامٍ متداخل يعمل بمحركٍ أو يجري تشغيله بمِقبض. وجاء المنتَج النهائي غير متَّسق مع التصميم الذي وضعته؛ وكان بعيدًا كل البُعد عما أردتُه من تطور. كنت بحاجةٍ إلى المزيد من الوقت والمعرفة لتنفيذ مثل هذا التصميم بشكلٍ كامل، ومع ذلك أسرتني طريقة عمل الأجزاء المتحركة المتداخلة.
وفي أثناء العرض النهائي للمشروعات في آخِر العام، جذب النموذج انتباه الدارسين لفن صناعة الساعات. وقصدتني مباشرة مجموعة صغيرة من الطلاب (كان كريج من بينهم)، إذ رأوا أنني أشاطرهم اهتمامهم بصناعة أشياء معقدة قابلةٍ للحركة. حتى ذلك الوقت، عندما كنتُ أفكر في صانعي الساعات، وهو ما كان يحدث نادرًا، كنت أتخيَّلهم أشخاصًا يُغيرون البطاريات أو أشرطة ساعات اليد في مراكز التسوق. لكن عندما وقفتُ في ورشتهم، وأحاطت بي آلات التفريز والمخارط الهادرة للمرة الأولى ورائحة المعادن والبرادة، أدركتُ أن صناعة الساعات ستُوفر لي فرصة القيام بدور الفنانة والمُصمِّمة والمهندسة والطبيبة في آنٍ واحد. وفي نهاية الدورة التدريبية كنت قد انضممتُ إليهم.
ليتني احتفظتُ بنموذج آلية الساعة المُحاكي للنظام الشمسي. لكن، كما حدث مع دبوس العنقاء، انتهى بي الأمر بتفكيكه وبيع مكوناته منفصلةً لدفع الإيجار.
عندما أفكر في صانعي الساعات الأوائل، تدور في عقلي دائمًا محاولتي المبكرة المُتعثرة لتحريك الأشياء. فلولا رغبة البشر المُستمرة في التطور لكانت ساعات الماء والرمل والشمع مثل مؤقِّت غليان البيض البسيط لا أكثر. تتطلَّب ساعات الحائط واليد «الحقيقية» مصدرَ طاقةٍ ميكانيكية (آليَّة) أو مُتجددة. وعلى الرغم من أن ساعات الحائط وساعات اليد الميكانيكية لم تظهر حتى القرنَين الحادي عشر والسادس عشر على الترتيب، فإن التطوُّرات المطلوبة للقيام بهذه القفزة كانت تجري بالفعل على قدم وساقٍ منذ أكثر من ألف سنة. ففي بلاد الرافدَين قديمًا، مهَّدت شتى التطورات الهندسية الطريق أمام آلات قياس الوقت الميكانيكية، بداية من الآلات الهيدروليكية وأنظمة ري المحاصيل ومعامل النسيج إلى الإنتاج الضخم للطوب والفخَّاريات والعربات التي تجرُّها الخيول وحتى المحراث.
في القرن الحادي عشر، صمَّم إبراهيم بن يحيى الزرقالي عالم الفلك والمُخترع الأندلسي المُسلم، ساعةً مائية تمتاز بقُدرتها على الإخبار بساعات اليوم، وليس هذا فقط، ولكنها تستطيع أيضًا عرض معلومات فلكية. اشتُهرت هذه الساعة، التي كانت تقبع في مدينة طُليطلة (توليدو الآن) في وسط إسبانيا، بقُدرتها على وصف أطوار القمر، عَبر حوضَين يمتلئان تدريجيًّا بالماء ثم يُفرغان على مدار تسعةٍ وعشرين يومًا، للتعبير عن تزايُد القمر ونقصانه. تحكَّم الزرقالي في مستويات الماء الدائمة التغيُّر من خلال مجموعة من الأنابيب تحت الأرض، هدفها تعويض مقدار الماء الذي أُزيل من الحوضَين أو أُضيف إليهما، تحسُّبًا لأي محاولات عابثة. أتخيل طفلًا فضوليًّا (ربما كُنت أنا) يتسلل خفية إلى ساعة الزرقالي بينما يتفاوَض أحد والدَيه مع بائعٍ في السوق المجاور. وبعدما يزيل الطفل بعض الماء ليُشاهد ما سيحدث، يندهش عندما يرى الحوض يُعيد ملء نفسه من جديد ليصل إلى المنسوب الصحيح بدقةٍ منقطعة النظير.
وعلى بُعد ٤ آلاف ميل تقريبًا شرق توليدو، في المقاطعة الصينية خُنان، أمر الإمبراطور عالمَ الفلك سو سونج، في عام ١٠٨٨، بإنشاء أدقِّ ساعة مائية على مستوى العالم، لتكون تحفةً فنية دالَّة على البراعة الفكرية لأسرة سونج. وكانت خلاصة توجيهات الإمبراطور بشأن الساعة المائية أن تتضمَّن عددًا من المظاهر الفلكية المُعقدة؛ في ذلك الوقت كانت منازل الأسرة الحاكمة تُحكَم وَفقًا للمشيئة السماوية أو «تِيان مينج» باللغة الصينية، وهو الأمر الذي تطلَّب القدرة على مُراقبة الأحداث الفلكية والتنبُّؤ بها من أجل تفسيرها، لتكون بمثابة دليلٍ إرشادي يُنير الطريق أمام القرارات البيروقراطية. إن ساعة سو سونج، التي تحتوي على نموذج برونزي للأجرام في السماء، يتكوَّن من إطاراتٍ حَلَقية تتمحور حول الأرض أو الشمس، والتي تُمثل خطوط الطول والعرض السماوية وغيرهما من السمات الفلكية المُهمة، وعلى نواقيس تنبض في الساعات المهمة من اليوم، لم تؤكد على عظمة الصين وسبقها في مجال التكنولوجيا فحسب، بل أدَّت دور «خط ساخن للإله، أو قناة تتدفَّق من خلالها الحكمة الإلهية إلى البلاط الإمبراطوري.»
بدأ سو سونج بنموذج أوَّلي مُصغر صنعه من الخشب على طراز الأبراج البوذية، وقضى مع فريقه من الحِرفِيِّين والمهندسين ثماني سنوات لإنشاء ساعته المائية الفلكية الهيدروميكانيكية. بلغ الارتفاع النهائي للساعة أربعين قدمًا — أي بارتفاع مبنًى مُكون من أربعة طوابق تقريبًا — وتُشغِّلها ساقية ضخمة يبلُغ قطرها أحد عشر قدمًا، ويُحيط بحافتها ستة وثلاثون دلوًا. عندما يَمتلئ كلُّ دلوٍ بالماء ويثقل وزنه بما يكفي ليُشغِّل آلية الساعة، يهبط من مكانه ويُدير العجلة، فيضع الدلوَ الفارغ التالي في مسار الماء الذي يتدفَّق من خزانٍ مُنفصل ليحافظ على توافر نفس الكَمية من الماء.
ما يُثير إعجابي ودهشتي في الوقت نفسه، كصانعة ساعات، في هذه القطعة الهندسية الرائدة، أنها تُمثِّل أول ميزان ساعةٍ على الإطلاق، وهي آلية مسئولة عن إيقاف الطاقة الصادرة عن العجلة المُسنَّنة وإطلاقها، فتُمد الساعة بالطاقة للأبد. (وهي طاقة لا نهائية، بالطبع، ما دامت تتوافر المُراقبة البشرية للمحافظة على منسوب الماء في خزَّان الإمداد، وإجراء أي تعديلات وصيانات تقتضيها الحاجة.) وهذه المجموعة من المكوِّنات القادرة على كبح وإطلاق الطاقة المُحركة من مصدرٍ كالماء أو الجاذبية أو النابض ستُصبح ذات نفعٍ عند اختراع أول ساعة ميكانيكية بشكلٍ كامل. وجدير بالذكر أن هذه كانت أول لحظة في التاريخ يُسمع فيها صوت دقات الساعة «تِك، تِك».
كانت هذه الآلات الميكانيكية القديمة مُفعمة بالفرحة العارمة للتجرِبة والاكتشاف، وهي نتيجة التجرِبة والخطأ، والاحتمالات التي لا نهاية لها. بحلول القرن الثالث عشر، نقل إسماعيل الجزري، العالِم والمُخترع المُسلم الذي عاش في شمال الجزيرة الفراتية، الميكانيكا إلى مستوًى آخر تمامًا. وقد كان الجزري المهندس المسئول عن تصميم وبناء قصر أَرتوكلو في تركيا، ويوصف في بعض الأحيان بأنه أحد «آباء علم الروبوتات»؛ إذ كان رائدًا في صناعة الآلات ذاتية الحركة (الأوتوماتون). تردَّدت بعض الشائعات أن «كتاب معرفة الأجهزة الميكانيكية المُبتكرة» الذي ألَّفه الجزري قد ألهم ليوناردو دافينشي، بعد حوالَي ٢٥٠ عامًا، بتفاصيل ما يقرُب من ١٠٠ اختراع ميكانيكي مصحوبة بالرسومات اليدوية التوضيحية المُبهجة. وتضمَّنت طواويس ذاتية الحركة، ونادلة أوتوماتيكية تعمل بالماء وتُقدم المشروبات في الحفلات، وفرقة من الموسيقيين «يعزفون» المُوسيقى لضيوف الحفلة، والعديد من الساعات المائية والشمعية المُعقَّدة.
وإذا كان هارون الرشيد قد أرسل ساعة يُصاحبها فيل، فإن الجزري تفوَّق عليه وصمَّم ساعةً مائية على هيئة فيل. وعلى ظهر الفيل يجلس خطَّاط عربي وفي يدِه قلَم في هودج ذهبي على سَجادة فارسية. ويركب في المُقدمة سائق أفيال أو مُدرب أفيال، بينما تُزيِّن القمة تنانينُ صينية وطائر عنقاء مصري. ويقبع حوض مملوء بالماء مُستترًا بجوف الفيل. ويطفو على سطح الماء طَستٌ مثقوب بثُقب صغير ومربوط بواسطة حبال ببكرةٍ رافعة. يمتلئ الطَّست بالماء ببطء، ويهبط رويدًا رويدًا، فيدور الخطَّاط مرة كل دقيقة. وفي غضون نصف ساعة يمتلئ الطست تمامًا، ويهبط إلى قاع الحوض، فيُشغِّل الآلية العاكسة التي تُطلق كرةً في فم أحد التنانين. يدفع وزن الكرة التنين للميل إلى الأمام، فيسحب الطست المغمور إلى سطح الماء مرة أخرى. وتُحفِّز هذه العملية أيضًا تمثالًا بشريًّا، على قمة العربة، لرفع يده. ويَصدر صوت صَنْج كل نصف ساعة، ويدور طائر العنقاء، ويُحرك سائق الفيل عَصَويه. وعندما تكتمِل الدورة، وينتهي العرض، تعود الشخصيات إلى أماكنها الأصلية وتنتظر امتلاء الطَّست من جديد.
صُمِّمت مكونات الساعة، عن قصد، لتشمل كل المعرفة العالمية بالهندسة في ذلك الوقت. وَفقًا للجزري: «يمثل الفيل الثقافتَين الهندية والإفريقية، والتنينان الثقافة الصينية، وطائر العنقاء الثقافة الفارسية، والهندسة المائية الثقافة اليونانية القديمة، وتمثل العمامة الثقافة الإسلامية.» ولا تزال ساعة الفيل تُثير الدهشة إلى اليوم. في عام ٢٠٠٥، شُيدت نسخة مُقلدة تَذكارية منها، لتوضع في قلب أحد الأسواق التجارية في دُبي. وصارت ساعة الفيل الإماراتية، القابعة في وسط قاعة رخامية مُقبَّبة، والمُحاطة بالمُتسوِّقين المُتحمِّسين الذين يلتقطون لها الصور، بؤرةً جديدة لمشاركة الزمن.
فيما يتعلق بقياس الوقت فإن الأوروبيين في العصور الوسطى قد تخلَّفوا نوعًا ما عن نظرائهم المُسلمين والصينيين. لكن مع بشائر عصر النهضة في أوروبا، ظهر عددٌ كبير من علماء الفلك داخل الكنيسة الكاثوليكية، وبصورة أعمَّ من داخل المجتمع الراقي، مما دفع بصناعة الساعات نحو حقبةٍ جديدة مُثيرة. وأحدثوا إنجازاتٍ كبيرة في تطوير الساعات الميكانيكية الأصيلة؛ إذ اعتبروا أن الماء مصدر غير مضمون للطاقة لأنه يتبخَّر في الصيف الأوروبي ويتجمَّد في الشتاء.
يتشكَّل ذراع التحكم في مثل هذه الساعات القديمة من عصًا رفيعة طويلة من الفولاذ (عكاز)، على رأسها قضيب أفقي، فتبدو مثل حرف «تي» الكبير. ويوجَد في مقدمة العصا وقاعدتها «سُقَّاطتان» مُستطيلتان، تتَّصل إحداهما بالأخرى بزاويةٍ ٩٠ درجة تقريبًا. هاتان السقَّاطتان متباعِدتان، حتى إذا تأرجحت إحداهما مع العصا المُتذبذِبة، اشتبكت الأخرى بسنٍّ من أسنان عجلة التاج (سُمِّيت كذلك لأن أسنانها المُدببة تُشبه التاج). عندما تدور العجلة للأمام، تتذبذب إحدى السقاطتَين لتسمح بعبور السنِّ، بينما تشتبك السقاطة الثانية بسنٍّ آخر من أسنان العجلة، وعلى هذا النحو تتحكَّمان في إطلاق الطاقة. فور أن تحتكَّ إحدى السقاطتَين بعجلة التاج، تُحفز قوة الدفع الذراع ليتذبذب في الاتجاه الآخر، فتشتبك أُختها مع السن، بينما تسمح هي بعبور السن هذه المرة، وهكذا دَوَالَيْكَ، للأمام والخلف. وتتكرَّر هذه الدورة مرة تلوَ الأخرى، وينبعِث منها دويٌّ معدِني في كل مرة تشتبك فيها السقَّاطة مع سن عجلة التاج.
يواجه صنَّاع الساعات البُرجية، إذا طرحنا اختلافات الحجم جانبًا، صعوبات لا تكاد تخطر ببال صنَّاع ساعات الجيب. فهم يُصارعون الرياح العاتية والبرد القارس أعلى أبراج الكنيسة، ويتأرجحون في أحزمة تثبيت مُتدلِّية من السطح، ويكشطون أكوام براز الحمام الحمضي الذي يُحدث انسدادًا في آلية الساعة، ويتشاجرون أحيانًا مع طيور النَّورس الغاضبة التي تُعشش في الساعة. تجعلني كل هذه الأمور أشعُر بالامتنان وأنا أعمل في أحضان ورشتي الآمِنة الدافئة. لكن ثمَّة شيئًا ساحرًا بشأن حركات الساعة البرجية. أجد فيها شيئًا من جمال كتابات هربرت جورج ويلز الخالص. إنها آلات مُثيرة للفضول وكأنها تخرج من عالَم الخيال العلمي لتدوِّيَ وتُجلجلَ وتَطِنَّ. وحركتها وئيدة ومُنتظمة، تكاد ترمُز إلى استمرار هيمنة «الساعات» في قياس الزمن في العالَم الحديث.
احتلَّ الفلك مركز نظرة المسيحيين القَرْوَسَطيين للعالم، الذين كانوا يؤمِنون أن الرب هو المهندس الذي بنى الكون بقُدرته. وتُظهر الأوصاف التصويرية الواردة من تلك الحقبة، الربَّ عالمًا رياضيًّا، بيده فِرجار تقسيم، يرسم مُخططات الكون. وكان هناك اعتقاد في تأثير الظواهر الفلكية على الحياة البشرية بشكلٍ مباشر. فعُقدت الزيجات واتُّخذت القرارات الدبلوماسية، وحتى العمليات الجراحية، بناءً على مواضع القمر والنجوم. كما ارتبط كل بُرج من الأبراج الفلكية بجزءٍ من بِنية جسم الإنسان، وكان المسيحيون يعتقدون أنه من الخطر إجراء جراحة في جزءٍ من الجسم إذا كان القمر متمركزًا في البرج الفلكي ذي الصلة. وكانوا يستشيرون العجلة القمرية لحساب مَوضع القمر بالنسبة للشمس، الذي عند مقارنته بالرجل الفلكي، وهو رسم إيضاحي لجسم الإنسان مع تحديد الأجزاء التشريحية وأبراجها ذات الصلة، يعرفون إذا كانت الأبراج مُلائمةً أم لا. فإذا كان الفرد يُعاني من ظُفر قدَم غارز في اللحم، وقالت العجلة إن القمر في برج الحوت (وهو البرج المُرتبط بالقدم) فهذا فأل سيئ؛ ولا بد أن ينتظر شهرًا قبل إزالة الظفر.
ومثلما كان الحال في مصر القديمة، حيث اقتصرت دراسة عِلم قياس الوقت والفلك على الكهنة بشكلٍ كبير، كان القساوسة في أوروبا الوسطى من القلة المحظوظة القادرة على تكريس وقتٍ كبير للاستزادة من المعرفة، في ظلِّ غياب المُلهِّيات الدنيوية والسعي وراء البحث عن مأوًى. ونجد عددًا من صنَّاع الساعات القدامى من رجال الكنيسة، مثل الراهب والفيلسوف الطبيعي ريتشارد والينجفورد (١٢٩٢–١٣٣٦ تقريبًا)، الذي صمَّم ساعةً فلكية في عشرينيات القرن الرابع عشر، وعالم الفلك والقسيس جون فيوزوري (١٣٦٥–١٤٣٦ تقريبًا)، الذي صمَّم ساعةً فلكية أثرية في كاتدرائية بورج الفرنسية.
ذهب علماء الفلك بالساعات إلى مستويات دقةٍ عالية. فقد ظهرت لهم الحاجة إلى ساعةٍ تستطيع قياس وَحَداتٍ زمنية متساوية لحساب ظاهرة مرصودة مثل خسوف القمر أو عبور مُذنَّب. كانت طرق القسمة قديمًا تعتمِد على فصل النهار عن الليل، في كثيرٍ من الأحيان، للإشارة إلى انقضاء النهار في كل يوم، فنجَم عن ذلك فترات زمنية مُختلفة الطول بحسب فصول السنة والمسافة بين الشروق والغروب. لكن الساعات الميكانيكية اعتمدت على التروس لضبط حركة عقارب الساعة، ما يعني (باعتبار أن الساعة تعمل بشكلٍ جيد دون أن تتوقف) أنه لن يكون هناك تفاوت في الوقت الذي يستغرقه كل عقربٍ للقيام بدورته كاملةً. وهكذا جعلتْ طبيعةُ الساعة الميكانيكية الصارمةُ مسألةَ تحقيق الاتساق المضبوط ممكنةً.
يُنسَب إلى جاليليو، الذي أُشيع أنه صاحب مقولة: «قسْ ما يقبل القياس، واجعل ما ليس قابلًا للقياس يخضع للقياس»، الفضل في اكتشاف أحد أهم تحسينات الدقة: ثبات الدورة الزمنية للبندول (أي أن البندول يتأرجح بمُعدَّلٍ ثابتٍ في ظل غياب المُتغيرات مثل الرياح). وتروي القصة أنه، في أثناء حضوره قداسًا في كاتدرائية بيزا، وهو في التاسعة عشرة من عمره، رفع بصره للأعلى ولاحظ تأرجح مصباح المذبح المتدلِّي من السقف بصورة متكررة منتظمة. في تلك اللحظة، خطر له استخدام التأرجح لتنظيم الطاقة الصادرة من أي آلية. وانشغل بهذه الفكرة لعدة سنوات، حتى جاء عام ١٦٣٧ وصمَّم أول ساعة بندولية تستخدم وزنًا متأرجحًا لتحفيز انطلاق عجلة الانفلات. تُوُفِّيَ جاليليو بعد ذلك بخمس سنواتٍ دون أن يرى تحول مفهومه المُبدع إلى حقيقة. واستغرق الأمر خمسة عشر عامًا أخرى قبل أن يُحوِّله عالِم الفيزياء والرياضيات الهولندي كريستيان هوجينز إلى آلية لتشغيل الساعة.
لكن إذا كانت المُراقبة الفلكية تُجرى في عدة أماكن فلا بد أن تكون الساعات محمولة. ولعلَّ أهم ما ساعد في هذا الأمر هو إدخال ما يُسمَّى بالنابض الرئيسي في آلية الساعة، حيث حلَّ نابض فولاذي ملفوف بإحكام حول المحور محلَّ الأوزان لتوليد الطاقة. ولا يُمكننا تحديد مخترع النابض على سبيل القطع، لكن أغلب الظن أنه كان نتاج تطوُّر صناعة الأقفال، وظهر في شمال إيطاليا. وتعود أقدم ساعةٍ تتضمَّن آليتها النابض إلى سنة ١٤٣٠. والنوابض التي كانت طويلة لكنها في غاية الرقة مثل شريط ملفوف حول الهدايا، كانت تُلولب في مِكَبٍّ أو أسطوانة وتلتفُّ حول عمودٍ مركزي، من خلال ذراع تدوير أو مفتاح. يُلولِب النابض حول العمود بصورة حلزونية مُحكمة، وعند حلِّه يتراجع عن العمود، إذ تدفعه طبيعته المَرِنة إلى الحل، ويسحب خُطَّافه الخارجي معه ليُحدِث تلك الحركة الدائرية البالِغة الأهمية. وكي لا يُطلِق النابض الرئيسي كل طاقته عَبر مجموعة التروس فجأة أو مرة واحدة، هناك ما يتحكم في سرعة دورانه كما كان الأمر في دينامية الوزن، وهو عجلة الانفلات.
تسمح النوابض الرئيسية للساعات بالانفصال عن الجاذبية فتتحرك معنا في أسفارنا بحجمِها الصغير المناسب. وإذا كان الدين قد ساعد في ظهور الساعات الميكانيكية المِعمارية في أنحاء أوروبا، وساهم العلماء في جعلها أكثر دقةً وعملية، فقد أعاد الأغنياء وسْم هذه الأجهزة المبتكرة لتكون مُعبرة عن المكانة الاجتماعية. وصارت الساعات، في القرن الخامس عشر، مشهدًا مألوفًا في دُور النبلاء والتجَّار الأغنياء لا سيما المُهتمين بعلم الفلك. وكانوا يستخدمونها لاستعراض معرفتهم بأحدث التقنيات، كما نفعل اليوم عندما نصطفُّ خارج متاجر أبل أيامًا لنشتري آخر إصدارات آيفون. فارتفاع تكلفة هذه الساعات، وخصوصيتها بالتبعية، جعلها محطَّ أنظار الكثيرين، وسرعان ما حلَّ النحاس الأصفر والأحمر المُذهَّبان محلَّ الحديد المُستخدَم في الآليات القديمة. ومع انخراط الصياغ والنقَّاشين صارت الساعات أكثر زخرفةً وزينة. ولدى المتحف البريطاني ساعة مميزة، صنعها صانع الساعات البافاري هانز شلوتهايم في سنة ١٥٨٥، من أجل الإمبراطور الروماني المُقدس رودولف الثاني فيما يبدو. صُمِّمَتْ هذه الساعة الموضوعة على متن نموذج سفينة حربية مَطليَّة بالنحاس، «للإبحار» في منتصف مائدة حافلة و«إطلاق» مدافع مُدخنة مُصغرة ذاتية الحركة، بينما تتحرك كائنات آلية شبيهة بالإنسان في أنحاء سطح السفينة. وتُقرع أجراس متدلِّية من مِنصة المُراقبة على رأس كل ساعة، بينما تُعزف الموسيقى على إيقاع طبلةٍ بواسطة آلية في هيكل السفينة. في وسط هذا الأداء المذهل يكاد لا يُلحَظ ميناء الساعة الصغير جدًّا في برج قيادة السفينة.
في القرن السادس عشر لم تكن هذه الساعات استثنائيةً كما هي الآن؛ كان كثير من الحِرفيين المُتقنين يصنعون مِثل هذه العجائب الميكانيكية في أنحاء أوروبا لإشباع ذلك النهَم بين أبناء الطبقة الراقية. كانت هناك إشكالية واحدة: لا يمكن الإعجاب بهذه الآلات المُعقدة إلا في البيت فحسب. كانت تعتمِد على مجيء أصدقاء المالك وزملائه وعملائه لحضور حفلات العشاء. بحلول هذه المرحلة، كانت الطبقات الحاكمة الأوروبية على استعدادٍ لتلقِّي أغراضٍ على نفس القدر من التعقيد والإعجاز لكنها قابلة للحمل، ليصحبوها معهم في أسفارهم حول العالم. وهكذا ظهرت الحاجة إلى تصغير حجم الساعة بما يكفي لارتدائها، من أجل تحويل هذا الأمر إلى حقيقة.
لدى الأغراض الصغيرة قدرة مُدهشة على الاختفاء. يُمكنها أن تتعرض للسرقة أو التلَف أو الضياع. كما يُمكنها الاختفاء وسط المُقتنيات الخاصة. قد تختفي خلف الأدراج، وفي صناديق الأحذية أسفل الفُرُش، وكذلك تحت ألواح الأرضيات. ومع ذلك يعثُر المرء عليها ثانيةً بالصدفة في بعض الأحيان.
وهذا ما حدث مع أقدم ساعة يدٍ معروفة في العالم حيث عُثر عليها في صندوق قطع غيار الساعات القديمة في سوق الأشياء المُستعملة في لندن عام ١٩٨٧، معروضةً للبيع بسعر ١٠ جنيهات إسترلينية. ولم تبدُ مِثل ساعة يدٍ بالنسبة للعين غير المدربة. فقد كانت تُشبه الكرة، ولها حجم ووزن بيضة دجاجة تقريبًا، ومُكونة من شطرَين من النحاس الأحمر الرقيق، عُولِجا بالطَّرْق كي يُشكِّلا ما يُشبه الكرة. وفي أعلى الكرة حلقةٌ، يمكن أن تمر منها سلسلة، فتجعل ارتداءها حول العنق مُمكنًا. وفي أسفلها، ثلاث قوائم صغيرة، تسمح باستوائها على الطاولة دون تدحرُجها. كما تزدان عُلبتها بالنقوش البسيطة لأرقامٍ ومشهد قرية وأوراق شجر. ويحتوي النصف العلوي من الساعة على عددٍ من الثقوب، على هيئة فاصلة، يُمكن النظر من خلالها إلى ميناء الساعة بالداخل. ولأجل معرفة الوقت تُفَك أداة التثبيت أعلى الكرة، فتنسحِب للخلف وتكشف عن عقربٍ واحد (لم تكن الساعات القديمة دقيقة بما يكفي ليُوجَد بها عقرب دقائق، كما لم تكن الوحَدات الزمنية الصغيرة في غاية الأهمية لأصحاب الساعات كما هي الآن) يدور في حلقة من الأرقام الرومانية على الميناء المنقوش. وتُوسَم هذه الساعة بالحروف الأولى «إم دي في بي إتش إن». هذه الحروف تقدِّم لنا الخيط الأول فيما يتعلق بمصدرها: تُشير الحروف «إم» و«دي» و«في» إلى التاريخ وهو عام ١٥٠٥؛ ويرمز الحرفان «بي» و«إتش» إلى بيتر هاينلاين، وهو صانع ساعات اشتهر في ذلك الوقت بصناعة الساعات الميكانيكية المحمولة الصغيرة؛ أما الحرف «إن»، فهو يُعبر عن نورنبيرج حيث صُنعت الساعة.
شكَّ المُشتري الأول في أصالة هذه الساعة غير العادية في البداية، فباعها لشخصٍ آخر بعد بضع سنوات. وأخذ المُشتري الثاني الساعة لأحد الخبراء، فأخبره هو أيضًا أنها مُزيفة. فبيعت الساعة للمرة الثالثة، في مقابل مبلغٍ مالي لم يُفصَح عنه، لكنه زهيد فيما يبدو. بعد ذلك أخضع المشتري الثالث الساعة لفحصٍ عِلمي دقيق، فأثبت بلا أي مجالٍ للشك أنها صُنعت في عام ١٥٠٥ أو حوله، وأنها أصليَّة على الأرجح، ومن ثَم فهي أقدم ساعةٍ في التاريخ لا تزال باقيةً في عصرنا الحالي. وتُقدَّر هذه الساعة حاليًّا بمبلغ يتراوح بين ٤٥ و٧٠ مليون جنيه إسترليني.
وأكثر ما يُدهِش بشأن هذه الساعة هو أننا نعرف بعض المعلومات عن صانعها. نعلم أن بيتر هاينلاين وُلد لأبٍ يعمل في تشكيل المشغولات النحاسية في نورنبيرج، في ١٤٨٥، وتدرَّب على صناعة الأقفال، مثلما فعل الكثيرون من صنَّاع الساعات الأوائل. كما نعلم أن نقطة التحوُّل الحاسمة في صِباه لم تحدُث في ورشةٍ بل في حانةٍ. ففي سنة ١٥٠٤، عندما كان هاينلاين في التاسعة عشرة من عمره، دخل في شجارٍ قُتِل فيه صانع أقفالٍ زميل يُدعى جورج جلاسر. ولأنه أحد المُتَّهمين في قضية القتل، طلب اللجوء إلى دير الفرنسيسكان في نورنبيرج واحتمى به من سنة ١٥٠٤ إلى ١٥٠٨.
في القرنَين الخامس عشر والسادس عشر، كانت مدينة نورنبيرج، الواقعة في جنوب ألمانيا، أحد مراكز القوى الإبداعية والفكرية في أوروبا. كما كانت مركز النهضة الألمانية، وموطن يوهانس جوتنبيرج ومطبعته (التي تأسست في سنة ١٤٤٠)، ومسقط رأس ألبريخت دورر وورشته التي أنشأها في ١٤٩٥. واستقطب دَيْرها الأكاديميين والحِرفيين، ومُنح هاينلاين، بلا شك، فرصة الوصول إلى التقنيات والأدوات الجديدة، بالإضافة إلى الاطلاع على أعمال علماء الفلك والرياضيات الزائرين. وجد هاينلاين الحظَّ قد وضعه في بيئة مواتية لاستغلال موهبته.
وقد يكون هاينلاين تعلم في الدير كيفية صناعة نسخة مُصغرة من البكرة المخروطية الحلزونية التي أضافها إلى ساعته. والبكرة المخروطية الحلزونية (تُنطق فيوزي بالفرنسية) المُتصلة بالنابض الرئيسي، كانت تعمل بآلية القوس في البداية، وظهرت في تصميمٍ رسمَه ليوناردو في عام ١٤٩٠. عندما تتم تعبئة الساعة، يلتفُّ النابض بشدة ويُخزن القوة، التي تدير بدورها أسطوانة النابض في أثناء حلِّ النابض في الاتجاه المعاكس للتعبئة، مثل الراقصة الدوَّارة في صندوق الموسيقى أو مؤقِّت غليان البيض الميكانيكي. وكما تقلُّ سرعة الراقصة الدوَّارة شيئًا فشيئًا، تكون قوة الدوران شديدة ثم تقلُّ شيئًا فشيئًا في أثناء حلِّ النابض. لقد ساعدت البكرة المخروطية الحلزونية المُستدقَّة في تنظيم هذه العملية باستخدام ما يُشبه تروس الدرَّاجة.
سرعان ما اشتهر هاينلاين بأنه يصنع ساعات بحِرفية خالية من العيوب وعبقرية منقطعة النظير. وكلَّفه مجلس نورنبيرج بصناعة جهازٍ فلكي، وصنع ساعة برج لقلعة ليشتناو. لكنه كان مُتخصصًا، كما يظهر، في صناعة الساعات الكروية المُزركشة الصغيرة كالساعات التي نُعلقها في سلاسل مثل المجوهرات أو دبابيس الزينة. وفي عام ١٥١١، وصف يوهانس كوكلاوس كيف أن بيتر هاينلاين «أنشأ من قطعة حديدٍ صغيرة ساعاتٍ متعددة التروس يمكن تعبئتها كما نشاء، ولا تحتوي على بندول، وتعمل لمدة ٤٨ ساعة، وتدق الجرس على رأس كلِّ ساعة، إلى جانب إمكانية حملِها في محفظةٍ أو في الجيب.»
يجد المرء صعوبة في قراءة شخصية الرجل الذي يقف خلف هذه الاختراعات الرائعة. ولأنه من صنَّاع الساعات القليلِين المذكورة أسماؤهم من تلك الفترة الزمنية، تكرَّر وصفه مثل الأبطال الأسطوريين. وشُهرته المعاصرة هي نتاج مسرحية والتر هارلان، «بيضة نورنبيرج» (١٩١٣)، التي تحوَّلت إلى فيلم عُرِض في ١٩٣٩ كجزءٍ من حملة الدعاية الإعلامية النازية لتشجيع القصص التي تتحدَّث عن تفوُّق الألمان. وحازت النسخة النهائية على موافقة جوزيف جوبلز. تُصوِّر المسرحية والفيلم هاينلاين زوجًا مُحبًّا، وفنانًا متفانيًا، لقِيَ حتفه من اعتلال القلب. لكن كشفت الأبحاث اللاحِقة جانبًا مُظلمًا في شخصيته. أظهر فحص آلية الساعة المذكورة ما يبدو أنه الحرفان الأولان من اسمه، «بي إتش»، نُقِشا بنقشٍ بالِغ الصغر على مَعدِن آلية الساعة بصورة متكررة، وعلى نحوٍ غير واضح للعين المجردة، وهو ما وجده الطبيب النفسي صديقي دلالةً مُحتملةً على شخصيته النرجسية المُعادية للمجتمع. نحن نعلم أن هاينلاين قادرٌ على ممارسة العنف (سقط الاتهام في حقِّه بقتل زميلِه بعدما دفع ديةً لعائلته لا بسبب إثبات براءته)، كما أنه كان شديد الدعم لأخيه هيرمان، الذي قُطِعَ رأسه بسبب قتلِه فتاةً متسولة ذات ثمانية أعوام، في جريمةٍ بدافع الجنس، على ما يبدو. لم يشعر بيتر بأي شفقةٍ تجاه الطفلة المقتولة ولا عائلتها، وسعى مرة تلوَ الأخرى لإعفاء أخيه من العقوبة. ببساطة: بيتر هاينلاين هو أحد صنَّاع الساعات المشهورين في التاريخ، ولكنني لم أكن لأرغب أبدًا في الذَّهاب معه لاحتساء مشروب.
إن ساعة هاينلاين بسيطة جدًّا من بعض النواحي. فالمعادن المُستخدمة في الساعة طبيعية، لم تخضع لذلك الصقل المُتطوِّر أو تلك اللمسات النهائية الدقيقة المرتبطة بصناعة الساعات الحديثة الفاخرة، وأجزاؤها الميكانيكية مصنوعة من الحديد، وهو مادة غير مناسبة؛ لأنه عندما تُطرَق الساعة تميل الذرَّات الحديدية إلى التراصُف مع المجال المغناطيسي للأرض، فتُحوِّل الأجزاء الميكانيكية إلى مغناطيس وتُعطِّل آلية الساعة؛ كما أن النقوش المُزيِّنة لسطح الساعة بسيطة وساذجة. ومع ذلك أشعر بالانبهار، كصانعة ساعات مُعاصرة، من المهارة التي صُنعت بها هذه الساعة. لقد صُنِعَت ساعة هاينلاين من قبل ظهور أجهزة التكبير العالية الجودة، وأجهزة القياس الرقمية، والمَثاقيب والمخارط الآلية. لقد صُنِعت عناصر الساعة جميعها — كل ترسٍ من التروس الكبيرة والصغيرة وحتى آخِر أصغر مسمار — ورُكِّبَت باليدِ. ومن المُثير للدهشة، أنه بعد مرور خمسة قرون، لا تزال مثل هذه الساعات تعمل بلا توقُّف، مع أنها قد تحتاج لصيانة واهتمام مُصلِحي الساعات المُتأخِّرين من أمثالي.
لقد وصلنا إلى أول ساعةٍ مميزة ميكانيكية محمولة. وفي رأيي أن هذه الساعة هي الذروة والبداية في الوقت نفسه: إنها ذروة رحلة بشرية — استغرقت عشرات الآلاف من السنين — نحو صناعة ساعةٍ ميكانيكية شخصية محمولة؛ وبداية قصة سريعة الوتيرة — لم تدُم أكثر من خمسة قرون — عن البشر والآلات.