الفصل الثالث

الوقت كالسيف

الوقت أنفع لنا من المال والقَدَر،
يُغيِّر متى شاء من الحال والشأنِ.
الشيخوخة داءٌ لا دواء له،
والشباب سلعة لا يمكن للمرء تخزينها.
يُولَد المرء وعلى رأسه الموت ينتظرُ،
وبادي السعادة يجِد مِن العناء ما لا يُحتمَل.
ماري، ملكة اسكتلندا، ١٥٨٠ تقريبًا

للوهلة الأولى، بدا مَحجِر العينَين الأسود الفارغ، والتجويف الأنفي الواسع، والابتسامة الفاغرة الخالية من اللحم شنيعةً مُريعة. لكنني أحاول تنحية هذه الانطباعات المبدئية جانبًا، كي أُصفي ذهني تمامًا، لأتخيل ماذا كانت تعني هذه الساعة لمالِكها الأول. وها أنا أنظر إلى ساعةٍ على شكل جمجمة الموت، من القرن السادس عشر، ضمن مجموعة النقابة المُبجلة لصانعي الساعات، والتي اعتُقِد فيما مضى أنها ملك ماري ملكة اسكتلندا.

والساعة فِضية اللون، في حجم ثمرة يوسفي تقريبًا، ومُغطَّاة بالنقوش الدقيقة. وعلى جبين الجمجمة، يقف هيكلٌ عظمي بساعةٍ رملية ومنجل مُشْهَر، إحدى قدمَيه عند باب قصر والأخرى عند باب كوخٍ، في تذكيرٍ إلى مطاردة الموت للأمير والفقير على حدٍّ سواء. وفي الجزء الخلفي من الجمجمة، يقف شخص «الزمن» — بيده منجل أيضًا — وبجانبه حيَّة تلتهِم ذيلَه، وعبارة أوفيد الكلاسيكية: «يلتهِم الموت كل شيء.» ويزدان جانبا الجمجمة بشبكةٍ دقيقة من الثقوب. ويقبع داخل الجمجمة جرسٌ تقرعه آلية الساعة على رأس كل ساعة. ومن أجل معرفة الوقت، لا بدَّ من سحب الفكِّ إلى الوراء للكشف عن الميناء المُختبئ في سقف الفم. وتستقر الأجزاء الميكانيكية للساعة حيث يستقر المخ في جمجمة الكائن الحي.

لهذه الساعة غرضٌ تعبُّدي؛ فهي تُعبر عن زمن كان يُنظَر فيه إلى الحياة باعتبارها فترةً قصيرة مهما طالت والموت باعتباره حقيقة واقعة حتمًا في الحياة اليومية. فنظرة واحدة إليها ستُذكِّرك بإمكانية استدعائك في أي لحظةٍ لمقابلة خالقك. إنها فكرة مؤرقة لأي شخصٍ بشكلٍ عامٍّ، ولكل من اقترب من الموت بشكلٍ خاص.

ترعرعت على عدم الإيمان بدينٍ مُعين. كنَّا نسكن في منطقة مُتعددة الثقافات مع السيخ والهندوس والمُسلمين والكاثوليك الأيرلنديين واليهود البولنديين، لكن أبي أراد أن ينأى بنفسه عن تربيته الكاثوليكية. أبي، الذي كان يعمل في وظيفة مسئول الأمن الاجتماعي في ضاحية هاندسوورث القريبة قبل أن يترُكها ليتفرغ لتربيتي وأختي، أخبرَنا بوجوب احترام مُعتقدات الآخرين وأديانهم وتجنُّب تبنِّي دينٍ خاصٍّ في الوقت نفسه. تمتع جيراننا القادِمون من غرب الهند بعَلاقة صداقة رائعة مع عائلتنا، ورغم عدم مناقشتهم لمُعتقداتهم المسيحية معنا، فقد كانوا يعرفون توجُّهاتنا. ومن حينٍ لآخر كانوا يضعون منشورات كنيستهم في صندوق بريدنا بحذَر شديد، داعِين إيَّانا للاهتداء بنور يسوع المسيح. أتذكَّر أنني سألتُ أبي لماذا يفعلون ذلك في حين أنهم يعلمون بعدم إيماننا بالرب. وفسَّر إقدامهم على ذلك التصرُّف بمحبَّتهم لنا، واكتراثهم بأمرِنا، وخشيتهم أن يكون مصيرنا إلى النار لأننا لا نؤمن بالرب. قال: إنها إيماءة حُبٍّ لا بد أن نُقابلها بالامتنان وإن لم نقتنِع بالدِّين.

figure
مثال على ساعةٍ فِضية على شكل جمجمة من أوائل القرن السابع عشر.

مع ذلك، فقد شعرت بانجذاب للكنائس والكاتدرائيات. أهي الطمأنينة التي يبدو أنها تخترق جدران دار العبادة، أم هي الألوان الزاهية التي تعكسها النافذة الزجاجية الملوَّنة؟ أيَّا كان السبب، من الصعب ألا يشعُر المرء بالتأثُّر عندما يستمع إلى جوقة الكنيسة الكاملة أو إلى موسيقى الأرجن. يُمكننا هنا أن نفقد شعورنا بالزمان والمكان، ونتذكَّر أننا مجرد كائنات ضئيلة لا أهمية لها في هذا الكون. يُولِّد الدِّين فينا شعورًا بالضآلة، ولكنه في الوقت نفسه يجعلنا نشعر بالانتماء إلى نظامٍ أكبر. كان هذا صحيحًا بالتأكيد في القرن السادس عشر. هذا الإحساس بالانتماء للكون الذي خلقه الربُّ كان يُشكل كل جانبٍ من جوانب حياة المرء في ذلك الوقت، ومن بين ذلك نظرته للزمن؛ ومن ثم للساعات.

في نهاية القرن الثامن عشر، أثيرت ضجة بين تجَّار التُّحَف في لندن عندما تم التعرُّف على ساعة يُعتقَد أنها كانت تعود إلى روبرت الأول ملك اسكتلندا المُحارب. كان هذا سيُعتبر اكتشافًا مثيرًا للإعجاب لأن روبرت توفِّي عام ١٣٢٩، أي قبل اختراع الساعة بأكثر من ١٥٠ عامًا.

تهدف هذه القصة إلى إظهار أن اكتشاف المنشأ الدقيق للساعة، في كثيرٍ من الأحيان، أمرٌ مُعقدٌ يتأثر بأمانينا. وليست ساعة الملكة ماري استثناءً من هذه القاعدة. تقول الأسطورة إنها كانت تحمِلها معها طوال الوقت، ولم تمنحها إلا لوصيفتها المُقرَّبة ماري سيتون قبل إعدامها بفترة قصيرة.١ لكن في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، اكتشف القيِّم السابق على مجموعة النقابة المُبجلة لصانعي الساعات، سيدريك جاجر، ساعات عديدة قِيل إنها تعود إلى الملكة ماري على مدار القرون الماضية، بالإضافة إلى اثنتَي عشرة نسخة مُقلَّدة. وعلى أغلب الظن، لا سبيل لمعرفة ما إذا كانت أيٌّ من الساعات الجمجمة الباقية إلى اليوم كانت مِلكًا لماري حقًّا أم لا، أم هل بقِيَت ساعتها إلى عصرنا الحاضر أم لا.

لكن لو قُلنا إن ساعتنا المذكورة آنفًا هي الساعة الخاصة بماري، فماذا كانت تعني بالنسبة إليها؟ كانت ستتمتَّع بقيمةٍ مالية عظيمة بالطبع. كانت المجوهرات، بالنسبة للملكة، سلعةً نفيسة أو عُملة يمكنها استخدامها في تمويل الحروب وشراء التحالُفات والتوسط في الصفقات. وربما كانت لها قيمة عاطفية أيضًا. لقد أُهديت هذه الساعة لماري من زوجها الأول، فرانسيس الثاني، ملك فرنسا. تزوَّجت ماري من فرانسيس في ١٥٥٨، عندما كانت هي في الخامسة عشرة وهو في الرابعة عشرة من عمره. ويبدو أن زواجهما كان سعيدًا للغاية، رغم طفوليته، إذ تربَّيا معًا منذ طفولتهما. لكن فرانسيس، الذي كان يشكو من اعتلال صحته بصفةٍ مستمرة، تُوُفِّيَ بسبب عدوى في الأذن أدَّت إلى حدوث خُرَّاج في المخ، قبل مرور ثلاث سنوات على زواجهما، وبعد سبعة عشر شهرًا من حُكمه. وفقدت ماري أُمَّها، التي كانت تكنُّ لها محبة شديدة، في نفس العام أيضًا. ومع كل هذا الحزن لم تجِد ماري سببًا لبقائها في فرنسا. وفي ١٥٦١، عادت ماري إلى اسكتلندا وطالبت بحقِّها في العرش، كاثوليكيةً فرنسيةً مخلصةً، في دولة أصبحت بروتستانتية المُعتقَد. ربما كانت الساعة تذكيرًا بكل ما فقدته.

وربما كانت للساعة أهمية دينية أيضًا. ظهرت الجماجم كثيرًا في القرنَين السادس عشر والسابع عشر، في رسومات الطبيعة الصامتة والصور الشخصية، مصحوبةً بالساعات في كثيرٍ من الأحيان، مثل الساعات الرملية وساعات الحائط وساعات الجيب القديمة. وأجِدُ هذه المجاورة منطقية في الحقيقة. فالموت والزمن أمران مُتلازمان: الزمن مِثل المؤقِّت الذي يعمل أبدًا، يَعُدُّ تنازليًّا ساعات حياتنا. ذات مرة وصف بودلير الزمن ﺑ «الخَصم الفتَّاك اليقظ والعدو الذي ينهش في قلوبنا.» كذلك ازدانت الكثير من الساعات الجماجم باقتباساتٍ باللغة اللاتينية مثل: tempus fugit (الوقت كالسيف)، وmemento mori (تذكَّر أنك فاني)، وcarpe diem (اغتنم اليوم)، وincerta hora (ساعة الموت مجهولة)؛ لتذكير أصحابها أن الحياة الأخروية، التي يُعَد وجودنا الفاني مجرد إعدادٍ لها، تقِف في الانتظار.

ربما مثَّلت الساعة لماري النطاق الوحيد الذي يُمكنها التحكُّم فيه تحكمًا كاملًا: وهو عقلها. تمتعت النساء في تلك الحقبة بقدْر ضئيل من الحرية. أدَّت ماري، التي صعِدت لعرش اسكتلندا وهي لا تزال ابنة ستة أيام، دور البيدق السياسي منذ ولادتها. وعندما بلغت ستة أشهر، خُطبت لابن هنري الثامن الوحيد، الأمير إدوارد البروتستانتي (إدوارد السادس في المستقبل)، لكن عُورضت الخِطبة من قبل الكاثوليك الاسكتلنديين. وفي سن الخامسة، خُطبت لفرانسيس، ولي عهد فرنسا آنذاك، وأُرسلت لتتلقى التربية والتوجيه في البلاط الفرنسي. وعندما عادت إلى اسكتلندا ملكةً بعد وفاة فرانسيس، كان من المُخطط أن تحكم لمدة خمس سنوات، قبل أن تُجبر على التنازل عن العرش في ١٥٦٧. وتورطت، في أثناء إقامتها الجبرية، في مكائد عديدة دبَّرها المُتآمرون الكاثوليك بهدف الاستيلاء على عرش الملكة إليزابيث الأولى، حتى وقَّعت الملكة مذكرة إعدام قريبتها على مضض.

ربما كانت الساعة الجمجمة المملوكة لماري، التي سُجنت في آخر تسعة عشر عامًا من حياتها، تذكيرًا لها أنها ستبدأ حياة أخرى أبديةً أفضل بعد الموت رغم كل هذه السنوات الضائعة. لقد تدهورت حالة الملكة، التي كانت في أتمِّ صحة وحيوية فيما مضى، بصورةٍ كبيرة في العَقدين الأخيرَين من حياتها. وابتُليت بنوباتٍ من المرض، من بينها آلام مُبرِّحة في جانبها الأيمن منعتها من النوم، إلى جانب آلام مُتقطعة في يدها اليمنى جعلت الكتابة أمرًا شاقًّا عليها. وصارت ساقاها في غاية الضعف حتى أنها عند إعدامها كانت مُصابة بعرج دائم. وافترض الباحثون المتأخِّرون أنها كانت مصابةً بمرض وراثي في الكبد أو بالبورفيريا (ومن المعروف أن هذا المرض أصاب أحد أحفادها اللاحِقين، وهو جورج الثالث)، التي ربما كانت سببًا في انهياراتها العاطفية المُتعدِّدة التي عُزِيت وقتها للهيستريا أو الجنون. وأعربت الخطابات والاقتباسات التي طرَّزتها في أثناء فترة سجنها عن استعدادها للرحيل عن حياتها الدنيوية، حيث كانت تترقَّب الإعدام كما ترقَّب ديموقليس السيف المُسلَّط عليه، وتنتظر الولادة من جديد في السماء.

قُطع رأس ماري بتهمة الخيانة، في قلعة فوذرينجهاي بمقاطعة نورثامبتونشير، ذات صباح بارد من شهر فبراير، سنة ١٥٨٤. وكانت تُدرك أنها ستصير رمزًا بموتها، ومن ثم استغلَّت هذه اللحظة لتترك إرثًا سيدوم لقرون قادمة. وبينما اقتِيدَت إلى المقصلة، ساعدتها وصيفاتها في خلع ردائها الحريري الأسود الفاحم، المُطرَّز بالمُخمَل الأسود، والمُزركش بالأزرار السوداء المزخرفة باللآلئ. وعند نزع ثيابها الخارجية، تبيَّن أن ماري كانت ترتدي تحتها تَنُّورة تحتانية قِرمِزية، وصُدْريَّة حريرية حمراء، وأكمامًا حمراء؛ كانت ترتدي لون الدم، وهو لون الاستشهاد في المُعتقَد الكاثوليكي.

أتخيل كثيرًا ماري في غرفتها الشديدة البرودة في الليلة السابقة لإعدامها، جاثيةً أمام الكتاب المُقدس على ضوء الشموع مُمسكةً بساعتها. ربما أحدثت ساعتها البطيئة (مثل جميع ساعات القرن السادس عشر) «دقَّة» قريبة في وتيرتها من خفقات قلبها. أحبُّ أن أُفكر أن ساعتها قد بَعثت في قلبها بعض الدفء، وهي تستعدُّ للإعدام.

كيف كانت الساعة في القرن السادس عشر؟ في الحقيقة لم تكن تقيس الوقت بدقةٍ كما قد نتخيل. فالساعات التي تحتوي على عجلة انفلات ذات محور دوَّار حسَّاسة للغاية. ولا تمتلك أجهزة تُعوِّض عن التغييرات في الحرارة، إلى جانب عدم استجابتها الجيدة للصدمات والحركات الفجائية. وهذا جعلها أكثر عرضةً لأن تتوقَّف وأن تتخلف دقائق بل ساعات. كانت الساعة أشبه بشيء نادر عجيب، لا يتوافر إلا للأغنياء. آنذاك، لم تكن الساعات متداولةً إلا بعددٍ قليل جدًّا، وظلَّت باهظة الثمن حتى بعد ثلاثة قرون من ظهورها. وفي الصورة الشخصية التي رسمها هانز هولباين الابن للملك هنري الثامن في ١٥٣٦، تتدلَّى مُدلَّاة غريبة، شديدة الشَّبه بساعة القرن السادس، من سلسلة ذهبية تلتفُّ حول عنق الملك. وأُدرِجت المزيد من الساعات في جرد الخِزانات الملكية للملكة إليزابيث الأولى، ومن بينها ساعة جمجمة أخرى، وما يبدو أنه أول ساعة يدٍ صُنعت على الإطلاق. تصف القائمة المُدوَّنة في ١٥٧٢، حلقة أو سوارًا من الذهب، مزدانًا بكثيرٍ من الياقوت الأحمر والألماس، وبه ساعة عند القُفل. ولسوء الحظ، لم تصِل هذه التحفة المُدهشة إلينا.

هناك نَموذجان من الساعات القديمة راج ارتداؤهما في سلسلةٍ في تلك الفترة. أحدهما أكثر شبهًا بالكرة، مثل ساعة هاينلاين، واسمه الكرة العطرية لشبهه بالكرات الشبيهة بالقفص التي كانت تحتوي على بَخور عطري وتُعلَّق في جنبات الكنيسة. والآخر على هيئة عُلبة أسطوانية مفلطحة — تُعرف بالطبلة — ذات غطاءين مِفصلِيَّين في الأمام والخلف. في منتصف القرن السادس عشر، أتاحت التطوُّرات التقنية لصانعي الساعات البدء في البحث عن علبٍ مختلفة الأشكال، تتضمَّن آليات أصغر حجمًا، وعن تقنيات جديدة لزخرفتها. كانت هذه بدايةَ الساعات ذات الأشكال الخاصة، وهي تأخذ شكلَ أغراضٍ أخرى مثل الزهور والحيوانات. كما كانت تأخذ شكل الأغراض التعبُّدية في بعض الأحيان، مثل الصليب والكتاب المُقدس، والجمجمة بلا شك.

كلما رأيتُ الساعات ذات الأشكال الخاصة في أحد المتاحف أو دور المزادات لا أستطيع كبح ابتسامتي. كم هي أغراضٌ صغيرة ساحرة! إنها تجمع بين الحِرفية والتصميم والهندسة الدقيقة في مزيج مثالي. ولو كانت لدي الحرية لابتكار ما أريده، دون القلق بشأن الفواتير، لأحببتُ صناعتها. إنها عبارة عن ساعة وتحفة فنية في الوقت نفسه، تعاون في تشكيلها خبراء من الحِرف المختلفة. وهي في كثيرٍ من الأحيان نتاج عمل الحِرفيين المُختصِّين بطلاء المينا والنحَّاتين ونقَّاشي المعادن والصائغين وقاطعي الأحجار الكريمة جنبًا إلى جنبٍ مع صناع الساعات التقليديِّين، مزينة بالذهب والفضة والياقوت الأحمر والزمرد والألماس. ولا تزال آلية هذه الساعات أمرًا ثانويًّا بالمقارنة بشكلِها المُبهر الشديد البذخ. وليس من الصعب تخيُّل قيمتها العاطفية والمادية عند أصحابها، واستجلابها لما يُشبه استجابة روحانية لمعدِنها أو حجرها البارد.

في عام ١٩١٢، عندما كان العمال يهدمون المباني المتداعية في زاوية شارع تشيبسايد في لندن، وجدوا شيئًا يلمع تحت أقدامهم. وبعد إزالتهم لألواح الأرضية والتراب بحذر، أخرجوا خمسمائة قطعة خلابة من المجوهرات تعود للعصر الإليزابيثي واليعقوبي، في اكتشاف أُطلق عليه فيما بعدُ اسم «كنز تشيبسايد». تُصيبني تلك القصة بالقشعريرة. فمن بين المُميزات السحرية للذهب أنه لا يخفُت بريقه بمرور الزمان ولا بسوء التخزين. كما يسهل التعرُّف عليه دون خلطِه بغيره، بسبب شدة لمعانه ولونه الثري والدافئ، ووزنه الثقيل جدًّا. وتحافظ المينا الزجاجية على عدم تغير لونه أبدًا مِثل معظم الأحجار الكريمة. لذا كانت هذه الكُومة المتشابكة من الكنوز تلمع بشدة، مثلما كانت في ذلك اليوم الذي دُفنت فيه، بالرغم من مرور ما يقرُب من ٣٠٠ عام على دفنها تحت الأرض.

في البداية، قرَّر العمال ألا يُخبروا مُلَّاك العقار باكتشافهم، وهم الذين تبيَّن أنهم تابعون للنقابة المُبجلة للصاغة.٢ فأخذوا المجموعة للجواهرجي جورج فابيان لورانس، المعروف بين عمَّال الحفر في لندن باسم «جاك الحجري». ووصلوا إليه وجيوبهم وقُبعاتهم ومناديلهم مُنتفخة بالمجوهرات. تصف مقالات الجرائد في تلك الفترة عمَّال الحفر، وهم يَضَعُون «أكوامًا عظيمة من التراب المُتكتل» على أرضية متجر الجواهرجي، بينما يهتف أحدهم: «أظنُّنا صادفنا متجر ألعاب يا ريِّس!» أدرك لورانس على الفور قيمة المجموعة، فعزم على تأمين الكنز حتى يُسلِّمه لمتحف لندن.٣

وُجِد بين قطع الكنز الاستثنائية ساعة ذات شكلٍ خاص، تقبع أجزاؤها الميكانيكية المُذهَّبة في زمردة كولومبية، في حجم ثمرة طماطم الكَرَز. إنها الساعة الوحيدة ذات العُلبة من الزمرد المُصمَتْ، التي لا تزال باقية إلى عصرنا الحالي. وقد قُطِع حجرها الأخضر النفيس على هيئة عُلبة سُداسية الأضلاع، احتذاءً بالشكل المنشوري للبِلَّوْر الخام، لتعزيز انكسار الضوء وبريق اللون. وطُلِي ميناؤها، الذي يُمكن رؤيته من خلال الغطاء الأخضر الشفاف المصنوع من الحجر الكريم، بمِينا من نفس اللون الأخضر الزمردي، على خلفية ذهبية مزخرفة مُزدانة بحلقةٍ من الأرقام الرومانية. لسوء الحظ، لم تنجُ الأجزاء الميكانيكية الداخلية للساعة من تلك المغامرة تحت الأرض مثلما حدث مع العُلبة. فقد أصابتها قرونٌ من الصدأ بالتآكُل، فصارت ساكنةً بلا حَراك، داخل قشرتها الزمردية.

وما لدَينا من معلوماتٍ قليلة بشأن هذه الساعة تَمكنَّا من استنتاجه من خلال الأشعة السينية المُجسِّمة. كانت آليتها تُشبه الساعات الدقيقة التصميم في تلك الفترة الزمنية، لكنها لم تحمِل أي توقيع، لذا لا نعلم صانعها ولا مكانه. نعلم أن الزمرد نفسه واردٌ من مقاطعة موزو في كولومبيا — وهذا دليل على ازدهار التجارة الدولية في السلع الترفيهية في ذلك الوقت — لكن لا نعلَم مَن قطعَه. كانت هناك جماعات من الحِرفيين قادرة على قطع هذا النوع من العُلَب في إشبِيلِية ولِشبُونة وجنيف وأيضًا لندن فيما يبدو. على أي حال، مَن صنع هذه العلبة كان يمتلك مهارةً مُذهلة. لقد تدرَّبت على مهنة خبير الأحجار الكريمة لفترةٍ وجيزة، وأعلم أن نحت الأحجار الكريمة يتطلَّب مستوًى فائقًا من الخبرة والمهارة. ولا بدَّ أن تتوافر لدى النحَّات معرفة موسوعية بخواص الأحجار المختلفة. فكل حجرٍ يريد أن يُقطَع ويُصقل بطريقةٍ خاصة — تتطلَّبها تركيبته الجزيئية — وهو في ذلك مِثل بصمة الإصبع بما يحتوي عليه من أنماطٍ تضمينية فريدة مثل نُدف الثلج. يقرأ المُشتغلون بصقل الأحجار الكريمة الأحجار، ويدرسون تراكيبها بتفصيلٍ شديد، للتوصُّل إلى صورة القالب النهائي. ومعالجة أحجار الزمرد مُعقدة بشكل خاص. فالزمرد يتبع عائلة الزبرجد، وتتشكَّل جزيئاته على هيئة أعوادٍ سداسية، مثل قلم رَصاص إتش بي ثخين. وهو ليس في صلابة الياقوت الأحمر والأزرق، لكنه يتشظَّى بسهولة. كلما زاد حجم الزمرد الخام وغلا ثمنه، زاد الضغط على القائم على صقله لإنجازه بالشكل الصحيح. فحركة واحدة خاطئة قد تؤدي إلى كسر قطعةٍ كبيرة من العُلبة، أو الأسوأ من ذلك شطر الحجر كله لنصفَين وتضييع قيمته المادية في الوقت نفسه.

أكاد أجزم أن هذه الساعة — التي هي واحدة من أرقى المجوهرات في رأيي — ليست نتاجَ يدٍ واحدة. في الحقيقة، القليل من الساعات ذات الشكل الخاص هي نتاج يدٍ واحدة؛ هذا لأن صانعي ساعات تلك الحقبة كانوا يستعينون بمهاراتٍ مجموعة كبيرة من الحِرفيين لدعم وإثراء عملِهم على آلية الساعة. ولا أزال أفعل أنا وكريج ذلك إلى حدٍّ ما. لقد قضينا ما يقرب من أربعة عقود لنتخصَّص في حرفةٍ واحدة، لذا نُدرك تمام الإدراك ما يتطلَّبه الوصول إلى درجة الإتقان من وقتٍ وجهد. فلن نستطيع نقش أو طلاء أو قَطْع الأحجار الكريمة بنفس مهارة زملائنا الحِرفيين الذين كرَّسوا حياتهم في إتقان حرفتهم. إذا أردت أن يصِل عملك إلى أعلى جودة مُمكنة فلا مناصَ من التعاون مع الآخرين.

أول ما نفعله، عند تصميم ساعة جديدة، هو جمع فريق مُمتاز من الحِرفيين. بعض الأفراد الذين نتعامل معهم من السكان المحليين (بل من أبناء المنطقة، وفي بعض الأحيان من الطابق السُّفلي في المبنى نفسه الذي نعمل فيه). والبعض الآخر على بُعد بضعة شوارع فحسب. وبعضهم من الطرف الآخر من أوروبا — ينطبق هذا أيضًا على صانعي ساعات القرن السابع عشر — ولكن الفرق بيننا وبين أسلافنا هو أننا تعرفنا عليهم من خلال تطبيق إنستجرام. صنَعتُ ساعة من قبل، لها علبة من البِلَّور الصخري، الذي جلبتُه من تاجرٍ في لندن، بناءً على توصية صاقلِ الأحجار الكريمة، في مدينة برمنجهام، الذي قطعه لي بعد ذلك. كما تعاونتُ مع عامل طلاء المينا في مدينة جلاسكو، وشاطرتُه سنوات من بحثنا كي يُساعدنا في طلاء الميناء طلاءً سلسًا خاليًا من العيوب. وأوكلت إلى نَقَّاش بنادقَ من ألمانيا مهمة تزيين أجزاء الساعة الميكانيكية بالنصوص والزخارف الدقيقة جدًّا التي يبلغ حجمها حجم حبة الأرز، على هيئة أوراق نبات الأَقَنتوس. فمشاركة أفكارك مع الزملاء المُختصِّين لهو أمرٌ مُحفزٌ على الابتكار والإبداع. ففي مهنة قد ينعزل المرء فيها تمامًا عن الآخرين، ينتعِش المرء عندما يعمل جنبًا إلى جنبٍ مع حرفيين متفانِين مِثله تمامًا.

figure
المِصباح الكحولي الزجاجي الذي يستخدِمه صانعو الساعات في تسخين الفولاذ.
figure
زخرفة على شكل أوراق نبات الأَقَنتوس على رقاقة الساعة الرئيسية. ظلَّ هذا النمط مشهورًا لمئات السنين، وهو جزء من تصميم ساعةٍ صنعناها مؤخرًا.
في القرن السادس عشر عمل أمهر عمَّال طلاء المينا والنقاشين والصائغين في مدينة بلوا٤ الفرنسية الصغيرة. شكَّل قصر بلوا مقرًّا رسميًّا للعائلة الملكية، وسعى الحِرفيون المحليون لنَيل رضا العائلة الملكية والنبلاء، الذين كانوا يَعتبرون هذه المدينة محلًّا ثانويًّا للإقامة. وهي المدينة المُصنِّعة للساعة الجمجمة. اكتسب هؤلاء الحِرفيُّون شُهرتهم الدولية من أعمالهم، بلا أدنى شك، كما ساهم في اتِّساعها تنقُّلهم الجبري في أنحاء أوروبا في فترة الاضطهاد الديني العنيف. ويغلِب على الظن أن ساعة ماري، التي هي رمز ديني قوي لامرأةٍ كاثوليكية تعيش في مدينة بروتستانتية مُعادية، صنعها حِرفي بروتستانتي في فرنسا الكاثوليكية المعادية للبروتستانتية بنفس الدرجة، وفي هذا من السخرية ما فيه.

كان الكثير من الحِرفيِّين الفرنسيِّين الاستثنائيِّين في تلك الفترة، بداية من الصائغين وعمال طلاء المينا في بلوا وانتهاءً بصنَّاع الساعات في باريس، من «الهوجونوتيون»، وهو الاسم الذي اشتُهر به أتباع جون كالفن، مؤسس الكنيسة الكالڤنية البروتستانتية، في فرنسا. اتسمت فرنسا الكاثوليكية، تحت حُكم كاثرين دي ميديتشي وأولادها، بعدائها الوحشي للبروتستانتية. وتتحمَّل الطبقة الأرستقراطية الكاثوليكية الحاكمة (التي تجمعها في معظمها عَلاقة رحِم أو مصاهرة بماري ملكة اسكتلندا رغم أن ماري نفسها كانت تؤمِن بمبدأ التسامُح بين المذاهب المسيحية وتدعو إليه) مسئولية دعم فظائع الكاثوليك التي إن حدثت اليوم لصُنِّفت تطهيرًا عرقيًّا وإبادة.

بدأت الأزمة بالنسبة للهوجونوتيين في ١٥٤٧، عندما قرَّر حَمُو ماري (والد زوجها)، ملك فرنسا هنري الثاني، التعامُل مع التهديد البروتستانتي بشكلٍ جذري، فحكم بالموت على ما يزيد عن خمسمائة من أتباع كالفن بتهمة الهرطقة. وفي سنة ١٥٦٢، التي تلت وصول ماري إلى اسكتلندا، أرسل عمُّها فرانسيس، القائد الحزبي الكاثوليكي ودوق جيز، جنودَه لتفرقة مجموعة من الهوجونوتيين، كانت تعقد قدَّاسًا دينيًّا محظورًا في بلدة فاسي. قاومهم الهوجونوتيون، فأمعن الجنود في قتلهم بالسيوف والبنادق الصغيرة، وأزهقوا حياة حوالَي ١٢٠٠ شخصٍ، كان من بينهم نساء وأطفال. حوَّلت المذبحة (التي تركت أصداؤها مشاعر سلبية لدى رعايا ماري الاسكتلنديين الجدد البروتستانتيين) اضطهاد الهوجونوتيين إلى حربٍ دينية شاملة. وفي أغسطس ١٥٧٢، أدَّى هجوم آخر، بقيادة جيز، إلى إزهاق حياة آلاف البروتستانتيين في مذبحة عيد القديس برثولماوس في باريس. وقُتل ما يصل إلى ١٠ آلاف شخصٍ في أعمال شغب مُماثلة في بوردو وليون وغيرهما من المدن الفرنسية. وخلال العَقدين التالِيَين من الاضطهاد، فرَّ آلاف الهوجونوتيين إلى أنحاء أوروبا. ولم يحمِل هؤلاء اللاجئون شيئًا سوى ملابسهم على أجسادهم، ومهاراتهم في عقولهم وبين أيدِيهم.

في المتحف البريطاني ساعةٌ لصانع ساعات فرنسي يدعى دافيد بوجيه، يعود تاريخها إلى سنة ١٦٥٠ تقريبًا، تشهد على هذه المهارة الأجنبية. وللساعة عُلبة مُستديرة صغيرة، مثل ساعة الجيب الكلاسيكية النمطية، يتجاوز عرضها ٤٫٥ سنتيمترات بقليل، ومُغطاة بطبقةٍ سوداء من المينا، تفترشها ورود كثيرة زاهية الألوان مَطلية بالمينا: ورود حمراء قانية، وأزهار بَنَفْسَج باللونَين الأزرق والأصفر، وأزهار تيوليب مرقَّطة، وفرِيتِيلارية حمراء وبيضاء مضلَّعة، تتَّصل فيما بينها بعريشةٍ حلزونية باللونَين الأصفر الذهبي والأخضر. وتزدان مقدمة العلبة، التي تُغطي ميناء الساعة، باثنتَين وتسعين ماسة، مُثبتة في مجموعاتٍ حول الأزهار. وقد قُطِّعت هذه الماسات القديمة، غير المنتظمة الشكل نسبيًّا، بطرازٍ يُطلق عليه «الوردة الهولندية». وتمتلك هذه الماسات وجوهًا أقلَّ بكثير من المُتعارَف عليه حاليًّا في الماس؛ إذ إن كثرة الوجوه يكون الهدف منها هو عكس أكبر قدْرٍ ممكنٍ من الضوء على الماسة، لذا تبدو هذه الماسات باهتةً إلى حدٍّ ما، ولكن ينبعث منها بريق رَمادي خفيف يُشبه حبَّات الماء المُتساقطة على غطاء مُحرك سيارة سوداء لامعة.

وهناك مزيد من العناصر الجمالية تنتظِر الرائي داخل العُلبة. فور أن تفتح علبة الساعة، سترى على الغطاء العلوي من الداخل مشهدًا ريفيًّا لمتشرِّدٍ يسير متكئًا على عصاه، مرسومًا بخطوط سوداء دقيقة، على خلفية سماء زرقاء فاتحة. وتظهر الأرقام الرومانية على ميناء الساعة باللون الأسود، داخل حلقةٍ بيضاء تُحيط برسم مُصغر ملوَّن لشخصين بملابس رومانية، يتحدثان وسط مشهدٍ من بحيرة إليزيان، بينما تُحلق الطيور فوق رأسيهما. بدت زخرفة الأجزاء الميكانيكية للساعة، على العكس من ذلك، بسيطة للغاية، ولكنها في الوقت نفسه شديدة الجمال. ويغلب على الظن أن عُلبة الساعة بأكملها قد صنعها الحِرفيون كاملةً في مدينة بلوا الفرنسية قبل إرسالها إلى لندن، حيث صنع لها بوجيه — صانع ساعات بروتستانتي وصل حديثًا من فرنسا — أجزاءً ميكانيكية تتناسب مع العلبة.

كانت جالية اللاجئين الهوجونوتيين مترابطةً متماسكة. وتَشارك أفرادها المعرفة والمهارات والحِرف مع أصدقائهم وورَّثوها للأجيال التالية. وتُعتبر عائلة دافيد بوجيه مثالًا دقيقًا على هذه العملية. وصل بوجيه إلى إنجلترا بحلول عام ١٦٢٢، وقُبِل في شركة لندن بلاكسميث في عام ١٦٢٨. وصار اثنان من أولاده، هما دافيد وسولومون، يعملان في مهنة صناعة الساعات. وتدرَّب ولده الثالث هكتور على يد قاطع ألماس هوجونوتي يدعى إيزاك ميبرت/موبيرت، الذي انتهى به الأمر بالزواج من ماري ابنة بوجيه. وتزوَّج أخو إيزاك، نيكولاس، من ابنة بوجيه الأخرى سوزان، بينما تزوَّجت بنت أخرى من بنات بوجيه، تُدعى مارثا، من جواهرجي (إيزاك روميو). لذا لن يكون من المُستبعَد أن تكون الماسات المستخدمة في ساعة بوجيه السوداء قد قُطِّعت في ورشة زوج ابنته.

وَصف أهالي لندن الهوجونوتيين ﺑ «المُتحررين» أو «الأغراب» في كثيرٍ من الأحيان، ولم يرحبوا بوجودهم دائمًا. وفي سنة ١٦٢٢، شعر صانعو الساعات الإنجليز بقلقٍ شديد من الوافدين الجُدد، فتقدَّموا بعريضة لجيمس الأول يُطالبون فيها بمنعهم من التجارة في المدينة وتأسيس نقابة مهنية لصانعي ساعات الحائط والجيب. فأُنشِئت النقابة المبجلة لصانعي الساعات في ١٦٣١، ومع ذلك لم يتعرَّض الهوجونوتيين للإقصاء منها فعليًّا. وفي سنة ١٦٧٨، حاولت النقابة المبجلة للصاغة — بسبب تذمُّرها من إضرار الهوجونوتيين بالعمال الإنجليز وبتجارتهم — منع الحِرفيين البروتستانت من العمل في أماكن مُعينة، ومِن تلقي التدريب الحِرفي الذي مُدته سبع سنوات، والذي كانوا يحصلون بموجبه على عضوية النقابة. وفي الوقت نفسه، وظَّف الكثيرون من المُشاركين في الحملة المناهضة للحِرفيين الفرنسيين أبناءَ الهوجونوتيين، وصار معتادًا بين الحِرفيين البريطانيين إرسالُ أبنائهم للتدرُّب على يد مُعلِّم من الهوجونوتيين أو اتخاذهم متدربًا من الهوجونوتيين لأنفسهم. ولا بد أن حياة بوجيه كانت مليئةً بالتقلبات: فتارة كان يعمل مع رعاةٍ أثرياء يُعجَبون بعمله ويحترمونه ويُقدرونه؛ وتارة أخرى يجد نفسه يُسَبُّ في الشارع ﺑ «الكلب الفرنسي» (أو أسوأ من ذلك).

أحدث ظهور حركة البروتستانتية الإصلاحية تغييرًا ملحوظًا في طبيعة الساعات. كان أوَّل ما اختفى هي علامات التباهي بالثراء الفاحش. فإذا كان صنَّاع الساعات الكاثوليك يُمجدون الرب بالزخارف المُعقَّدة، وجدها البروتستانتيون الإصلاحيون تُلهيهم عن تمجيد الرب تمجيدًا يليق بذاته. وذهب جون كالفن لأبعد من ذلك وحرَّم على أتباعه ارتداء المجوهرات. فدفع ذلك، على عكس ما هو مُتوقَّع، الكثير من تجَّار المجوهرات إلى صناعة الساعات، وهو ما أدَّى إلى ازدهار صناعة المشغولات الذهبية الدقيقة وطلاء المينا وتزيين الساعات السويسرية بالأحجار الكريمة.٥

في إنجلترا البروتستانتية، شهدت الحروب الأهلية في أربعينيات القرن السابع عشر، وحكم أوليفر كرومويل في خمسينيات القرن نفسه، محاولة التطهيريين «تطهير» كنيسة إنجلترا من كل مظاهر الكاثوليكية الرومانية، التي شعروا أنها لا تزال حاضرةً بقوة تحت حكم تشارلز الأول. وانتُقدت الملابس المُبهرجة لأنها تفوح ﺑ «البابوية الكاثوليكية والشيطانية»، واعتُبرت رمزًا للتفاخُر واستثارة الشهوة. وتعرضت كل مظاهر الزينة للهجوم، من اللحية المعقوفة والعطور المستوردة، إلى أطواق الرقبة والحُلل الضيقة. كما أن الشعر المُستعار المخلوط بالمساحيق، الذي شهد رواجًا كبيرًا في عهد تشارلز الأول، لم يعُد يلقى استحسانًا مثلما كان من قبل. وارتدى التطهيريون ثيابًا متواضعة، ألوانها بسيطة، ذات أساور وأطواق كتَّانية بيضاء (كانت في بعض الأحيان تُصنع من القماش المنسوج في البيت بلا زركشة أو أزرار)، وصفَّفوا شعرهم ببساطةٍ بلا تجعيدات.

figure
ساعة فِضية نمطية انتشرت في عصر التطهيريين وتبدو بسيطةً وخالية من الزخارف. وهي مُناقضة تمامًا لساعات العصور السابقة ذات الأشكال المميزة.
كانت الساعات في ذلك الوقت قد أصبحت أدواتٍ لا غِنى عنها، حتى إن التطهيريين الصارمين لم يشاءوا التخلِّي عنها (كان كرومويل نفسه يمتلك ساعة فيما يبدو). لكنها أصبحت أقلَّ تعقيدًا مما مضى أيضًا. واتَّسمت بصِغر حجمها النسبي — تبلُغ حوالَي ثلاثة سنتيمترات عرضًا وخمسة سنتيمترات طولًا — وشكلها البيضاوي في كثيرٍ من الأحيان. وخلَتْ من الزخارف والزينة ولم تحتوِ على أحجارٍ كريمة ولا زهور الفرِيتِيلارية. وصُنعت عُلبها من الفضة عادةً — لأن الذهب فيه من الإسراف ما فيه —٦ واتَّسمت ببساطتها الشديدة، فكانت أشبَهَ بالحصى المُلقى على الشاطئ في نعومة سطحه وبريقه الخافت. كما كان الميناء المُختبئ داخل الغطاء الأمامي بسيطًا باستثناء الحلقة الوظيفية التي تُشير إلى ساعات اليوم بعقربٍ واحد فحسب.

أظهرت الساعة، بشكلِها البسيط الجديد، فهمًا للوقت يختلف تمامَ الاختلاف عن ساعة الجمجمة التي افتتحتُ بها هذا الفصل. رأى البروتستانتيون الوقت هبةً من الرب؛ وإهداره خطيئة من الخطايا. وآمنوا أن النعيم في الحياة الأخروية يتطلَّب حُسن استغلال الوقت في الحياة الدنيوية. وأعلَتْ قيَمُ التطهيريين من شأن الإحساس بالمسئولية ومراقبة النفس والعمل الجاد والكفاءة. فلا يُوجَد ما يُسمَّى بوقت الفراغ في يوم التطهيري، بل الوقت لا بد من بذلِه لخدمة الرب فحسب. وزُعِم أن «قضاء الوقت في الأنشطة الترفيهية هو نوع من السرقة أو خداع السيد.»

في عام ١٦٧٣، نشر قائد الكنيسة التطهيرية المؤثر ريتشارد باكستر كتابه «الدليل المسيحي»، ليُرشد المؤمنين لكيفية إدارة المسيحي الصالح لوقته، فقال:

«الوقت هو فرصة الإنسان لأداء الأعمال التي يعيش من أجلها، ويتوقَّع خالقُه منه تحقيقها، وتعتمِد عليها حياته الأبدية، ولا بد أن تحظى عملية إصلاحه أو تحسينه بأهميةٍ قصوى عنده؛ لذا فقد أحْسنَ القديس بولس عندما جعل الوقت أكبر علامةٍ تُميِّز الحكيم من الأحمق.»

كانت إدارة الوقت نوعًا من الورع فيما يبدو. كتب باكستر: «أحد أعظم الخطايا المُضيعة للوقت هي البطالة أو البلادة» وأدان ذلك عندما قال:
«ذلك (الذي) يقضي وقته في التمنِّي عبثًا: يستلقي في فراشه أو يجلس بلا عملٍ ويرجو أن يكون بذلك كادحًا؛ يُربِّي شحمه ويرجو أن يكون بذلك صائمًا؛ يلهو ويتبع شهواته ويُرجو أن يكون بذلك مُتعبدًا يحيا حياة الزهاد. يترك قلبه يلهث خلف الشهوة أو التفاخُر أو الطمع ويرجو أن يكون بذلك في حالة يقظة عُلويَّة.
… تأكد أنك تسير في الحياة بحذَر، يقول الرسول … وأنتَ تستغل الوقت؛ فتدَّخِر ما يُمكنك ادِّخاره من الوقت لأفضل الغايات؛ وتستنقِذ كل لحظةٍ من الخطيئة والشيطان، من البطالة والرغد والمتعة والشئون الدنيوية.»

قضيتُ جزءًا كبيرًا من حياتي أشعر بالذنب؛ لأنني لا أعمل بجدٍّ وأنام لساعاتٍ طويلة. حتى في أيام العطلة، أبذلُ جهدًا كبيرًا لأتمكن من الاسترخاء، لأنني أشعر بالذنب من عدَم العمل. وأشكُّ أن أسلافي القدماء، وهم في الكهوف ينحتون مُخططات النجوم، انتابهم ذلك الشعور الحاد بالخزي عندما كانوا يلتقِطون أنفاسهم للحظات. إن الإحساس بالذنب المرتبط بالوقت مُتجذرٌ في التكيف المجتمعي. فالنوم لساعةٍ متأخرة صباحَ يوم الأحد لن يُحدث فارقًا كبيرًا في أي شيء. كما أن اختلاس المرء بضع لحظاتٍ نفيسة في عناق طفله، أو توقُّفه في الحديقة للتنعُّم بملاطفة أشعة الشمس لوجهه، قد لا يؤدي إلى إنجازه عمله أو انتهائه من غسيل الأطباق؛ لكن الإحساس بالذنب الذي ينتاب الكثيرين بشأن هذه الأنشطة لا يتناسَب أبدًا مع أثرها في كثيرٍ من الأحيان. ثمة شيء ما في تاريخنا الثقافي قد بثَّ في نفوسنا الشعور بالخِزي عند عدم العمل. ولا أستطيع منع نفسي، عند قراءة ما كتبه باكستر عن الأخطار الفتَّاكة للاستمتاع باللحظة، من الاعتقاد أنه كما واصلت الشعائر الكاثوليكية تأثيرها فيَّ، تجري الحركة التطهيرية التي ظهرت في القرن السادس عشر فيَّ مجرى الدم. ورغم تهميش هذا التفسير المُتشدِّد للمسيحية لأكثر من ٣٠٠ عام، إلا أن تعاليمه لا تزال تتخلَّل إحساسنا بالوقت. لقد رسم التطهيريون بداية نهاية «التوازن بين العمل والحياة».

لم تعشْ كومونولث كرومويل التطهيرية فترةً طويلة. فبعد وفاة كرومويل في سنة ١٦٥٨، وتولِّي ابنه ريتشارد سُدَّة الحكم لأقلِّ من عام، عاد العرش الإنجليزي للملك تشارلز الثاني. وأعقب ذلك ظهورُ ساعات فاخرة كما هو متوقَّع. كان الملك تشارلز الثاني مُحبًّا كبيرًا لفن صناعة الساعات. واحتفظ بما لا يقلُّ عن سبع ساعاتٍ في غرفة نومه — أصابت دقَّاتها غير المُتزامنة مساعِديه بالتشتُّت — وساعة أخرى في بهو الدخول تُسجِّل اتجاه الرياح. وبمرور الوقت، وازدهار صناعة الساعات، أصرَّ أن يكون أولَ شاهد على أحدث اختراعات الساعات.

وفي فرنسا، مَنح «مرسوم نانت» في ١٥٩٨، الذي وُقِّع عند تولِّي الملك هنري الرابع الحكم، الهوجونوتيين بضع سنواتٍ من السلام النسبي. لكن بحلول ثمانينيات القرن السابع عشر، تجدَّدت حملة تطهير فرنسا من البروتستانتية، رغم تعهُّد الملك لويس الرابع عشر بالالتزام بالمرسوم. وتزايدت صعوبة الحياة بالنسبة للهوجونوتيين مع إجبارهم على تغيير المُعتنق الديني، ونشر الأكاذيب، وفصل أطفال الهوجونوتيين عن عوائلهم، وهدم المعابد البروتستانتية. وفي نهاية المطاف، في عام ١٦٨٥، انهار المرسوم «المُستمر وغير القابل للإلغاء». وتلا ذلك رحيل الهوجونوتيين للمرة الثانية. فرَّ ما بين ٢٠٠ ألف و٢٥٠ ألف شخصٍ بحياتهم، في السنوات التالية لإلغاء المرسوم، بينما تخلَّى حوالَي ٧٠٠ ألف عن مُعتقدهم الديني وتحولوا إلى الكاثوليكية. وتوجَّه معظم اللاجئين إلى جمهورية هولندا، وكانت بريطانيا هي ثاني أكثر بلدٍ توجَّه إليه اللاجئون بعد هولندا، حيث فرَّ ما بين ٥٠ ألفًا إلى ٦٠ ألفَ لاجئ، بحسب التقديرات. كما قدَّمت سويسرا ملاذًا آمنًا لعددٍ كبير من المُستوطنين الهوجونوتيين. لعب هؤلاء المهاجرون الهوجونوتيون دورًا مركزيًّا في تطور صناعة الساعات في المملكة المُتحدة وسويسرا على حدٍّ سواء، ولا يزال تأثيرهم يتردَّد صداه إلى يومِنا هذا. وتهيأت لندن للعصر الذهبي لصناعة الساعات، نظرًا لعشق الملك في ذلك الوقت للساعات، بالإضافة إلى توافُد أعدادٍ هائلة من أصحاب المواهب والمهارات في هذا المجال.

هوامش

(١) ماري سيتون، إحدى «السيدات الأربعة باسم ماري» اللاتي تمتعن بشهرةٍ كبيرة والتزمْنَ صحبة ماري ملكة اسكتلندا من دولة اسكتلندا إلى فرنسا في طفولتها، لم تكن حاضرة معها في فترة سجنها الأخيرة، لذا افتُرض أن ماري تركت الساعة لخادماتها، مع غيرها من المُمتلكات الشخصية مثل المجوهرات والخطابات واللوحات الشخصية الصغيرة، وأمرتهنَّ بتوزيعها بعد أن يُطلَق سراحُهن في نهاية المطاف.
(٢) تُعَدُّ النقابة المبجلة للصاغة إحدى النقابات الغنية في لندن ولا تزال لدَيها العديد من العقارات في جميع أنحاء المدينة.
(٣) في عام ١٩٧٦ اندمج متحف لندن مع متحف جيلدهول، وصار متحف لندن الحالي، حيث يُحتفظ ﺑ «كنز تشيبسايد».
(٤) لقد تمتعت مدينة بلوا بعلاقاتٍ وطيدة مع آل ميديتشي. وعاشت كاثرين دي ميديتشي في قلعة بلوا، إلى أن قضت نحبها في سنة ١٥٨٩.
(٥) وجد صنَّاع الساعات في جنيف، الذين يُريدون صناعة ساعات معقدة الزخارف، أسواقًا خارج البلاد لأعمالِهم. ويغلِب على الظن أن الساعة الفضية الصغيرة، على هيئة أسدٍ بحجم الجيب، التي صنعها جان المعمدان دوبول، في سنة ١٦٣٥ تقريبًا، قد صُنعت لتُباع في القسطنطينية في الإمبراطورية العثمانية.
(٦) ومع ذلك، جدير بالذكر أنه عُثِر على نماذج نادرة من الساعات الذهبية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤