الثورة
في بعض الأوقات يخدعنا القلب ويخذلنا. إن اليقِظين على حقٍّ. هذا لأن الرب بريجيه القدير منحَنا الإيمان، وعندما نظر إليه واستحسنه زكَّاه بعينٍ يقِظة.
في أغسطس ٢٠٠٦، تلقَّت راشيل حسُّون المديرة الفنية لمتحف إل إيه مئير للفن الإسلامي في القدس مكالمة هاتفية من صهيون ياكوبوف، صانع ساعات في تلِّ أبيب وقال ياكوبوف إن مخبأً للساعات القديمة المسروقة قد تم العثور عليه وأنه ظن أن عليها أن تأتي وتُلقي نظرة عليه. كانت تتلقَّى مِثل هذه المُكالمات؛ ويتبيَّن كذبها دائمًا. لكن هذه المكالمة كانت مُختلفة.
قبل ذلك بخمسةٍ وعشرين عامًا كانت قد تعرَّضت مجموعة ساعات المتحف الفريدة إلى عملية سطو حيَّرت الشرطة ودوائر المُخابرات الإسرائيلية وحتى صموئيل ناحمياس أفضل مُحقِّق في إسرائيل. في مساء ١٥ أبريل لعام ١٩٨٣، اختفت ١٠٦ ساعات جيب وحائط فريدة، من بينها قطعة بعَينها تُقدَّر بما يزيد عن ٣٠ مليون دولار. وأُطلقت عملية بحث موسَّعة، لكن كلَّ خيوط البحث لم تسفر عن شيء. وبمرور السنوات، بدا كأن الساعات قد اختفت من الوجود.
قادت الخيوط المُحقِّقين إلى أماكن بعيدة، مثل موسكو وسويسرا، لكن تبيَّن أنها كانت في منشأة تخزين في تلِّ أبيب، على بُعد ساعةٍ فحسب من مكان سرقتها. سافرت حسُّون وإيلي كاهان، عضو مجلس إدارة المتحف، إلى مكتب المُحامية هيلا إفرون جاباي، التي طُلِب منها إعادة الساعات بشكلٍ مجهول لصالِح موكِّلها. تعرَّفا على الساعات من أرقامها التسلسلية؛ وكان بعضها سليمًا، والبعض الآخر مُتضررًا. لكن ساعةً واحدة بعينها أثَّرت في حسُّون فأجهشت بالبكاء. هناك، مغلَّفةً بورقة صحيفة مُصفرَّة اللون، قبَعت «موناليزا الساعات»، التي صنعها أبراهام لويس بريجيه لماري أنطوانيت، وهي أقيَمُ وأجملُ وأفضل ساعةِ جيبٍ صُنعت على الإطلاق.
تمكنت الشرطة أخيرًا من تتبُّع عملية السطو إلى نعمان ديلر اللص الإسرائيلي السيئ السمعة الذي اعترف بجرمِه لزوجته وهو على فراش الموت. شعرت الشرطة بالإحباط إذ لم تحظَ بفرصةِ التحقيق مع ديلر الذي كان لدَيه «أسلوب فريد» في السرقة. (في سنة ١٩٦٧، مع استراحةٍ قصيرة للقتال في حرب الأيام الستة، حفر ديلر خندقًا بطول ٣٠٠ قدم، خلف بنكٍ في تل أبيب، لاقتحام خزنة بالمُتفجرات.) لطالما كان ديلر يعمل بمُفرده. هذه المرة استخدم رافعة هيدروليكية لصُنع فتحة في سور المتحف، واستخدم سُلَّمًا من الحبال وخطافات كي يتسلَّق عشَرة أقدام ليصِل إلى نافذة صغيرة ارتفاعها ١٨ بوصة فحسب. ودخل ديلر، الذي كان نحيفًا للغاية، ثم انزلق عبر الفتحة الضيقة قبل أن يفرَّ بمعظم مجموعة الساعات التي لا تُقدر بثمن.
محاسن النظام: الأذواق الفاخرة لبلاط لويس السادس عشر، مما يعني أنه لم تكن هناك قيود على الإبداع. وأُعطي بريجيه ميزانيةً مفتوحة، حسب احتياجاته، كي تكون الساعة فريدة لا مَثيل لها، في الحقيقة، يصعب على المرء وصف الإثارة التي يشعُر بها صانع ساعات، عندما تكون ميزانيته مفتوحة ولا يُقيَّد بموعد تسليم مُعين، أي سعة مثالية من الوقت والمال لاختبار أقصى حدود مهاراته وإبداعه. إن مسألة السيولة، حتى لصانع ساعات ناجح — بحلول ذلك الوقت كان بريجيه قد عُيِّن صانع ساعات الملك عند لويس السادس عشر — من أصعب المسائل. تكلِّف الساعات الرائعة المصنوعة يدويًّا مبلغًا هائلًا من المال لشرائها وصناعتها. وبالنسبة لنا اليوم، يُمكننا تقدير المبلغ بستة أرقام، لكن بعد خصم المصاريف غير المباشرة والضرائب وتكاليف المواد وفواتير العمالة الخارجية وتقسيم المبلغ على عدد السنوات المُستغرقة في صناعة الساعة، ستجِده لا يكاد يُغطي نفقات معيشة الصانع في بعض الأحيان.
مكَّنت الميزانية والجدول الزمني غير المحدودَين بريجيه من تفريغ كل المهارات التي قضى حياته المهنية الطويلة في اكتسابها في قطعةٍ فنية واحدة. وجاءت الساعة بثلاثةٍ وعشرين تعقيدًا أو وظيفة إضافية بخلاف وظيفة الإخبار عن الوقت. واتَّسمت بالتعبئة الذاتية، والإخبار عن الوقت بصوتٍ عالٍ إذ تدقُّ على رأس كل ساعةٍ وربع ساعةٍ ودقيقةٍ أجراسًا ذات نغمة عذبة، بالإضافة إلى عرض معادلة الوقت. كما امتازت بمؤشِّر احتياطي الطاقة (فالساعة تعمل لمدة ثمانٍ وأربعين ساعة إذا تمَّت تعبئتها بالكامل)، وكرونومتر، وترمومتر، وتقويم دائم على غرار ساعات مادج. في العموم، يُوجَد ٨٢٣ جزءًا في ساعة الجيب التي يبلُغ قُطرها ستة سنتيمترات، ولا تزال تُعتبر واحدةً من أعقد خمس ساعات في العالم. كانت هندستُها مبهرة لدرجة أن آلية الساعة قد تُركت مكشوفةً عبر العلبة والميناء الزجاجي كي تظهر آلية التشغيل في أثناء عملِها بنشاطٍ في الداخل.
مساوئ النظام: بينما كان بريجيه مُنهمكًا في العمل على هذه الساعة الفاخرة جدًّا، ذات الميزانية غير المحدودة، كان الشعب يتضوَّر جوعًا. فقد فرضت فرنسا، التي كانت لا تزال محبوسةً في النظام الإقطاعي، الضرائب على الفلاحين (٩٦٪ من السكان الذين لا يتمتعون بأي نوع من السلطة السياسية أو الاقتصادية)، في الوقت الذي حصدت طبقة رجال الدِّين والطبقة الأرستقراطية الأرباح. في الفترة ما بين ١٧٨٧ و١٧٨٩، واجهت فرنسا مواسم حصاد جدباء، ومواسم جفافٍ، بالإضافة إلى إصابة المواشي بالأمراض، وارتفاع أسعار الخبز. وفي الوقت نفسه، مُنيت الحكومة الفرنسية بالإفلاس؛ إذ ألحقت مشاركتها الباهظة الثمن في حرب الاستقلال الأمريكية وتأسيس بلاط لويس السادس عشر الفخم، خسائر فادحة بميزانية الدولة. كانت الزيادات الضريبية مثل إشعال فتيل القنبلة، فثارت ثائرة المواطنين في باريس، وانتهى الأمر باندلاع الثورة الفرنسية في عام ١٧٨٩.
لم تحظَ ماري أنطوانيت بفرصة رؤية ساعتها. فقد تعطَّلت ورشة عمل بريجيه بسبب الأحداث العالمية، ولم ينتهِ من الساعة حتى ١٨٢٧، بعد أربعٍ وثلاثين سنةً من مواجهة صاحبتها المنشودة الجميلة، وإن كانت غافلة سياسيًّا، مصيرها على مِنصة المِقصلة.
كان صانعو الساعات المُتقنون، ولا يزالون، في ندرة الكبريت الأحمر. يصفُ فرديناند بيرثود صانع الساعات الشهير (١٧٢٧–١٨٠٧)، في كلامه عن علم الساعات في موسوعة الفنون والعلوم والحِرف لديدرو، متطلبات حرفته فيقول: «إن الإتقان الكامل لعلم قياس الوقت وصناعة الساعات يتطلَّب إدراك نظرية العلم وامتلاك مهارة العمل اليدوي وموهبة التصميم، وهذه الأشياء الثلاثة لا ترسخ بسهولة في نفس شخصٍ واحد.» أحبُّ اعترافه بأن من الصعب اتحاد هذه الميزات في بشريٍّ واحد. ودائمًا ما أقول أنا وكريج أننا صانعا ساعاتٍ جيدان كلٌّ على حدة، ولكننا رائعان عندما نعمل معًا. فلدَينا نقاط قوة يُكمل بعضها بعضًا: يمتاز كريج بالقدرة على الرسم والتصميم الجمالي، وأمتاز أنا بالعقل الرياضي وأستطيع تحويل رسوماته اليدوية الجميلة إلى رسوماتٍ تقنية مضبوطة يُمكننا العمل عليها. لدى كريج مستوًى فائق من المهارة في التعامُل مع الأجزاء الدقيقة جدًّا من الساعة، مثل إصلاح الأضرار التي تلحق بالنوابض الشَّعرية، وأحبُّ أنا التشطيب؛ وهو وضع الزوايا المصقولة على برامق التروس والنوابض والصفائح يدويًّا باستخدام مبارد بالِغة الصِّغر. كما أُحِب قطع العجلات: تحديد موضع مئات السنون في الساعة وقطعها يدويًّا. في الحقيقة، يُعجبني الاستغراق في حركة مُتكررة مع القطاعة في أثناء تحريكها للأمام والخلف مرارًا وتَكرارًا. يجد كريج ذلك مُملًّا، لكن لا بأس، إذ يفوقني صبرًا وهو يُدير عصيَّ التوازن الضئيلة، التي لا يتعدَّى طولها بضع مليمترات، بيدِه ويصقلها حتى تُصبح صُلبةً لامعة عاكسة كالمرآة. أما بريجيه، فقد اجتمعت لدَيه كل هذه المهارات وأكثر منها على نحوٍ فريد.
في عالَم الساعات، أن تقول إن أبراهام لويس بريجيه بطلُك الذي تتطلَّع إليه هو أمر شائع. فهو أحد أنبغ العقول وأشهرها في تاريخ صناعتنا. بدأ بريجيه تدريبه المِهني في باريس عام ١٧٦٢ في سن الخامسة عشرة، وبحلول وقت وفاته عام ١٨٢٣ كان قد أحدث ثورةً في مهنته. يقول سير ديفيد ليونيل سالومونز محامي الدفاع الشغوف بعلم الساعات (الذي كان يملك في وقتٍ ما «ساعة الملكة» وكثيرًا غيرها مما تعرَّض للسرقة من متحف إل إيه مئير): «يشعر المرء وهو يحمل ساعة بريجيه فاخرة أنه يضع عقلًا عبقريًّا في جيبه.»
إن المهارة التقنية الاستثنائية والإبداع الفريد جعلا من بريجيه أسطورةً في علم صناعة الساعات. فما من صانع ساعاتٍ غيره ابتكر هذا الكم من الابتكارات التي لا تزال باقيةً إلى يومِنا هذا. كان هو مَن أنشأ نظام التعبئة الدائمة، وهي أول آلية تعبئة أوتوماتيكية تُزوِّد الساعة بالطاقة كلما تحرَّك مُرتديها، إذ يتحرك الثقل المتأرجِح بالداخل ويُشغِّل النابض الرئيسي. كما اخترع الأجراس المصنوعة من السلك في الساعات الرنَّانة، التي تدقُّ على رأس كل ساعة ودقيقة، وأصبحت هذه الساعات أقل حجمًا مقارنةً بالساعات الجرسية التقليدية التي كانت موجودة من قبل. وحسَّن ما لا يزال يُعرف حاليًّا بنابض بريجيه الشَّعري ذي الملف الزائد، وهو تطوير تقني للتصميم الحلزوني المُسطَّح. فقد وجد بريجيه أن رفع اللفة الخارجية الأخيرة للنابض الحلزوني المُسطح فوق أخواتها يُحسِّن ثبات الدورة الزمنية، أو المدة الزمنية المتساوية لكل دورة، ومن ثم يَزيد من دقة قياس الوقت. ولا تزال هذه التحسينات باقيةً في الساعات إلى يومِنا هذا مثلما كانت في الماضي؛ وأُلحق ببعضِها تعديلات أخرى، فيما ظلَّ بعضها الآخر، مثل الملف الزائد، على حاله بالضبط لما يزيد عن ٢٠٠ سنة. وبفضل ابتكارات بريجيه صارت آليات الساعة أقل حجمًا. واختفت تلك الساعات القديمة المزدوجة العلبة. وأصبح من المُمكن وضع ساعات بريجيه في جيب الساعة الذي انتشر في ذلك الوقت في بذلات النبلاء.
كانت ساعات بريجيه أدواتٍ علمية دقيقة، لكن الكثير من مزاياها التصميمية لم تكن لها فوائد وظيفية. كان الهدف من صناعتها هو صنع قطعة فنية ميكانيكية ذات هندسةٍ مُبتكرة.
كان زوج أم بريجيه، جوزيف تاتيه، من عائلة تمتهِن صناعة الساعات في باريس، وكان هو أوَّل مَن عرَّف بريجيه على المهنة. بريجيه، الذي وُلِد لعائلةٍ هوجونوتية في بلدة نوشاتيل في سويسرا في سنة ١٧٤٧، كان أكبر إخوته الخمسة والولد الوحيد. مات أبوه وهو لا يزال في الحادية عشرة من عمره، وترك المدرسة بعد ذلك بسنتَين. تزوَّجت أمُّه مرة أخرى، وفي سنة ١٧٦٢ شقَّ الفتى بريجيه، مثل العديد من الحرفيين قبله، الحدود السويسرية الفرنسية ليبدأ تدريبه المهني في ورشة عمل عائلة زوج أُمِّه في باريس.
حضر بريجيه صفوفًا مسائية في الرياضيات في معهد مازارين، وأثنى معلمه آبي جوزيف فرانسوا ماري على مهاراته في دوائر البلاط الملَكي حتى وصل خبر نبوغِه الصاعد لأسماع ملك وملكة فرنسا. ومِثْل الملك جورج الثالث في الناحية الأخرى من القنال الإنجليزي كان ملك فرنسا لويس السادس عشر مولَعًا بآليات صناعة الساعات. وبدأ بريجيه في الخامسة عشرة من عمره التدرُّب لدى صانع ساعات محترف في قصر فرساي.
وفي الثامنة والعشرين، أسَّس بريجيه ورشة عمله في الطابق الأرضي من مبنى رقم ٣٩ في كيه دو لورلوج، حي صناعة ساعات الجيب والحائط في جزيرة المدينة الصاخبة بباريس. وتحقَّق ذلك، بدرجة كبيرة، من خلال الأموال التي حصل عليها بزواجه من شابَّةٍ تبلُغ من العمر ٢٢ عامًا تُدعى سيسيل ماري لوي لولييه، من عائلة ثرية رفيعة الشأن في باريس. كان صانعو الساعات، في كثير من الأحيان، يتزوَّجون في مرحلةٍ متأخرة من حياتهم لأن كل العَلاقات بالجنس الآخر كانت ممنوعة منعًا باتًّا خلال فترة تدريبهم المِهني، ولم يكن من المُستغرب في ذلك الوقت أن ينشئ الحرفيون المهرة أول مشاريعهم المنفردة بالاستعانة بالأموال التي يحصلون عليها من زواجهم. تزوَّج بريجيه من سيسيل في نفس العام وأسَّسا بيتهما، وكانا يعيشان ويعملان في نفس المبنى.
نزلَتْ ببريجيه الكثيرُ من الفواجع. ففي السنوات التالية، تُوفِّي آبي جوزيف فرانسوا ماري مُعلمه السابق، الذي أصبح أحد أعز أصدقائه، في ظروفٍ غامضة. كما تُوُفِّيت سوزان مارجريت أُمُّه وجوزيف زوج أمه تباعًا، فأصبح مسئولًا عن شقيقاته الأربع. ورُزِق هو وسيسيل، في سنة ١٧٧٦، بابنه أنطوان، وكان هو الابن الوحيد من أطفاله الذي بلغ مرحلة البلوغ. ولم يعيشا معًا فترة طويلة. فقد قضت زوجته نحبَها في سنة ١٧٨٠. وكانت في الثامنة والعشرين من عمرها. ولم يتزوج بريجيه بعدها أبدًا. ولا نعلم شيئًا يُذكَر عن حالته النفسية في تلك الفترة. كانت حقبة يكثُر فيها الموت، يُيتَّمُ فيها الأطفال واليافعون وتموت النساء في أثناء الولادة، لكن من الصعب تخيُّل أن هذه الخسارة الكبيرة لم تترك أثرًا في نفس بريجيه ولا على عملِه. ربما كانت صناعة الساعات مَخرجًا له، وربما كان انكبابُه على مهنته هو طريقته في مواجهة الفجيعة. أرى بلا شك أن الانغماس في عالم صناعة الساعات المجهري وسيلة فعَّالة لقطع الصِّلة بالواقع والانفصال عن العالم الخارجي.
تُظهِر لوحة شخصية لبريجيه رجلًا نَضِر الوجه، منحسر الشعر عن صلَع مبكر، يشعُّ ذكاءً وطيبة. ولا يبدو أنه كان يرتدي الشعر المُستعار رغم تعامُلاته مع رجال البلاط. وتؤكد الروايات الواردة عن طبيعته أنه كان متواضعًا كريمًا. وبالنسبة لي، أُحب حقيقة أنه كان يُحسن معاملة موظَّفيه. يُقال إنه كان يشدُّ من عضد المتدرِّبين لديه ويقول لهم: «لا تفقدوا حماستكم ولا تسمحوا للفشل بأن ينال منكم»، وهي عبارة ينبغي تعليقها على كل أبواب ورش صناعة الساعات. وكان يُعطي إكرامية لعمَّاله بشكل مُنتظم، وعندما يرسِلون إليه الفواتير، كان يُحوِّل أي صفر في الفاتورة إلى رقم تسعة. ولو كانت الإكراميات من الأمور الذوقية المألوفة في عصرنا الحالي، فإن التطوُّع بالنقود لعاملٍ من باب التقدير في أثناء النظام القديم لم يكن شيئًا مألوفًا على الإطلاق.
وفي بعض الأحيان كان يُظهر إعجابه بنفسه. في عام ١٧٩٠ تقريبًا، اخترع بريجيه أول إعدادٍ مقاوم للصدمات في ساعة الجيب. وقد صنعه لحماية محاور التوازن الحسَّاسة من الصدمات والخبطات التي تتسبَّب في كسرها في كثير من الأحيان وتحتاج إلى عمليات إصلاح تستهلك الكثير من الوقت. وسمَّاه الباراشوت. وحتى يستعرض فاعلية إعداده الجديد، يُقال إنه اختبره أمام مجموعة من الضيوف المُوقَّرين في حفل في بيت شارل موريس تاليران، أسقف بلدية أوتون والأمير الأول المُستقبلي لمدينة بينيفنتو. ووصف أحد شهود الواقعة كيف ألقى بريجيه ﺑ «ساعة جيبه على الأرض» دون أن يحدُث بها أدنى ضرر فيما يظهر. وهتف الأمير: «هذا الشيطان بريجيه يُحاول أن يتفوَّق على نفسه دائمًا.» وعندما استعاد بريجيه الساعة من على الأرض، اندهش الضيوف عندما رأوها تعمل بكفاءة.
كان الثوريون، في محاولتهم لربط المواسم بالأشياء الملموسة، يُحرِّرون الزمن مما يَعتبرونه طغيان الدين والخرافة. وبينما كانت الكثير من أسماء الشهور مرتبطة بآلهة الرومان (مثل ارتباط مارس بإله الحرب، وارتباط يونيو بالإلَهة جونو زوجة الإله جوبيتر) جاء النظام الجديد وبتر أي عَلاقة بالآلهة القديمة. واعتمد التقويم على المنطق، فأعاد الزمن إلى أصحابه، إلى العالم الطبيعي، ولا سيما الزراعة. لو أن هذه الفكرة تبدو مألوفة فلتشابُهها الكبير مع التأريخ القائم على الأحداث، مع زيادة التركيز على التقسيم العددي المُنظم للأيام.
انعكس تعديل الوقت على ميناء الساعة بالتأكيد. لقد قسَّم النظام العشري الجديد اليوم إلى ١٠ ساعات فحسب، وكل ساعة إلى ١٠٠ دقيقة، وكل دقيقة إلى ١٠٠ ثانية، فجعل الثانية العشرية أسرع من نظيرتها في التوقيت القياسي الحالي بمقدار ٠٫٨٦ في الثانية الواحدة. وكان لا بد لساعات الحائط والجيب الجديدة من الالتزام بالتوقيت الجديد، ولا تزال بعض ساعات التقويم العشري التي صُنِعت في تلك الفترة الزمنية القصيرة باقية إلى يومِنا هذا ومن بينها بعض ساعات بريجيه. وهي ساعات غريبة الشكل مُثيرة للفضول. قد يستغرق المرء بضع دقائق قبل أن يُدرك سبب غرابة مظهر الميناء والذي يعود إلى تغير تقسيم اليوم من ١٢ ساعة إلى ١٠ ساعات.
تصدت إحدى ساعات بريجيه ذات التوقيت العشري، والموجودة الآن ضمن مجموعة فريك في نيويورك، لتحدي الوقت العشري، وليس هذا فحسْب، بل عكست أيضًا حماسة الجمهورية الفرنسية للتخلِّي عن الأساطير. تدور عقارب ساعاتنا الآن ذات الاثني عشر ساعة في اتجاه عقارب الساعة، وهو ما يعكس ملاحظاتنا الأولى لحركة الشمس حول الأرض كما تُشاهَد في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، وهي حركة اكتُشِف خطؤها منذ كوبرنيكوس (١٤٧٣–١٥٤٣). كان بريجيه يرى أن الساعة المِترية التامَّة لا بدَّ وأن تتبنَّى المنطقية والحقيقة، لذا صمَّم ميناءً بحلقتَين: إحداهما تُبين الساعات العشر العشرية، والأخرى تبين الدقائق المائة العشرية. وبينما يتحرك العقرب في اتجاه عقارب الساعة، تتحرك حلقة الساعات كلَّ عشر دقائق عشرية للخلْف ممَّا يعكس دوران الأرض حول الشمس في عكس اتجاه عقارب الساعة.
وسَّع بريجيه أعماله في أنحاء أوروبا. ولعلَّ إحدى أفكاره العبقرية هي صناعة ساعات «بالاشتراك». إذ يستطيع العملاء طلب ساعةٍ موثوقة يومية الاستخدام بلا ميزات إضافية من بريجيه مقابلَ دفع ٢٥٪ من المبلغ مقدمًا؛ ومع ذلك كانت لا تزال مقصورةً على عددٍ محدود من الناس ممَّن يستطيعون تحمُّل تكلفتها، ولكنها أرخص من صناعة الساعة بالطلب. وسمحت هذه الدفعة المقدمة من ثمن الساعة لبريجيه بجمع مبلغٍ كبير من الناس مقدمًا، وصناعة عددٍ كبير من الساعات المُتشابهة، بتكلفةٍ أقل وبطريقة تسلسلية، فصارت ساعاته متوفرةً بسعر معقول لنطاقٍ واسع من العملاء. كان حجم الإنتاج لا يقترب حتى من حجم إنتاج الساعات المُقلَّدة الهولندية سالفة الذكر، ولكنه كان تقدمًا ملحوظًا. فهناك القليل من صناع الساعات المُحترفين على مدار التاريخ، بعد أن حققوا مستوًى عاليًا من الشهرة، تطلَّعوا إلى خفض أسعار ساعاتهم، وليس رفعها. حقَّق نموذج العمل الجديد نجاحًا مبهرًا، إذ باع بريجيه وصنع ما يصل إلى ٧٠٠ ساعة «بالاشتراك» في مطلع القرن.
ظلَّ عملاء بريجيه من النخبة؛ ولكنها النخبة الجديدة. فبينما كان بريجيه يعمل لصالح جورج الثالث في أثناء فترة نفيه الماضية، فهو الآن يصنع الساعات لأصحاب البنوك والمسئولين في الجمهورية الجديدة؛ ولكن أيضًا للطبقة الحاكمة في أرجاء أوروبا مثل ألكسندر الأول قيصر روسيا. حظي بريجيه ببعض الأتباع بين أبناء الطبقة الأرستقراطية الروسية، بل ورد اسمه في رواية «يوجين أونجين» للكاتب الروسي الشهير ألكسندر بوشكين:
كان بريجيه دبلوماسيًّا ذكيًّا، مثلما كان صانع ساعات ماهرًا، يبتكر تحفًا فنية للأصدقاء والأحباء وألد الأعداء على حدٍّ سواء. وكما استطاع الموازنة بدقة بين دوره كصَانع ساعات للملك ودوره كصديقٍ لجان بول مارا، كان يصنع الساعات لكلٍّ من نابليون ودوق ويلينجتون. كان نابليون مأخوذًا بأعماله لدرجة أنه زار مصنعه مُتخفيًا في العديد من المناسبات. وكان آرثر ويليسلي، أول دوقٍ لمدينة ويلينجتون، يمتلك عددًا من ساعات بريجيه، من بينها ساعة على الأقل بخاصية اللمس، مكَّنته من معرفة الوقت بمجرد لمس عُلبة الساعة وهي في جيبه. هذا يعني أن أبراهام لويس بريجيه ربما كان مُوقِّت معركة واترلو بشكلٍ غير رسمي.
عاش بريجيه حياة متواضعة هادئة رغم مُخالطته لأعلى طبقات المجتمع. وقد وُصِف بأنه كان لدَيه «روح شابة» رغم كِبر سنِّه. في السنوات الأخيرة من عُمره، عانى بريجيه من صَممٍ تام، إلا أنه لم ينلْ من بهجته شيئًا. ظلَّ مشروع بريجيه النهائي، ساعة الجيب لماري أنطوانيت، محور تركيزه. وهناك ملحوظة مكتوبة في أغسطس ١٨٣٢ تؤكِّد أن ساعة الملكة كانت لا تزال على طاولة عملِه قبل وفاته بشهرٍ واحد، عن عُمر يناهز ستة وسبعين عامًا. فقد استمرَّ في العمل عليها حتى النهاية. اكتملت الساعة، في نهاية المَطاف، على يدِ ابنه ووريثه أنطوان لويس.
وكما أنه من المُستحيل تأمُّل القرن الثامن عشر بمعزِل عن الثورة الفرنسية — الانتفاضة السياسية التي صدمت القارة الأوروبية صدمة عنيفة — لا يمكن تأمُّل تاريخ الساعات بمعزلٍ عن بريجيه. لقد أنقذَتْه موهبتُه الفطرية جنبًا إلى جنبٍ مع حذاقته السياسية في حقبةٍ من التقلُّب المُستمر. وعلى مدار القرون التالية، دامت شُهرته وساعاته الفريدة، وظهر اسمُه في مجال الأدب في معرضِ التعليق على ذَوق الشخصيات أو أسلوبها أو ثرائها. فقد ذُكر اسمه، على سبيل المثال، في رواية «كونت مونت كريستو» لألكسندر دوماس مرتَين، وأثنى عليه جول فيرن ووليم ثاكري في روايته الشهيرة «سوق الأضاليل». وصف ستندال الروائي الفرنسي ساعات بريجيه أنها قِطَع فنية تفوق في إبداعها جسم الإنسان فقال: «يصنع بريجيه ساعةً لا تعطب لمدة عشرين سنة، لكن هذه الآلة البائسة، أي الجسد الذي نعيش به، يعطب ويُصيبنا بالآلام والأوجاع مرةً واحدة على الأقل في الأسبوع، بينما ذهب فيكتور هوجو للأبعد من ذلك، وأشار إليه في ديوانه الشعري الصادر في عام ١٨٦٥، «أغاني الشوارع والغابات»، ﺑ «الرب بريجيه القدير». إن جعل بريجيه مثل الإله فيه من المُبالغة ما فيه، لكن لا شك في أن ساعاته كانت مثالًا على الدقة والمَنفعة والجمال المُبتكَر.