العصر الذهبي
تدلى من جيب الساعة الأيمن سلسلة فِضية رائعة، مُعلَّقة فيها أداة عجيبة … سمَّاها وسيطَ الوحي، وقال إنها تُشير إلى وقت كل فعلٍ من أفعال حياته.
أول ما يجب أن تفعله، كمتدرِّب على صناعة الساعات، هو صناعة أدواتك الخاصة. من المنطقي، قبل أن تقترِب من الأجزاء الميكانيكية السهلة التلَّف لأي ساعة، أن تبدأ بصناعة أداة متينة ستُساعدك على المدى البعيد. كان أول مشروع نفَّذتُه، في الدورة التدريبية التي يُعطيها «المعهد البريطاني لعلوم قياس الزمن» على مدار ثلاث سنوات، هو صنع «خطاطة/قطَّاعة خاصة». وهي عبارة عن عصا فولاذية، تُشبه القلم الرَّصاص، تؤدي وظيفتين مختلفتين. هذَّبت أحد طرفيها ليكون مِثل مفك البراغي مسطح الرأس، لكنه حادٌّ جدًّا (الخطاطة)، والطرف الآخر ليكون له ثلاثة أوجه تتضافر في قمَّتها (القطَّاعة). وسنستخدِم هذه الأداة فيما بعد ﻟ «حفر» الأسطح المعدِنية وتشكيل تجاويف صغيرة جدًّا تُحدِّد موضع حفر المِثقاب. فصنَّاع الساعات يحتاجون إلى إحداث الكثير من الثقوب.
استخدمنا أداتنا الأولية للمساعدة في صناعة أداتنا التالية وهي حامِل الآلية الميكانيكية للساعة. يُمكنك استخدام هذه الأداة، مِثل الملزَمة متناهية الصغر، لحمل آلية الساعة في أثناء مُعالجتها. وكان لا بد من أن نَبْرُد الحامل يدويًّا وَفقًا لرسمٍ تقني دقيق، وأن تكون أداتنا النهائية دقيقةً مع هذه الأبعاد بنسبة خطأ لا تتجاوز ثلاثة أعشار المليمتر. وتُسمى هذه النسبة الضئيلة للخطأ نسبة التفاوت المقبول. شعرت وقتها أنها مُتناهية الدقة، لكنني أدركتُ بعدئذٍ أنها لم تكن سوى مقدمة مستوى المُبتدئين إلى العالَم المجهري لصناعة الساعات. ففي هذه الأيام، تبلغ نسبة التفاوت المقبول في بعض الأحيان الميكرون؛ أي جزءًا من الألف من الملليمتر الواحد.
بهذه الطريقة، سرْنا في التدريب رويدًا رويدًا، ولم نلمس الأجزاء الميكانيكية لساعة جيب حقيقية (تعاملت معها على حاملي الجديد الذي صنعته بيدي) لأوَّل مرة إلا بنهاية السنة الدراسية الأولى. كان العديد من زملاء الصف قد تركوا الدورة التدريبية حينها، إذ تملَّكهم الضجر من العمل بالمَبَارد والقطع المعدِنية الصغيرة لمدة ما يقرُب من السنة. أما أنا، فكانت صناعة الحامل بالنسبة إليَّ شكلًا من أشكال صياغة المشغولات الفِضية والمجوهرات، لكن بطريقةٍ أكثر دقة، لذا أحببتُها. ومع ذلك لم أستطع مقاومة الرغبة وأضفتُ زخرفة لهذه الأداة الأساسية. فزيَّنتُها بطبقة أخيرة حُبيبية بفرشاة خدش، وهي مهارة تعلَّمتُها من صياغة الحليِّ (بدلًا من الطبقة الحُبيبيَّة المُستقيمة الخطوط التي هي الطريقة «التقليدية» المُستخدَمة في أدوات صناعة الساعات). وطليتُها بالذهب، وطلبتُ من قاطع الأحجار الكريمة قطع قطعة لازورد ثبَّتها، بعد ذلك، داخل زرِّ ملء الساعة الذي يُمكن لفُّه لفتح وإغلاق جانبي الساعة. كان هذا مشروعي الثاني، وكنتُ أقوم بالفعل بأشياء لم تُطلَب مني.
لم يكن تعلُّم هذه المهنة أسهل بأي حالٍ من الأحوال في القرن الثامن عشر. كان التدريب المِهني على صناعة الساعات، وهو شرط قانوني للعمل في المجال في مدينة لندن، يستغرق سبع سنوات من الضغط الرهباني (إذ لم يكن مسموحًا للمُتدرِّبين بالزواج في أثناء الفترة التدريبية). وقد يُتبع بسنتَين أو ثلاثٍ من العمل كعاملٍ مُحترف، لتُصقل مهاراتك إلى حين الانتهاء من «تُحفة فنية» — صناعة ساعة كاملة من الصفر — تمنح مُبتكرها لقبَ صانع الساعات.
كان هناك طلب كبير على أفضل صنَّاع الساعات، الذين يتمتعون بالبراعة الفائقة والإبداع، وبدءوا يستمتعون بعلو المكانة والشهرة. كان هذا العصر الذهبي لصناعة الساعات الإنجليزية، حيث تبادل صنَّاع الساعات الأوروبيون الأمهر الأفكارَ وتنافسوا في تطوير دقة الساعة وتعقيدها. كان الكثيرون من صنَّاع ساعات الحائط وصنَّاع ساعات الجيب واليد المشهورين، آنذاك، يعرف بعضهم بعضًا، من خلال النقابة المُبجلة لصانعي الساعات، وهي نقابة مهنية أُنشئت في ١٦٣١. وقد وجدتُ في الوثائق المحفوظة لتلك الحقبة التاريخية، أسماء صنَّاع الساعات العظماء مُدرجةً معًا في قائمة تحمِل أسماء كل نوابغ هذه الصناعة: توماس تومبيون، الذي يُطلَق عليه «أبو صناعة ساعات الحائط الإنجليزية»، والذي تعاون مع روبيرت هوك لصناعة أوائل الساعات التي بها نوابض توازن؛ وجورج جراهام، تلميذ تومبيون وخليفته (تزوَّج بابنة أخيه إليزابيث تومبيون)، الذي عندما وجد مُتسعًا من الوقت، بعد صناعة أدوات علمية لإدموند هالي، اخترع ساعة شمسية وأحدث تطوُّرات كبيرة في تصميم البندول؛ ودانيال كوار خبير الساعة الدقَّاقة؛ وتوماس مادج الذي عمل مساعدًا لجورج جراهام فيما مضى، وصانع الساعات الملَكي للملك جورج الثالث، وكانت عجلة الانفلات ذات الذراع التي ابتكرها اختراعًا ثوريًّا. هؤلاء هم مشاهير عالم صناعة الساعات، ويُخيَّل إليَّ لو أن ورشةً من الورش وظفتهم جميعًا ستصير مثل فريق الدوري المُمتاز الخيالي لكرة القدم. وفي قرنٍ شهد اختراع البيانو والمحرك البخاري ومنطاد الهواء الساخن ودولاب الغزل والسفينة البخارية، أثبتت الساعات كونها على مصاف هذه الاختراعات، وأثبتت أهميتها في مُعالجة بعض قضايا العصر العلمية الملحَّة.
في بداية القرن الثامن عشر، توفرت آلات قياس الزمن ماديًّا — وإن لم يكن من اليسير شراؤها دائمًا — وأصبحت معروفة لدى الناس. وأصبح لدى غالبية الأبرشيات ساعة عامة في أبراج الكنائس، وبدأت ساعات الحائط تظهر في الفنادق والمدارس ومكاتب البريد والملاجئ. وبحلول نهاية القرن عُلقت ساعات الحائط في جميع البارات والحانات عَبر الجُزر البريطانية. وأينما سار المرء في شوارع المدن، مثل لندن أو بريستول، كانت هناك ساعة دائمًا في مرمى سمعِه أو بصره. وكثُر ظهور ساعات الحائط في أماكن السُّكنى وألِفَ الخدم رؤيتَها رغم عدم مَقدرتهم على شرائها لضِيق ذات اليد. وكان مَن يقدر على شراء ساعة منزلية يضعها عادةً في المطبخ، وهو أحد الغُرَف القليلة الموجودة بكل بيت، بغضِّ النظر عن ثروة المالك وطبقته الاجتماعية.
لم يدخل مفهوم الزمن الوعي الجماهيري فحسب، بل أثار جدلًا فلسفيًّا حادًّا. وفي الوقت الذي نظر فيه إسحاق نيوتن للزمن على أنه «مطلق، وحقيقي، ورياضي»، زعم آخرون، مثل ديفيد هيوم وجون لوك، أنه نِسبي، أي يعتمد على تصوُّر الآخرين له (اشتهر تطور هذه الأفكار في القرن العشرين عَبر نظرية النسبية لأينشتاين). وخلال تلك الفترة، عبث لورانس ستيرن، في تُحفته الفنية «حياة وآراء النبيل تريسترام شاندي»، مع الزمن مازحًا وصنع سردية يتقلَّص فيها الزمان ويتمدَّد ويعود إلى الوراء ويسير إلى الأمام.
«أوه، يا إلهي! كم من الحماقات الشبابية والطفولية لا تزال عالقة بي حتى أنني لم أُطق ألا أحمِل ساعتي الجديدة في يدي طيلة فترة ما بعد الظهيرة في العربة وكنتُ أتفقَّد الوقت مائة مرة؛ وأجد نفسي أُفكِّر كيف أمضيتُ كل هذا العمر بلا ساعةٍ؛ غير أنني أتذكر عندما حصلت على واحدةٍ، ووجدتُها مُزعجة، فقررتُ ألا أحملها مرة أخرى ما دمتُ حيًّا.»
بعد مرور شهرين كانت ساعة جيبه عند مُصلح الساعات. كان مستوى الدقة، بالنسبة للساعة، لا يزال قيد التحسين.
كانت مدينة لندن القلب النابض لعالم صناعة الساعات في تلك الفترة. في عام ١٦٦٥، أهلك وباء الطاعون سكان مدينة لندن (فقد قتل ما يصل إلى ١٠٠ ألف شخص في غضون ثمانية عشر شهرًا، وهو ما يقرُب من ربع سكان المدينة آنذاك)، لكن الحرفيين الهوجونوتيين الفارِّين من إلغاء مرسوم نانت في سنة ١٦٨٥ زادوا من تعداد السكان. وبحلول القرن الثامن عشر، كانت ورش صناعة الساعات في إنجلترا مكونةً عادةً من جماعات صغيرة من الحرفيين الماهرين والمُتدربين، يقودها ربٌّ من أرباب الصناعة، وتُعاونها العديد من الورش الحرفية المحلية الأخرى مثل ورش المشغولات الذهبية والنقش وصناعة السلاسل والنوابض. عندما أُفكك ساعةً من تلك الحقبة، أجِدني أَعُدُّ في معظم الحالات حتى أربعة أو خمسة أو أكثر من ذلك من أختام الصنَّاع والتوقيعات الأخرى المُخبَّأة في كافة أرجاء الآلية بالداخل والخارج. على غرار ذلك أربط في عقلي بين المُستعمرات الإبداعية التي كانت موجودة في مراكز صناعة الساعات مثل منطقة كليركينويل في لندن، وبين ساعات الجيب أو أجزائها التي تنقَّلت بين عدة ورشٍ، جميعها لا تبعُدُ سوى بضعة شوارع عن بعضها البعض. وعند مراجعة الخرائط القديمة، والبحث عن عناوين الصنَّاع المُسجَّلين، أُلاحظ حتمًا وجود حانة أو نُزل في المُنتصف في كثير من الأحيان، وأطرب لفكرة اجتماع الحرفيين حول أكواب الجِعَة في حانة مليئة بالدخان لمناقشة الأعمال وتبادُل الأفكار. ولا تزال مثل هذه التجمُّعات باقية في حي المجوهرات في برمنجهام حيث أعمل اليوم. ولو لم يعُد فتيان الحي يركضون في الطريق بعربات اليد المكدَّسة بالحُليِّ الذهبية إلى مكتب الفحص لدمغِها فإننا الصانعين لا نزال يقابل أحدُنا الآخر. نحن على دراية بأعمال بعضنا البعض ونرغب في بعض الأحيان في اللقاء لاحتساء كوبٍ كبير من الجِعَة.
كانت أدوات صناعة الساعات ومكونات الساعة، ثم لاحقًا آليات الساعة كاملة (إلا أنها لا تزال غير موضُوعة في إطار وغير جاهزة للبيع بالتجزئة)، تُصنع في كثيرٍ من الأحيان في ورش مقاطعة لانكشر، تحديدًا في أَبْرَشِيَّة بريسكوت، على بُعد ثمانية أميال من ليفربول شرقًا، حيث إن وفرة مخزون الفحم، وتجذُّر معالجة المعادن في تلك المنطقة منذ فترات بعيدة، وتَوفُّر شبكة نقل جيدة إلى مدينة لندن، شجَّعت صناعات ورش التوريد الصغيرة، لكن تمركزت في لندن أكثر فروع التجارة تطورًا.
في خارج مدينة لندن كان من النادر أن يُنهي صنَّاع الساعات والأدوات تدريبهم المهني الكامل، لكن في داخلها خلق نظام التدريب المهني المُحكم التنظيم فرصًا ثمينةً لصانعي الساعات المُتدربين الذين حالفهم الحظ في العثور على وظيفة داخل ورش صناعة الساعات. وكانت من عادة صناع الساعات المُحترفين، والمُتدربين الرسميين لديهم، التجول في المدن المختلفة وتوسيع شبكتهم من الداعِمين الماليين المُحتملين. واعتمد ثمن الساعة على الطبقة الاجتماعية لصانِعها مثلما اعتمد على جودتها، وهو الأمر الذي منح صانعي الساعات (والمُتدربين الرسميين لديهم) المُنحدرين من عائلات ثرية الفرصة لتحقيق نجاح أكبر منذ البداية. بمعنى أن الصانع أو المتدرِّب لا يجني المزايا من تعلُّم الحرفة فحسب، بل من شبكة المعارف التي يكوِّنها في أثناء ذلك.
وصل توماس مادج البالغ من العمر خمس عشرة سنة، وابن ناظر مدرسةٍ في مقاطعة ديفون، إلى لندن ليتدرَّب على صناعة الساعات على يد صانع ساعات الجيب والحوائط الشهير جورج جراهام في ربيع عام ١٧٣٠. وفور أن حصل على رُخصته من النقابة المُبجلة لصانعي الساعات في عام ١٧٣٨، استأجر منزلًا وقضى الجزء الأول من مسيرته المِهنية متواريًا عن الأنظار، يصنع الساعات الشديدة التعقيد بتكليفٍ من صنَّاع الساعات الآخرين، ويوقِّع عليها بأسمائهم، وهو عُرْفٌ مُتَّبع في ذلك الوقت. ولربما واصل على ذلك النحو إلى أن يشاء الله لولا الساعة التي صنعها لأحد أعلام صناعة الساعات في تلك الفترة وهو جون إليكوت. فالساعة التي كانت توضح معادلة الوقت (الفرق بين اليوم الشمسي الحقيقي الذي يختلف باختلاف موضع الشمس واليوم الشمسي العادي أو المتوسط) بالإضافة إلى مجموعة من المؤشرات التقويمية الأخرى، بِيعت للملك فرناندو ملك إسبانيا. لكن، بحسب ما يُقال، أسقط أحد روَّاد البلاط الملكي الساعة على الأرض، وأحدث بها ضررًا كبيرًا أدى إلى إعادتها إلى جون إليكوت الذي عجز عن إصلاحها. وجد إليكوت نفسه مُضطرًا لإرسالها إلى صانعها الحقيقي مادج الذي أجرى عليها الإصلاحات اللازمة. عندما وصل الأمر إلى الملك فرناندو، أصرَّ على تكليف مادج مباشرة في المستقبل. وساهم دعم الملك ورعايته لمادج في تحويلِه من رجل مغمور إلى صانع ساعاتٍ ذائع الصيت، فشجَّعه ذلك على الإقدام على تلك الخطوة الكبيرة وافتتاح ورشته الخاصة في «ذا دايل آند وان كراون» في فليت ستريت في عام ١٧٤٨.
إن الرسائل المُتبادلة بين مادج وواحد آخر من رُعاته، وهو الكونت فون برول، رجل سياسة بولندي ساكسوني اشتهر بامتلاكه لأكبر مجموعة ساعات في أوروبا، تُعطينا فهمًا أعمق للعَلاقة الموجودة بين الرعاة والحرفيين. كان الاثنان على اتصالٍ دائم في أثناء عملية صناعة الساعة. وفي رسائله لفون برول وصل مادج إلى مستوًى مُدهش من التفصيل التقني وهو يناقش المبادئ الهندسية والخاصة بالمواد المُستخدَمة ومعاملات درجة الحرارة وغيرها من التحدِّيات التقنية التي واجهها. كان التكليف بصناعة ساعة، بالنسبة لكثيرٍ من رعاة صناعة الساعات، يتعدى مجرد شراء غرض من الأغراض الجميلة؛ إنه عَلاقة ديناميكية بين الراعي والحرفي، إذ يشارك الراعي في عملية الصناعة بقوة مثلما يفعل عندما يصِل المُنتَج إلى شكله النهائي. وكان الراعي يرغب في كثيرٍ من الأحيان في الإلمام بآليات تشغيل الساعة وفي الشعور بأنه جزءٌ من عملية صناعتها.
في ورشتنا لا يزال انخراط جامعي الساعات والرعاة سمةً مميزة لعملية صناعة الساعات. إن العمل وفقًا لطلب العميل لا يمنحنا فرصة الوفاء بالتعليمات المُحدَّدة فحسب، بل معالجة أي طلبات أو تعديلات ضرورية في أثناء صناعة الساعة. فقد أعدنا إنتاج تيجان التعبئة وأدخلنا التعديلات على أحجامها لتتناسَب مع مواصفات الرسغ لعملائنا، كما سهَّلنا استخدامها في حالة إصابة العملاء بالتهاب المفاصل ومعاناتهم مع تعبئة الساعة، وأيضًا ألحقنا بها بعض التغييرات بحسب رغبتهم في ارتدائها في اليد اليُسرى أو اليُمنى. كما عدَّلنا نسق الألوان ومقاديرها لتحسين الرؤية، وصمَّمنا إطارات الساعات وأعدنا تصميمها مرارًا وتَكرارًا للعملاء الذين يُخبروننا بملاحظاتهم حول تجرِبتهم مع الساعة مقارنة بما لديهم من ساعاتٍ أخرى. إن مشاركة العميل في العديد من القرارات الصغيرة التي هي جزء من العملية الإبداعية لهو أمر في غاية النفع بالنسبة إلينا، كما يمنح عملاءنا الفرصة ليكونوا جزءًا من ورشتنا. وبذلك يصيرون جزءًا من المنتج النهائي بنفس قدْرِ أيدينا.
إن الراعي أو جامع التُحف أو الساعات الذي يطلب صناعة ساعة بعينِها يُوسِّع مداركنا نحن صانعي الساعات. هذا لأنه من التحدِّيات التي تُواجه صانعي الساعات هي أنهم لا يربحون أموالًا كافية لشراء الساعات الثمينة التي يصنعونها إلا فيما ندر. والنتيجة هي أنهم لا يَميلون للحصول على تشكيلةٍ كبيرة من الساعات لأنفسهم، ولو حدث فإنه ليس بنفس قدْر الرعاة. لهذا السبب فإنني أجد مُساهمات عملائنا في غاية الأهمية؛ هم بالخارج، في العالم الحقيقي، يبحثون عن القطع النادرة؛ يعلمون ما القطع التي يجِب اختيارها ولماذا، وما القطع التي تتطلَّع النفس لامتلاكها في الحقيقة واستخدامها بصورة يومية.
في عصر مادج كان الراعي أيضًا حريصًا على أن يقرِن اسمه بآخر التطوُّرات العلمية. وقد أدَّت العَلاقة بين مادج وفون برول إلى عملية شراء أجراها الملك جورج الثالث، الذي طلب من مادج، في سنة ١٧٧٠، صناعة ساعة لزوجته الملكة شارلوت، امتازت بأقدم نموذج معروف لاختراع مادج الفريد من نوعه، وهو عجلة الانفلات ذات الذراع المُنفصلة. اتسم الملك، مثل فون برول، بولَعِه بساعات الجيب وساعات الحائط التي يأمُر بصناعتها، وكان هو نفسه صانع ساعات هاويًا. هناك مخطوطات في المجموعة الملكية مكتوبة بخط الملك نفسه، يصف فيها عملية جمع وتفكيك الساعات. وكانت الملكة شارلوت أيضًا جامعة ساعاتٍ نهمة. تحكي صديقتها كاتبة المذكرات اليومية، كارولين ليبي بوويز، عن رؤيتها ﻟ «خمسٍ وعشرين ساعة مُزدانة بالجواهر»، في صندوق يقبع بجوار فراش الملكة في قصر بكينجهام في عام ١٧٦٧. ولا يسعني إلا التفكير في حقيقة أنها أبقت مجموعتها على مثل هذا القُرب منها، تنام بجوارها كل ليلة وتستيقظ كل صباح. لقد أحبَّت الملكة شارلوت ساعاتها بلا شك.
إن أكبر أعداء دِقة الساعة هو الاحتكاك إذ يعبث بعامل الدِّقة في عجلة الانفلات. في عجلة الانفلات ذات المحور الدوَّار المُسنَّن كانت عجلة التوازن المتأرجِحة تُعشَّق مع مجموعة التروس بصورةٍ شبه دائمة مولدةً احتكاكات متفاوتة. فكان الابتكار العظيم الذي أتى به مادج هو اختراع عجلة انفلات «منفصلة» عن عجلة التوازن. وتعمل ذراع العجلة عند تأرجُحها يَمنةً ويَسرة بواسطة مسمار مُثبَّت في الجانب الخفي من عجلة التوازن المُتأرجحة. وعندما تتأرجح العجلة، والمسمار خلفها، يمنةً ويسرة فإنها تُحرِّك أحد طرفي الذراع الارتكازية معها. أما الطرف الآخر من الذراع فإنه يحتوي على سقاطتَين تُمسكان أسنان عجلة الانفلات أو تُفلِتانها مع كل «دَقَّة». هذا يعني أن الميزان المتأرجِح مُعرَّض للاحتكاك للحظةٍ عابرة بينما تتحرك الذراع بسرعة.
تحتاج في تطبيقها إلى حِرصٍ شديد وستجد عددًا قليلًا جدًّا من الحرفيين على قدْر من المهارة المطلوبة، بل وأقل منهم الذين سيتكبَّدون عناء بلوغها؛ مما يُقلِّل من جدواها. وفيما يتعلق بنسبة الفضل في اختراعها إليَّ، فلا يسعني سوى الاعتراف أنني لا أكترث البتَّة بهذا الأمر؛ فمن يريد نسبته إليه، فسيصنع فيَّ معروفًا.
لا أندهش أن هذا الاختراع سبَّب الإزعاج لمادج. فصناعة عجلات الانفلات ذات الذراع تتطلَّب مستوًى عاليًا من الدقة بل تُمثل تحديًا للصانع الذي يرغب في تطبيقها في العصر الحاضر حتى مع ميزة توفر المعدات الهندسية الحديثة. ومع ذلك، فنحن لا نزال نصنع فيه معروفًا من خلال «سرقة» هذا الاختراع. فإلى يومِنا هذا، كل ساعة جيب ميكانيكية تُصنع في العالم بأسره تَستخدِم اختراعه.
كان هذا النوع من الاختراعات التقنية العالية المستوى يعني أن صنَّاع الساعات قد بدءوا يؤدُّون دورًا جوهريًّا في تطوير الصناعات الأخرى. فعالِم قياس الوقت صموئيل واتسون، على سبيل المثال، ساعد الطبيب سير جون فلوير (١٦٤٩–١٧٣٤) في تصميم وصناعة وبيع أول ساعاتٍ لقياس النبض لمساعدة زملائه الأطباء في قياس نبض المرضى. وصنع توماس مادج ساعة لجون سميتون (١٧٢٤–١٧٩٢) بها ميزة معادلة درجة الحرارة لتحقيق التوازن بين تمدُّد المعادن وانكماشها في أثناء التنقُّل بين الحرارة والبرودة. ويشتهر سميتون، صاحب أول لقب «مهندس مدني» في العالم، بجهوده في تطوير أشكال جديدة من الإسمنت استخدمها في تحسين طريقة إنشاء الفنارات في بريطانيا. واستعمل سميتون الساعة التي صنعها مادج من أجلِه كي تُساعده في أعماله المَسْحِية. (ويظهر أيضًا جهازٌ لمعادلة التغييرات في درجات الحرارة في ساعة الجيب التي صنعها مادج للملكة شارلوت). وفي سنة ١٧٧٧، قدَّم صانع الساعات جون ويك كلَّ العجلات والتروس الصغيرة والهيكل لأول عدَّاد خُطًى، من تصميم ماثيو بولتون، شبيه بساعة فيتبيت قديمة تمتاز بقدرتها على عدِّ خطوات الشخص الذي يرتديها. ووُظِّف صانعو ساعات الجيب والحوائط للمساعدة في تعديل وصيانة معدَّات المصانع. وَفقًا لسجلٍّ يعود إلى سنة ١٧٩٨ لمصنع في مدينة كارلايل، «تَدين مصانع القطن والصوف بالتطوُّر الذي وصلت إليه الماكينات في عصرنا الحاضر لصانعي ساعات الجيب والحائط الذين وُظِّفوا بأعدادٍ كبيرة في السنوات الكثيرة الماضية لاختراع وإنشاء الماكينات وأيضًا صيانتها …» ولعل أكبر تحدٍّ معروف واجه عِلم قياس الوقت في القرن الثامن عشر، ذلك العصر الذي توسَّعت فيه البحرية البريطانية بدرجةٍ كبيرة، هو «البحث عن خط الطول»، تلك الإحداثيات البحرية الضرورية التي ما زالت حتى الآن تسترشِد بالنجوم وحساب الموقع والساعة الرملية والحدس.
أُطلِقت إشارة البدء التي أعلنت بداية بحث البريطانيين عن خط الطول في وقتٍ مُبكر من ذلك القرن، وتسبَّب فيها أحد أسوأ الكوارث في تاريخ بريطانيا البحري. ففي ليلةٍ ملبدة بالغيوم من عام ١٧٠٧، تحطَّمت أربع سفن حربية تابعة للبحرية الملكية تحت قيادة سير كلاودسلي شوفيل على صخور ساحل جُزر سيلي. غرقت السفن الحربية، في طريق عودتها من جبل طارق بعد محاصرة ميناء مدينة تولون في فرنسا، وهلك معها أغلب أفراد طواقمها وانجرفت جُثثهم على الساحل القريب لعدة أيامٍ متتالية بعد الحادثة. ووصل عدد المفقودين إلى ألفي رجلٍ تقريبًا. وقيل إن سبب هذه المأساة هو الاتحاد المُميت لضعف الرؤية واتخاذ مسار خاطئ بسبب سوء تقدير خط الطول، وهو ما يعني أن طواقم السفن كانت على غير دراية تامة بالخطر المُحدق بها.
لقد بذلت السفن جهدها في تحديد موقعها أو «موقعها الملاحي» بدقة. على البر تكون عملية تحديد الموضع الملاحي سهلةً نسبيًّا باستخدام المعالم كنقاطٍ مرجعية. أما في البحر، فلا يستطيع الملَّاحون، إلى حدٍّ كبير، تحديد موقعهم الملاحي بدقة. ويُقدَّر خط العرض، أي الموقع شمال أو جنوب خط الاستواء، من مكان الشمس في السماء. لكن عند حساب خط الطول، وهو المسافة التي قطعها المسافر عبر الخطوط المُتخيَّلة المُمتدَّة من القطب الشمالي للقطب الجنوبي، لا بد أن يتمكن الملاح من حساب السرعة والمسار بالنسبة لموقع معينٍ في زمانٍ معينٍ (وغالبًا ما يكون هذا الموقع هو ميناء الوطن الذي انطلق منه والزمان هو وقت المغادرة). فكانت الرياح والتيارات والمدُّ والجز تؤثر في هذه العمليات الحسابية، كما قد تؤثر الحركة ودرجة الحرارة في مدى دقة أي آلة تقيس الزمان، مما يَزيد من احتمالية ارتكاب أخطاء فادحة في تحديد خط الطول.
يعود أصل تحديد خط الطول لآلاف السنين. إذ نجد بعض النجوم التي لا نزال نستخدمها كعلاماتٍ ملاحية إلى يومِنا هذا مذكورة في ملحمة الأوديسة لهوميروس، حيث تُخبر الإلهة كاليبسو البطل أوديسيوس كيفية قيادة سفينته في مسارٍ ثابت إلى فاييشا، عن طريق وضع نجوم مجموعة الدب الأكبر على يساره. وأغلب الظن أن ابتكار خطوط الطول في البحر ظهر مع البولينيزيين الذين كانوا أسياد الملاحة في المُحيط لآلاف السنين. وقد أدهش توبايا، البحَّار التاهيتي البولينيزي الذي وظَّفه كابتن كوك لوضع خارطة الأرض الجنوبية المجهولة في سنة ١٧٦٩ في أثناء رحلته الاستكشافية على متن السفينة إتش إم إس إنديفر، طاقم السفينة بقُدرته الفطرية على تحديد الموقع بدقة، مُعتمدًا على النجوم وتقدير الموقع. كان يقدر على رسم خريطة المساحات الشاسعة للمُحيط الهادئ المشهورة الآن من ذاكرته — أوروبا بما فيها روسيا الأوروبية تقريبًا — مع ذكْر أسماء سبع وأربعين جزيرة وإعطاء وصفٍ تفصيلي لنظام رياح المُحيط الهادئ المُعقد. أكثر ما أثار دهشتي هو أن الوسائل التي استخدمها البحارة البولينيزيون من أمثال توبايا لشقِّ طريقهم في المُحيط الهادئ طبيعية مثل الوسائل القديمة التي استخدمناها لمعرفة الوقت وقياسه. لكن بحلول القرن الثامن عشر انقطعت الصلة بين الأوروبيين والعالَم الطبيعي المُحيط بهم فاحتاجوا لاستعمال الآلات لمساعدتهم.
كانت مأساة سيلي البحرية عاملًا مُحفزًا. ففي سنة ١٧١٤، أعلن قانون خط الطول عن جائزة قدرها ٢٠ ألف جنيه إسترليني (ما يقرب من ١٫٥ مليون جنيه إسترليني حاليًّا) للشخص الذي يستطيع حل مشكلة حساب خط الطول. تحدَّت هذه الجائزة أنبغ عقول بريطانيا في مجالات العلوم والهندسة والرياضيات. ولجأت اللجنة إلى إسحاق نيوتن الذي كان آنذاك في الثانية والسبعين من عمره، وإلى صديقه إدموند هالي الذي كان اختيارًا أكيدًا بسب أسفاره لرسم خرائط للنجوم، لطلب النُّصح. عندما قدَّم نيوتن ملاحظاته حول المُهمَّة للجنة، سرد الطرائق الموجودة آنذاك، ولكنها «صعبة التنفيذ». وكانت إحدى هذه الطرائق هي «ساعة لقياس الوقت بالدقة. لكن بسبب حركة السفينة وتفاوت درجة الحرارة من السخونة إلى البرودة وكذلك تفاوت درجة الرطوبة واختلاف الجاذبية في خطوط العرض المُختلفة لم تُصنع هذه الساعة بعد.» وأغلب الظن، في رأيه، أنها لن تُصنع أبدًا.
كان نيوتن ومعاصروه على ثقةٍ من وجود الإجابة في الفلك؛ ربما في دراسة كسوف الأقمار الدائرة حول المشتري، أو في التنبُّؤ بعمليات اختفاء النجوم خلف قمرنا، أو في ملاحظة خسوف الشمس وكسوف القمر. كانت هناك أيضًا طريقة حساب المسافة القمرية، حيث يُمكن تقدير خط الطول من خلال قياس المسافة بين القمر والشمس في النهار، أو بين القمر والنجوم الملاحية في الليل. استُخدمَت هذه الملاحظات في وضع شروط منح الجائزة التي تعطى للمركز الأول والثاني والثالث من المرشَّحين المُرتقَبين من أي فرعٍ من فروع العلم أو الابتكار نظير تقديم اختراعات يكون الفيصل في الحُكم عليها هو درجة دقَّتها عند اختبارها «في المُحيط من بريطانيا العظمى لأي ميناء من مواني الهند الغربية، بحسب اختيار أعضاء اللجنة» (بعبارة أخرى، عند البحر الكاريبي والمملكة المتحدة، أحد أضلاع مثلث تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي).
ومع استنهاض أعظم وأشهر العقول في ذلك العصر، لم يخطر ببال أحدٍ أن تكون الإجابة لدى صانع ساعاتٍ غير مُتدرب من مقاطعة يوركشر أو أنها ستأتي في صورة ساعة.
للوهلة الأولى، بدت ساعة إتش ٤ مثل أي ساعة جيب نمطية من تلك الحقبة، بيدَ أن قُطرها الإجمالي الذي يبلغ ١٦٫٥ سنتيمترًا سيشكل تحديًا أمام مالكها في العثور على جيبٍ يُناسب حجمها الكبير. ومن الناحية الجمالية أيضًا، كانت تُشبه الساعة النمطية، بعُلبتها الفِضية المصقولة البسيطة، ومينائها المصنوع من المينا البيضاء والمُزين بأرقام سوداء مُحاطة بإطار من الزخارف الحلزونية المُزركشة لأوراق نبات الأَقَنْثا المرسومة دقائقها بالخطوط السوداء. ولكن هذه الساعة لم تكن ساعة عادية. كان وزنها يبلغ حوالَي ١٫٥ كيلوجرام تقريبًا، وتحتوي على آلية استثنائية.
ساعة إتش ٤، التي اكتملت صناعتها في سنة ١٧٥٩، هي الرابعة من بين خمس ساعات بحرية تجريبية ابتكرها جون هاريسون استجابة لمَطالب لجنة خط الطول. كانت النُّسَخ السابقة، إتش ١ وإتش ٢ وإتش ٣، ساعات حوائط غير عملية وضخمة، لكنها واعدة وعلى درجةٍ عالية من التقنية لتستحق اهتمام ودعم جورج جراهام، مُعلِّم مادج العجوز. ورغم دعم جراهام لعمل هاريسون، فقد اتَّسم بالفردانية والعناد. كان هاريسون من أشدِّ الناقِدين لنفسه، وبملاحظته لوجود خطأ في إتش ٢ لم يسمح باختبارها. عشرون سنة، هي المدة الفاصلة بين إتش ٢ وإتش ٣، حيث واصل هاريسون سعيَه معالجًا الصعوبات التقنية التي واجهته. ومع نسخة إتش ٣، الأخف وزنًا مقارنة بنظيرتَيها السابقتَين والصغيرة نسبيًّا بارتفاعٍ يبلغ قدمين وعرضٍ يبلغ قدمًا واحدًا، بدا الأمر كأنه دفع بحجم الساعة البحرية إلى حدِّه الأدنى.
لهذا السبب كان ظهور إتش ٤ الصغيرة جدًّا، في السنة التالية لظهور إتش ٣ مباشرة وفي صورة ساعة جيب، أمرًا مفاجئًا نوعًا ما. وقد انطوت تقنيات ساعة هاريسون إتش ٤ على معالجاتٍ هندسية لم يتطرَّق إليها أحد من قبل. ففي حين أنه استخدم أجزاءً كانت مُستخدمة بالفعل في ذلك الحين، مثل عجلة الانفلات ذات المحور الدوَّار المُسنَّن، إلا أنه قد طوَّرها بشدة إلى مستوًى من الإتقان، يندُر رؤيته حتى في عصرنا الحاضر. من أجل تقليل الاحتكاك وتعزيز المتانة صُنِع العلَمان الفولاذيَّان اللذان يُشكلان سقَّاطتَي الدخول والخروج للمحور الدوَّار المُسنن من الألماس. تتَّسِم عجلة التوازن الدائرية بضخامتها مقارنةً بساعة الجيب العادية في القرن الثامن عشر، لكن هذا التعديل التقني يجعلها أقل عرضةً للانحرافات كلما تحركت الساعة بسبب حركة السفينة. ومنح النابض الرئيسي الطويل لساعة إتش ٤ زمن تشغيل يبلُغ ثلاثين ساعةً قبل الحاجة إلى إعادة تعبئتها من جديد.
اختُبرت الساعة لأول مرة في سنة ١٧٦١ عندما أبحرت سفينة إتش إم إس ديبتفورد من بورتسماوث، مُتوجِّهة إلى كينجستون في جامايكا. أرسل هاريسون ساعته للسفر على متن السفينة مع ابنه وليام ليشرف عليها. وسرعان ما أثارت ساعة إتش ٤ إعجاب الحاضرين، وقَدَّرَت بدقة موعد وصول السفينة إلى ميناء جُزر ماديرا في رحلة الذَّهاب، وهذا التقدير كان أبكر من الموعد الذي توقَّعه الطاقم نفسه. وكان رُبَّان السفينة في غاية الانبهار، وقِيل إنه عرض شراء ساعة هاريسون القادمة في الحال. وعلى مدار الرحلة، التي دامت واحدًا وثمانين يومًا وخمسَ ساعات، تأخَّرت الساعة ٣ دقائق و٥,٣٦ ثانية فحسب. ورُئِيَ أنها استوفت متطلبات اللجنة الصارمة وخضعت للاختبار الثاني. وبينما كان هاريسون يتفاوض مع اللجنة، للوفاء بالشروط التي بدت أكثر صرامةً من ذي قبل، أصبحت إتش ٤ قالبًا لخليفتها إتش ٥.
يقبع الآن أول كرونومتر بحري صنعه هاريسون في صندوق العرض في المرصد الملكي بجرينتش. أما من الناحية الزخرفية، فكانت الساعتان، إتش ٤ وإتش ٥، أكثر بساطةً بكثير من ساعات الجيب الشخصية في ذلك الوقت. ولا تزال ساعة إتش ٤ بها بعض النقوش الزخرفية الحلزونية المُميزة لأوراق نبات الأَقَنْثا بالإضافة إلى الزخارف المُثقَّبة التي كانت مشهورة في ذلك الحين، لكن مع بداية القرن التاسع عشر كانت هذه الزخارف والنقوش قد اختفت من عملية تصنيع الكرونومتر.
يُجرى الصقل الأسود عادةً في المعادن الشديدة الصلابة فحسب، مثل الفولاذ. عند صقل السطح حتى يصل إلى حالةٍ من الكمال مثل المرآة، دون حدوث أي خدشٍ أو ترك أي علامة، يبدو أسودَ اللون في الظلِّ كالعقيق الأسود. كان الصقل في الماضي، وحتى الآن، يحدُث باليد ويستغرِق وقتًا طويلًا جدًّا. وتظهر فائدة صقل أجزاء الساعة في مسألة تقليل الاحتكاك، لكن الوصول بالصقل إلى هذا المستوى دليلٌ على مهارة الصانع الفائقة. ومع أن الدقَّة والفاعلية صارتَا الغرَض الوحيد لهذه الساعات، فإنني أشعر بالسعادة عندما أرى كيف وجد الصانعون طُرقًا للتعبير عن شخصياتهم وهويتهم في الشكل النهائي لأعمالهم.
أرى أن الكرونومتر من أصدق الأمثلة على أن الساعة هي أكثر من مجرد أداة علمية. إنها أداة علمية ابتكرتها الأيادي البشرية على مدار سنوات كثيرة في بعض الأحيان. وعملية تشطيبها أو إتمامها تختلف من صانعٍ لآخر مثل التوقيع أو البصمة التي تكشف استثمار الصانع لشخصيته في العمل، وتجعل الكرونومتر يتجاوز حدوده الوظيفية ليُصبح تحفةً فنية.
أثناء تدريبي كصانعة ساعات، نشأتُ على اعتقاد أن جون هاريسون عالمٌ بطلٌ في عِلم قياس الوقت؛ إذ إن اختراعه أنقذ عددًا لا يُحصى من الأرواح في عرض البحر. كان ذلك حقيقيًّا من عدَّة نواحٍ؛ فقد كان هاريسون مُخترعًا فذًّا وأثَّرت ساعاته تأثيرًا كبيرًا في مجال الملاحة. لكن ساعة إتش ٤ لم تكن الحلَّ الجذريَّ كما اشتُهر عنها.
في سنة ١٨٣١، حملت السفينة «إتش إم إس بيجل» اثنتَين وعشرين ساعة وكرونومترًا، بالإضافة إلى خريج جامعي مُتحمسٍّ شابٍّ اسمه تشارلز داروين، على متن رحلتها الثانية لمُعاينة السواحل المتطرِّفة لجنوب أمريكا الجنوبية. وعند عودة السفينة للوطن، في شهر أكتوبر ١٨٣٦، كان نصف الساعات فحسب لا يزال يعمل على نحوٍ جيد.
إحدى المُشكلات التي واجهت الكرونومترات القديمة هي عدم الدقة المتراكِمة عبر المسافات الطويلة جدًّا. لو كان معدل عدم الدقة ثابتًا — كأن يعلم الملاح أن الكرونومتر يتقدَّم بمعدل خمس ثوانٍ يوميًّا — لسهُل حساب التفاوت والتعويض عنه، لكن الأمر لم يكن بهذه البساطة إلا فيما ندر. في سنة ١٨٤٠، لاحظ هنري ريبر، المُلازم البحري البريطاني والخبير في شئون الملاحة، الذي كان عادةً ما يُعدِّد مميزات الكرونومتر، أن «الكرونومترات تكون في أفضل حالاتها في بداية الرحلة؛ والكثير منها بعد ذلك يُصبح عديم الفائدة بسبب التفاوت، وبعضها يفشل تمامًا. كما أنها معرَّضة لتغيير معدلاتها فجأة ثم العودة إلى معدلها السابق في غضون أيام قليلة.»
حُفِظت الكرونومترات، من أجل حمايتها، في صناديق خشبية، وكانت هذه الصناديق عُرضةً للالتواء. هذا يعني أنه عند الحاجة إلى تعبئة الكرونومتر كان يستحيل فتح الصندوق في بعض الأحيان. واقتصرت التعبئة والمُراقبة على الضباط ذوي الرُّتَب من أهل الخبرة، وأُغلِقت الصناديق لمنع الأيادي المتطفلة من العبث بأي من مكوناتها. هذا الغلق فتح الباب أمام أكثر الأخطاء البشرية جوهريةً وفطريةً وهو إضاعة المفاتيح. وثق عالِم الفلك ويليام بايلي، الذي رافق كابتن كوك على متن السفينة «أدفينتشر» في رحلته الثانية عبر القطب الجنوبي والمُحيط الهادئ، عدة مناسبات اضطر فيها إلى إنقاذ الكرونومتر من سجنه الخشبي. وقعت الحادثة الأولى عندما قام أحد الضباط بطيِّ الثنية الداخلية للقفل عن طريق الخطأ، مما استلزم قطعها بالمِنشار وإصلاحها. وبعد فترةٍ قصيرة، انكسر مفتاح داخل القفل. وبعد شهرٍ واحد فقط، اضطر بايلي إلى فتح الصندوق عنوةً للمرة الثالثة بعدما غادر شخص السفينة ومعه المفتاح.
في رأيي، لم يكن أعظم إنجاز لهاريسون هو ابتكار ساعة إتش ٤، أو ما إذا كان قد حصل على جائزة خط الطول أم لا. (أعطته لجنة خط الطول، التي راوغت إلى النهاية بشأن وفائه بشروط جائزتها، جائزةً نهائية إضافية قدرها ٨٧٥٠ جنيهًا إسترلينيًّا.) كان أعظم إنجازٍ حقَّقَه هو أنه أثبت للمرة الأولى أنه يُوجَد ساعة ميكانيكية — ساعة جيب على سبيل الدقة — تَقدِر على حلِّ إحدى أكبر مشكلات العصر.
إن الكرونومتر، على الرغم من إمكاناته المحدودة، أداة ثمينة جعلت، مع غيرها من الطُّرق، رسمَ خرائط العالم أمرًا مُمكنًا للجميع. فهو لم يساعد البحارة في شقِّ طريقهم عبر المُحيطات المفتوحة الشاسعة فحسب، بل إن هذه الرحلات مكَّنت الجغرافيين من وضع خرائط العالم بصورةٍ أكثر دقة من ذي قبل. تخيَّل مدى خطورة السفر، على سبيل المثال، من بورتسمث إلى نيويورك دون معرفة شكل ساحل الولايات المتحدة الأمريكية بدقةٍ أو تحديد موقع الميناء الذي تتَّجِه إليه السفينة. هذا العالم كما نعرفه الآن صُنع من خلال المغامرات والرحلات الاستكشافية التي تمَّت في القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر، والتي، من نواحٍ عدة، صارت مُمكنة عَبر التطوُّرات في قياس الزمن.
لكن هذا التوسُّع في آفاقنا كان له جانبه المُظلم. لم يعترف علماء قياس الزمن الأوائل دائمًا بالدور الذي أدَّته بعض هذه الاختراعات في الكثير من التطورات التدميرية. فعندما يقرأ المرء تاريخ لجنة خط الطول، سيجد التركيز دائمًا على الحفاظ على أرواح البحارة الذين ينطلِقون في رحلات بحرية إلى مسافات بعيدة، وعلى المنافع التي جلبها الكرونومتر لمجال رسم الخرائط. ولن يجِد سوى القليل عن اهتمام دول الغرب بتحسين التجارة عبر المحيط الأطلسي في القرن الثامن عشر، وكيف عزَّزت التحسينات في الملاحة وأسهمت في الاستعباد المنهجي لملايين الأفارقة ومِن ثَم ترحيلهم فيما بعد إلى الأمريكَتَين. ونادرًا ما يجرى الاعتراف بالتأثير الذي تركَه «الاكتشاف» على سكان أستراليا الأصليين أو كيف ساهمت المزايا الملاحية في استعمار الهند أو أمريكا الجنوبية. ورغم إنشاء لجنة خط الطول بهدف دعم البحرية الملكية، كان الكرونومتر، بسبب تكلفته الباهظة، أكثر استخدامًا من قِبَل الكيانات التجارية ذات الأرباح العالية مثل شركة الهند الشرقية التي كانت تعتمد على السخرة وتهريب العبيد من شرق وغرب أفريقيا. في سنة ١٨٠٢، بعد اختراع الكرونومتر بثلاثين سنة، كان سبعة بالمائة فقط من السفن مُزوَّدًا بالكرونومتر فعليًّا.
هذه القفزات الكبيرة في الدقة التي تحققت للكرونومتر جعلتْ وجودَ نوع آخر من ساعات الجيب — ومن مفهوم الوقت نفسه — أمرًا مُمكنًا. ولهذا السبب يجِب أن يتشارك هاريسون تاجَه مع مادج. ففي الوقت الذي ألقت فيه أسطورة هاريسون بظلالها على غالبية مُعاصريه في عصره الذهبي، لم يترك صانع ساعات، في الحقيقة، أثرًا دائمًا على تطور آليات الساعة مثلما فعل توماس مادج. وقد تبين أن ساعات مادج المزودة بعجلة الانفلات ذات الذراع أكثر دقة وموثوقية من ساعات هاريسون، بالإضافة إلى أنه ألحقها بكرونومتر في الوقت الذي فاز فيه هاريسون بجائزة خط الطول تمامًا. ولو أن مادج قد نجح قبل ذلك ببضع سنوات، لتفوَّق على هاريسون، على الأغلب، ولطالب بحقِّه في الجائزة والشهرة الأبدية لنفسه. ومع ذلك لا يزال إرثه حيًّا في عالم ساعات الجيب. فخليفة عجلة الانفلات ذات الذراع لا تزال تدقُّ على معصمك.